تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ قَدْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَهُوَ فِي بُسْتَانٍ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا مَاءٌ بَارِدٌ وَيَخَافُ الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ وَالْحَمَّامُ بَعِيدٌ مِنْهُ ; بِحَيْثُ إذَا وَصَلَ إلَى الْحَمَّامِ وَاغْتَسَلَ خَرَجَ الْوَقْتُ . فَهَلْ إذَا تَيَمَّمَ لِلْجَنَابَةِ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى فِي الْوَقْتِ يَلْزَمُهُ إعَادَةٌ ؟ وَهَلْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ ؟ أَوْ يَأْثَمُ إذَا تَيَمَّمَ ؟ . وَهَلْ التَّيَمُّمُ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ ; فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِنَافِلَةِ وَيُصَلِّي بِهَا فَرِيضَةً أَوْ يُصَلِّي فَرِيضَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ بِتَيَمُّمِ وَاحِدٍ ؟ .
12
فَصْلٌ وَأَمَّا التَّيَمُّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ وَلَا يُصَلِّي الْفَرْضَ بِالتَّيَمُّمِ لِلنَّافِلَةِ ; لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَالْحُكْمُ الْمُقَدَّرُ بِالضَّرُورَةِ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِهَا . فَلَا يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَهُ . وَهُوَ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ لَا رَافِعٌ لِلْحَدَثِ ; لِأَنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ اسْتَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ حَدَثٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْحَدَثَ كَانَ بَاقِيًا وَإِنَّمَا أُبِيحَ بِالضَّرُورَةِ . فَلَا يَسْتَبِيحُ إلَّا مَا نَوَاهُ . فَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقِيلَ : بَلْ التَّيَمُّمُ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ مُطْلَقًا يَسْتَبِيحُ بِهِ كَمَا يُسْتَبَاحُ بِالْمَاءِ وَيَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ كَمَا يَتَوَضَّأُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَقْتِ كَمَا تَبْقَى طَهَارَةُ الْمَاءِ بَعْدَهُ . وَإِذَا تَيَمَّمَ لِنَافِلَةِ صَلَّى بِهِ الْفَرِيضَةَ كَمَا أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ لِنَافِلَةِ صَلَّى بِهِ الْفَرِيضَةَ . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ . وَقَالَ أَحْمَد : هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ ; فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ التَّيَمُّمَ مُطَهِّرًا كَمَا جَعَلَ الْمَاءَ مُطَهِّرًا . فَقَالَ تَعَالَى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } الْآيَةَ . فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُطَهِّرَنَا بِالتُّرَابِ كَمَا يُطَهِّرُنَا بِالْمَاءِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِخَمْسِ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَأُحِلَّتْ لَنَا الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي . وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَفِي لَفْظٍ فَأَيُّمَا رَجُلٌ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ مِنْ أُمَّتِي فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً . وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثِ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا } . فَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَرْضَ لِأُمَّتِهِ طَهُورًا كَمَا جَعَلَ الْمَاءَ طَهُورًا . وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدْته الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَك فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورَ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ . فَمَنْ قَالَ إنَّ التُّرَابَ لَا يُطَهِّرُ مِنْ الْحَدَثِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ . وَإِذَا كَانَ مُطَهِّرًا مِنْ الْحَدَثِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْحَدَثُ بَاقِيًا مَعَ أَنَّ اللَّهَ طَهَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّيَمُّمِ مِنْ الْحَدَثِ فَالتَّيَمُّمُ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ مُطَهِّرٌ لِصَاحِبِهِ لَكِنْ رَفْعٌ مُوَقَّتٌ إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ فَهُوَ مُطَهِّرٌ مَا دَامَ الْمَاءُ مُتَعَذِّرًا كَمَا أَنَّ الْمُلْتَقَطَ يَمْلِكُ اللُّقَطَةَ مَا دَامَ لَمْ يَأْتِهِ صَاحِبُهَا وَكَانَ مِلْكُ صَاحِبِهَا مِلْكًا مُوَقَّتًا إلَى ظُهُورِ الْمَالِكِ فَإِنَّهُ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْمَالِكِ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْمُلْتَقِطِ إلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا . وَمَا ثَبَتَ بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ لَا يُطْلَبُ لَهُ نَظِيرٌ يُقَاسُ بِهِ وَإِنَّمَا يُطْلَبُ النَّظِيرُ لِمَا لَا نَعْلَمُهُ إلَّا بِالْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ . فَيَحْتَاجُ أَنْ نَعْتَبِرَهُ بِنَظِيرِ وَأَمَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَلَا نَطْلُبَ لِذَلِكَ نَظِيرًا مَعَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ يُوَافِقُ النَّصَّ . كَمَا قَالَ أَحْمَد الْقِيَاسُ أَنْ تَجْعَلَ التُّرَابَ كَالْمَاءِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ يَتَيَمَّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ إنْ شَاءَ وَيُصَلِّي مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَإِذَا تَيَمَّمَ لِنَفْلِ صَلَّى بِهِ فَرِيضَةً . وَيَجْمَعُ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ وَيَقْضِي بِهِ الْفَائِتَ . وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ احْتَجُّوا بِآثَارِ مَنْقُولَةٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ لَا تَثْبُتُ . وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَلَوْ ثَبَتَتْ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهَا طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ . قِيلَ لَهُ : نَعَمْ وَالْإِنْسَانُ مُحْتَاجٌ أَنْ لَا يَزَالَ عَلَى طَهَارَةٍ فَيَتَطَهَّرُ قَبْلَ الْوَقْتِ ; فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى زِيَادَةِ الثَّوَابِ ; وَلِهَذَا يُصَلِّي النَّافِلَةَ بِالتَّيَمُّمِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَيَمَّمَ لِرَدِّ السَّلَامِ فِي الْحَضَرِ وَقَالَ : { إنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طُهْرٍ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا تَارَةً وَوَاجِبًا أُخْرَى . أَيْ يَتَيَمَّمُ فِي وَقْتٍ لَا يَكُونُ التَّيَمُّمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ وَالتَّيَمُّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ مُسْتَحَبٌّ كَمَا أَنَّ الْوُضُوءَ قَبْلَ الْوَقْتِ مُسْتَحَبٌّ . وَأَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ مَا يَخَافُ فَوْتَهُ كَالْجِنَازَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَخَافُ فَوْتَهُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ كَمَا أَنَّ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ تَفْوِيتِهِ وَلِهَذَا يَتَيَمَّمُ لِلتَّطَوُّعِ مَنْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ فِي اللَّيْلِ يُصَلِّيهِ وَقَدْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَالْمَاءُ بَارِدٌ يَضُرُّهُ فَإِذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى التَّطَوُّعَ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ بِالتَّيَمُّمِ كَانَ خَيْرًا مِنْ تَفْوِيتِ ذَلِكَ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ حُكْمٌ مُقَيَّدٌ بِالضَّرُورَةِ . فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا . إنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ لَا يُفْعَلَ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَاءِ فَهُوَ مُسْلِمٌ . وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إلَّا إذَا كَانَ التَّيَمُّمُ وَاجِبًا فَقَدْ غَلِطَ . فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ وَخِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَتَيَمَّمُ لِلْوَاجِبِ وَيَتَيَمَّمُ لِلْمُسْتَحَبِّ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ الْمُسْتَحَبِّ . وَاَللَّهُ قَدْ جَعَلَهُ طَهُورًا لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَرَادَ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ حَرَجًا . كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ . أَثْبَتُوا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَلَا يَجِبُ فِيهِ تَرْتِيبُ ; بَلْ إذَا مَسَحَ وَجْهَهُ بِبَاطِنِ رَاحَتَيْهِ أَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْ الْوَجْهِ وَالرَّاحَتَيْنِ ثُمَّ يَمْسَحُ ظُهُورَ الْكَفَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَمْسَحَ رَاحَتَيْهِ مَرَّتَيْنِ وَعَلَى هَذَا دَلَّتْ السُّنَّةُ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .