تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ وَأَمَّا طِينُ الشَّوَارِعِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ : وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ ثُمَّ ذَهَبَتْ بِالرِّيحِ أَوْ الشَّمْسِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . هَلْ تَطْهُرُ الْأَرْضُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْفُقَهَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَطْهُرُ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ : وَلَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُصَلَّى عَلَيْهَا وَلَا يُتَيَمَّمُ بِهَا . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُتَيَمَّمُ بِهَا وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { أَنَّ الْكِلَابَ كَانَتْ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ } وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَوَجَبَ غَسْلُ ذَلِكَ . وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ { أَمَرَهُمْ أَنْ يَصُبُّوا عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ } فَإِنَّ هَذَا يَحْصُلُ بِهِ تَعْجِيلُ تَطْهِيرِ الْأَرْضِ وَهَذَا مَقْصُودٌ ; بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُصَبَّ الْمَاءُ فَإِنَّ النَّجَاسَةَ تَبْقَى إلَى أَنْ تَسْتَحِيلَ . وَأَيْضًا فَفِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَ بِهَا أَذًى فَلْيُدَلِّكْهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ } وَفِي السُّنَنِ أَيْضًا : { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَجُرُّ ذَيْلَهَا عَلَى الْمَكَانِ الْقَذِرِ ثُمَّ عَلَى الْمَكَانِ الطَّاهِرِ فَقَالَ : يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ } وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى الْأَخْذِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الثَّانِي وَنَصَّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ عَلَى الْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَ التُّرَابَ يُطَهِّرُ أَسْفَلَ النَّعْلِ وَأَسْفَلَ الذَّيْلِ وَسَمَّاهُ طَهُورًا : فَلَأَنْ يُطَهِّرَ نَفْسَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . فَالنَّجَاسَةُ إذَا اسْتَحَالَتْ فِي التُّرَابِ فَصَارَتْ تُرَابًا لَمْ يَبْقَ نَجَاسَةً . وَأَيْضًا فَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا اسْتَحَالَتْ حَقِيقَةُ النَّجَاسَةِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إذَا انْقَلَبَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ بِدُونِ قَصْدِ صَاحِبِهَا وَصَارَتْ خَلًّا أَنَّهَا تَطْهُرُ . وَلَهُمْ فِيهَا إذَا قَصَدَ التَّخْلِيلَ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ تَخْلِيلَهَا لَا تَطْهُرُ بِحَالِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَا صَحَّ مِنْ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَخْلِيلِهَا وَلِأَنَّ حَبْسَهَا مَعْصِيَةٌ وَالطَّهَارَةُ نِعْمَةٌ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلنِّعْمَةِ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا صَارَتْ النَّجَاسَةُ مِلْحًا فِي الْمَلَّاحَةِ أَوْ صَارَتْ رَمَادًا أَوْ صَارَتْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَالصَّدِيدُ تُرَابًا : كَتُرَابِ الْمَقْبَرَةِ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَجِسٌ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ طَاهِرٌ إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِ النَّجَاسَةِ لَا طَعْمُهَا وَلَا لَوْنُهَا وَلَا رِيحُهَا ; لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ وَذَلِكَ يَتْبَعُ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ وَحَقَائِقَهَا فَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ مِلْحًا أَوْ خَلًّا دَخَلَتْ فِي الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ وَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْخَبَائِثِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَكَذَلِكَ التُّرَابُ وَالرَّمَادُ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِي نُصُوصِ التَّحْرِيمِ . وَإِذَا لَمْ تَتَنَاوَلْهَا أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ . لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى لَمْ يَجُزْ الْقَوْلُ بِتَنْجِيسِهِ وَتَحْرِيمِهِ فَيَكُونُ طَاهِرًا وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي غَيْرِ التُّرَابِ فَالتُّرَابُ أَوْلَى بِذَلِكَ . وَحِينَئِذٍ فَطِينُ الشَّوَارِعِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ بِهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فَهُوَ طَاهِرٌ وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِيهِ فَهَذَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ : فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَانَ أَحَدُهُمْ يَخُوضُ فِي الْوَحْلِ ثُمَّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّي وَلَا يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ حَكَاهُ مَالِكٌ عَنْهُمْ مُطْلَقًا وَذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الطِّينِ عَذِرَةٌ مُنْبَثَّةٌ لَعُفِيَ عَنْ ذَلِكَ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ طِينِ الشَّوَارِعِ مَعَ تَيَقُّنِ نَجَاسَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .