وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْفَخَّارِ فَإِنَّهُ يُشْوَى بِالنَّجَاسَةِ فَمَا حُكْمُهُ ؟ وَالْأَفْرَانُ الَّتِي تُسَخَّنُ بِالزِّبْلِ فَمَا حُكْمُهَا ؟ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا السِّرْقِينُ النَّجِسُ وَنَحْوُهُ فِي الْوَقُودِ لِيُسَخِّنَ الْمَاءَ أَوْ الطَّعَامَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُلَابَسَةَ النَّجَاسَةِ وَمُبَاشَرَتَهَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ لِأَنَّ إتْلَافَ النَّجَاسَةِ لَا يَحْرُمُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَظِنَّةُ التَّلَوُّثِ بِهَا . وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ فَإِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ بِالْإِتْلَافِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ الْمَنْعُ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التَّلَوُّثِ بِهِ وَلِكَرَاهَةِ دُخَّانِ النَّجَاسَةِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَبَائِثَ مِنْ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا } . ثُمَّ إنَّهُ حَرَّمَ لُبْسَهَا قَبْلَ الدِّبَاغِ . وَهَذَا وَجْهٌ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عكيم : { كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابِ وَلَا عَصَبٍ } فَإِنَّ الرُّخْصَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانَتْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْجُلُودِ بِلَا دِبَاغٍ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فَرَفَعَ النَّهْيَ عَمَّا أَرْخَصَ فَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ قَطُّ وَلِهَذَا كَانَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد : أَنَّ الدِّبَاغَ مُطَهِّرٌ لِجُلُودِ الْمَيْتَةِ : لَكِنْ هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الذَّكَاةِ أَوْ مَقَامَ الْحَيَاةِ فَيُطَهِّرُ جِلْدَ الْمَأْكُولِ أَوْ جِلْدَ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ دُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ . فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ مَا تُطَهِّرُهُ الذَّكَاةُ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَمْرِ فِي إطْفَاءِ الْحَرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَلَّمَهُ الْمُنَازِعُونَ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ بِمُجَانَبَةِ الْخَمْرِ أَعْظَمُ فَإِذَا جَازَ إتْلَافُ الْخَمْرِ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَإِتْلَافُ النَّجَاسَاتِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَوْلَى ; وَلِأَنَّهُمْ سَلَّمُوا جَوَازَ طَعَامِ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ فَاسْتِعْمَالُهَا فِي النَّارِ أَوْلَى . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : هَذَا مَظِنَّةُ مُلَابَسَتِهَا فَيُقَالُ : مُلَابَسَةُ النَّجَاسَةِ لِلْحَاجَةِ جَائِزٌ إذَا طَهَّرَ بَدَنَهُ وَثِيَابَهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا . كَمَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ مَعَ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : يُكْرَهُ ذَلِكَ . بَلْ يُسْتَعْمَلُ الْحَجَرُ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا . وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَاءِ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُبَاشَرَتُهَا . وَفِي اسْتِعْمَالِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا لَمْ يَقُلْ بِطَهَارَتِهَا فِي الْيَابِسَاتِ رِوَايَتَانِ : أَصَحُّهُمَا جَوَازُ ذَلِكَ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ يُكْرَهُ فَالْكَرَاهَةُ تَزُولُ بِالْحَاجَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : هَذَا يُفْضِي إلَى التَّلَوُّثِ بِدُخَّانِ النَّجَاسَةِ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْمَلَّاحَةِ إذَا صَارَتْ مِلْحًا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَلْ هِيَ نَجِسَةٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْخِنْزِيرِ الْمَشْوِيِّ فِي التَّنُّورِ هَلْ تُطَهِّرُ النَّارُ مَا لَصِقَ بِهِ أَمْ يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا هِيَ نَجِسَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَد وَأَحَدُ قَوْلَيْ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : لَا يَطْهُرُ مِنْ النَّجَاسَةِ بِالِاسْتِحَالَةِ إلَّا الْخَمْرَةُ الْمُنْتَقِلَةُ بِنَفْسِهَا وَالْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ إذَا قِيلَ إنَّ الدَّبْغَ إحَالَةٌ لَا إزَالَةٌ . ( وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهَا لَا تَبْقَى نَجِسَةً . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا نَصُّ التَّحْرِيمِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى النُّصُوصِ بَلْ هِيَ أَعْيَانٌ طَيِّبَةٌ فَيَتَنَاوَلُهَا نَصُّ التَّحْلِيلِ وَهِيَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْخَمْرِ الْمُنْقَلِبَةِ بِنَفْسِهَا وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفَرْقِ بِأَنَّ الْخَمْرَ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ بَاطِلٌ ; فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ إنَّمَا نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ : كَالدَّمِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الْغِذَاءِ الطَّاهِرِ وَكَذَلِكَ الْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ حَتَّى الْحَيَوَانُ النَّجِسُ مُسْتَحِيلٌ عَنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الطَّاهِرَاتِ . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَإِنَّ نَفْسَ النَّجِسِ لَمْ يَطْهُرْ لَكِنْ اسْتَحَالَ وَهَذَا الطَّاهِرُ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ النَّجِسَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلًا مِنْهُ وَالْمَادَّةُ وَاحِدَةٌ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ هُوَ الزَّرْعَ وَالْهَوَاءَ وَالْحَبَّ وَتُرَابُ الْمَقْبَرَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَيِّتَ وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ هُوَ الْمَنِيَّ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ أَجْسَامَ الْعَالَمِ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ وَيُحِيلُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَهِيَ تُبَدَّلُ مَعَ الْحَقَائِقِ لَيْسَ هَذَا هَذَا . فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّمَادُ هُوَ الْعَظْمَ الْمَيِّتَ وَاللَّحْمَ وَالدَّمَ نَفْسَهُ . بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْعَظْمِ . وَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ هُوَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَالْمَادَّةِ فَهَذَا لَا يَضُرُّ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَتْبَعُ الِاسْمَ وَالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْخَبَثُ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ . وَعَلَى هَذَا فَدُخَانُ النَّارِ الْمُوقَدَةِ بِالنَّجَاسَةِ طَاهِرٌ وَبُخَارُ الْمَاءِ النَّجِسِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِي السَّقْفِ طَاهِرٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْفَخَّارُ طَاهِرٌ إذْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ شَيْءٌ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ خَالَطَهُ مِنْ دُخَانِهَا خَرَجَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ طَاهِرٌ . وَأَمَّا نَفْسُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَالنِّزَاعُ فِي الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ ; لَكِنْ هَلْ يُكْرَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ : هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . إحْدَاهُمَا : لَا يُكْرَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي يُكْرَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَلِلْكَرَاهَةِ مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا : خَشْيَةُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَصَلَ إلَى الْمَاءِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ فَيُكْرَهُ لِاحْتِمَالِ تَنَجُّسِهِ فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْمَوْقِدِ وَبَيْنَ النَّارِ حَاجِزٌ حَصِينٌ لَمْ يُكْرَهْ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا . وَالثَّانِي : أَنَّ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ كَوْنُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ مَكْرُوهًا وَأَنَّ السُّخُونَةَ حَصَلَتْ بِفِعْلِ مَكْرُوهٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَمِثْلُ هَذَا طَبْخُ الطَّعَامِ بِالْوَقُودِ النَّجِسِ فَإِنْ نَضِجَ الطَّعَامُ كَسُخُونَةِ الْمَاءِ وَالْكَرَاهَةِ فِي طَبْخِ الْفَخَّارِ بِالْوَقُودِ النَّجِسِ تُشْبِهُ تَسْخِينَ الْمَاءِ الَّذِي لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ حَاجِزٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .