وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا يَشْتَبِهُ عَلَى الطَّالِبِ لِلْعِبَادَةِ مِنْ جِهَةِ الْأَفْضَلِيَّةِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي أَذْكُرُهَا : وَهِيَ أَيُّمَا أَفْضَلُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ تَرْكُ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ أَوْ الْجَهْرِ بِهَا ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ أَمْ تَرْكُهُ أَمْ فِعْلُهُ أَحْيَانًا بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ ؟ وَكَذَلِكَ فِي الْوِتْرِ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ طُولُ الصَّلَاةِ وَمُنَاسَبَةُ أَبْعَاضِهَا فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ أَوْ تَخْفِيفِهَا بِحَسَبِ مَا اعْتَادُوهُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ مَعَ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ مُدَاوَمَةُ الْجَمْعِ أَمْ فِعْلُهُ أَحْيَانًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ ؟ وَهَلْ قِيَامُ اللَّيْلِ كُلِّهِ بِدْعَةٌ أَمْ سُنَّةٌ أَمْ قِيَامُ بَعْضِهِ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِهِ كُلِّهِ ؟ وَكَذَلِكَ سَرْدُ الصَّوْمِ أَفْضَلُ أَمْ صَوْمُ بَعْضِ الْأَيَّامِ وَإِفْطَارُ بَعْضِهَا ؟ وَفِي الْمُوَاصَلَةِ أَيْضًا ؟ وَهَلْ لُبْسُ الْخَشِنِ وَأَكْلُهُ دَائِمًا أَفْضَلُ أَمْ لَا ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ فِعْلُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ فِي السَّفَرِ أَمْ تَرْكُهَا ؟ أَمْ فِعْلُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ . وَكَذَلِكَ التَّطَوُّعُ بِالنَّوَافِلِ فِي السَّفَرِ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَمْ الْفِطْرُ ؟ وَإِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ لِمَرَضِ أَوْ يُخَافُ مِنْهُ الضَّرَرُ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَهَلْ يَتَيَمَّمُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَقُومُ التَّيَمُّمُ مَقَامَ الْوُضُوءِ فِيمَا ذُكِرَ أَمْ لَا ؟ وَأَيُّمَا أَفْضَلُ فِي إغْمَاءِ هِلَالِ رَمَضَانَ الصَّوْمُ أَمْ الْفِطْرُ ؟ أَمْ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ؟ أَمْ يُسْتَحَبُّ فِعْلُ أَحَدِهِمَا ؟ وَهَلْ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ هَلْ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ سُنَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ ؟ أَمْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَرَاتِبِ وَالرَّاتِبَيْنِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ التَّمَتُّعُ وَالْإِفْرَادُ وَالْقِرَانُ فِي الْحَجِّ . فَإِنَّ مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ جَوَازُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا التَّمَتُّعُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالشِّيعَةِ وَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُتْعَةِ وَيُعَاقِبُونَ مَنْ تَمَتَّعَ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي حَجَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَمَتَّعَ فِيهِ أَوْ أَفْرَدَ أَوْ قَرَنَ ؟ وَتَنَازَعُوا أَيُّ الثَّلَاثَةِ أَفْضَلُ ؟ فَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد تَظُنُّ أَنَّهُ تَمَتَّعَ تَمَتُّعًا حَلَّ فِيهِ مِنْ إحْرَامِهِ . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تَظُنُّ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ حَتَّى طَافَ وَسَعَى لِلْعُمْرَةِ . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ تَظُنُّ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَاعْتَمَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ تَظُنُّ أَنَّهُ قَرَنَ قِرَانًا طَافَ فِيهِ طَوَافَيْنِ وَسَعَى فِيهِ سعيين . وَطَائِفَةٌ تَظُنُّ أَنَّهُ أَحْرَمَ مُطْلَقًا . وَكُلُّ ذَلِكَ خَطَأٌ لَمْ تَرْوِهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَلْ عَامَّةُ رِوَايَاتِ الصَّحَابَةِ مُتَّفِقَةٌ وَمَنْ نَسَبَهُمْ إلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ فَلِعَدَمِ فَهْمِهِ أَحْكَامَهُمْ ; فَإِنَّ الصَّحَابَةَ نَقَلُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ هَكَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَأَنَّهُ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا كَمَا نَقَلُوا أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ بَلْ لَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَ الْحَجِّ إلَّا عَائِشَةُ ; لِأَجْلِ حَيْضَتِهَا . وَلَفْظُ " الْمُتَمَتِّعِ " فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ اسْمٌ لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ سَوَاءٌ أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ أَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ تَحَلُّلِهِ مِنْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ الْخَاصُّ فِي عُرْفِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ قَضَاءِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا لِكَوْنِهِ سَاقَ الْهَدْيَ أَوْ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَسُقْهُ وَهَذَا قَدْ يُسَمُّونَهُ مُتَمَتِّعًا التَّمَتُّعَ الْخَاصَّ وَقَارِنًا . وَقَدْ يَقُولُونَ لَا يَدْخُلُ فِي التَّمَتُّعِ الْخَاصِّ بَلْ هُوَ قَارِنٌ . وَمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ الْقِرَانَ يُسَمُّونَهُ تَمَتُّعًا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ ; وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَلُوا أَنَّهُ تَمَتَّعَ نَقَلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ فَإِنَّهُ أَفْرَدَ أَعْمَالَ الْحَجِّ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ لِأَجْلِ سَوْقِهِ الْهَدْيَ فَهُوَ لَمْ يَتَمَتَّعْ مُتْعَةً حَلَّ فِيهَا مِنْ إحْرَامِهِ : فَلِهَذَا صَارَ كَالْمُفْرِدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَأَمَّا الْأَفْضَلُ لِمَنْ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ : فَالتَّحَلُّلُ مِنْ إحْرَامِهِ بِعُمْرَةِ أَفْضَلُ لَهُ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَإِنَّهُ أَمَرَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ بِالتَّمَتُّعِ وَمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ لَهُ أَفْضَلُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي سَفْرَةٍ وَحَجَّ فِي سَفْرَةٍ أَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَقَامَ حَتَّى يَحُجَّ فَهَذَا الْإِفْرَادُ لَا أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ