وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ النَّحْنَحَةِ وَالسُّعَالِ وَالنَّفْخِ وَالْأَنِينِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ : فَهَلْ تَبْطُلُ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ الَّذِي تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ مِنْ هَذَا أَوْ غَيْرِهِ ؟ وَفِي أَيِّ مَذْهَبٍ ؟ وأيش الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ } . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَمِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } قَالَ : زَيْدُ بْنُ أَرْقَم فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ : عَلَى أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا وَهُوَ لَا يُرِيدُ إصْلَاحَ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهَا أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ وَالْعَامِدُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ وَأَنَّ الْكَلَامَ مُحَرَّمٌ . ( قُلْت وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّاسِي وَالْجَاهِلِ وَالْمُكْرَهِ وَالْمُتَكَلِّمِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ . إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَاللَّفْظُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ . ( أَحَدُهَا أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا مَعَ لَفْظٍ غَيْرِهِ كَفِي وَعَنْ فَهَذَا الْكَلَامُ مِثْلُ : يَدٍ وَدَمٍ وَفَمٍ وَخَدٍّ . ( الثَّانِي أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى بِالطَّبْعِ كَالتَّأَوُّهِ وَالْأَنِينِ وَالْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . ( الثَّالِثُ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى لَا بِالطَّبْعِ وَلَا بِالْوَضْعِ كَالنَّحْنَحَةِ فَهَذَا الْقِسْمُ كَانَ أَحْمَد يَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِ وَذَكَرَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالنَّحْنَحَةِ . فَإِنْ قُلْنَا : تَبْطُلُ فَفَعَلَ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ فَوَجْهَانِ . فَصَارَتْ الْأَقْوَالُ فِيهَا ثَلَاثَةً : ( أَحَدُهَا أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِحَالِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ; بَلْ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ . ( وَالثَّانِي تَبْطُلُ بِكُلِّ حَالٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ . ( وَالثَّالِثُ إنْ فَعَلَهُ لِعُذْرِ لَمْ تَبْطُلْ وَإِلَّا بَطَلَتْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا وَقَالُوا : إنْ فَعَلَهُ لِتَحْسِينِ الصَّوْتِ وَإِصْلَاحِهِ لَمْ تَبْطُلْ قَالُوا : لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ كَثِيرًا فَرَخَّصَ فِيهِ لِلْحَاجَةِ . وَمَنْ أَبْطَلَهَا قَالَ : إنَّهُ يَتَضَمَّنُ حَرْفَيْنِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ الْقَهْقَهَةَ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ . وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا حَرَّمَ التَّكَلُّمَ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ : { إنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ الْكَلَامَ . وَالنَّحْنَحَةَ لَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ أَصْلًا فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ بِنَفْسِهَا وَلَا مَعَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعْنًى وَلَا يُسَمَّى فَاعِلُهَا مُتَكَلِّمًا وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مُرَادُهُ بِقَرِينَةٍ فَصَارَتْ كَالْإِشَارَةِ .