تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا . هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَمْ لَا ؟ وَالْأَئِمَّةُ الْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ; كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ والأوزاعي قَدْ قَالَ عَنْهُمْ رَجُلٌ أَعْنِي عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ هَؤُلَاءِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ فَصَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ مَا حُكْمُهُ ؟ وَهَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ لِمَنْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ ؟ كَمَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
1
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُصَلِّيَ خَلْفَ الصَّفِّ بِالْإِعَادَةِ وَقَالَ : { لَا صَلَاةَ لِفَذِّ خَلْفَ الصَّفِّ } وَقَدْ صَحَّحَ الْحَدِيثَيْنِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَأَسَانِيدُهُمَا مِمَّا تَقُومُ بِهِمَا الْحُجَّةُ ; بَلْ الْمُخَالِفُونَ لَهُمَا يَعْتَمِدُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ عَلَى مَا هُوَ أَضْعَفُ إسْنَادًا مِنْهُمَا وَلَيْسَ فِيهِمَا مَا يُخَالِفُ الْأُصُولَ بَلْ مَا فِيهِمَا هُوَ مُقْتَضَى النُّصُوصِ الْمَشْهُورَةِ وَالْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ فَإِنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ سُمِّيَتْ جَمَاعَةً لِاجْتِمَاعِ الْمُصَلِّينَ فِي الْفِعْلِ مَكَانًا وَزَمَانًا فَإِذَا أَخَلُّوا بِالِاجْتِمَاعِ الْمَكَانِيِّ أَوْ الزَّمَانِيِّ مِثْلَ أَنْ يَتَقَدَّمُوا أَوْ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ تَخَلُّفًا كَثِيرًا لِغَيْرِ عُذْرٍ كَانَ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا مُفْتَرِقِينَ غَيْرَ مُنْتَظِمِينَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَلْفَ هَذَا وَهَذَا خَلْفَ هَذَا كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ بَلْ قَدْ أُمِرُوا بِالِاصْطِفَافِ بَلْ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْوِيمِ الصُّفُوفِ وَتَعْدِيلِهَا وَتَرَاصِّ الصُّفُوفِ وَسَدِّ الْخَلَلِ وَسَدِّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيقِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاصْطِفَافُ وَاجِبًا لَجَازَ أَنْ يَقِفَ وَاحِدٌ خَلْفَ وَاحِدٍ وَهَلُمَّ جَرَّا . وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ عِلْمًا عَامًّا أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ لَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَوْ مَرَّةً بَلْ وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلُوا الصَّفَّ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ : مِثْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ هَذَا عَلَى هَذَا وَيَتَأَخَّرَ هَذَا عَنْ هَذَا لَكَانَ ذَلِكَ شَيْئًا قَدْ عُلِمَ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ بَلْ إذَا صَلَّوْا قُدَّامَ الْإِمَامِ كَانَ أَحْسَنَ مِنْ مِثْلِ هَذَا . فَإِذَا كَانَ الْجُمْهُورُ لَا يُصَحِّحُونَ الصَّلَاةَ قُدَّامَ الْإِمَامِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَكَيْفَ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِ الِاصْطِفَافِ . فَقِيَاسُ الْأُصُولِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاصْطِفَافِ وَأَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ لَا تَصِحُّ كَمَا جَاءَ بِهِ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ هَذِهِ السُّنَّةُ مِنْ وَجْهٍ يَثِقُ بِهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ لَمْ يَسْمَعْهَا وَقَدْ يَكُونُ ظَنَّ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ . وَاَلَّذِينَ عَارَضُوهُ احْتَجُّوا بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ مُنْفَرِدَةً كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ أَنَسًا وَالْيَتِيمَ صُفَّا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُفَّتْ الْعَجُوزُ خَلْفَهُمَا } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ وُقُوفِهَا مُنْفَرِدَةً إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْجَمَاعَةِ امْرَأَةٌ غَيْرَهَا كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِوُقُوفِ الْإِمَامِ مُنْفَرِدًا . وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ لَمَّا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّفِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ } . وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَا تُقَاوِمُ حُجَّةَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا أَنَّ وُقُوفَ الْمَرْأَةِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا وَلَوْ وَقَفَتْ فِي صَفِّ الرِّجَالِ لَكَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا . وَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ يُحَاذِيهَا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . ( أَحَدُهُمَا تَبْطُلُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي حَفْصٍ . مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . ( وَالثَّانِي لَا تَبْطُلُ . كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مَعَ تَنَازُعِهِمْ فِي الرَّجُلِ الْوَاقِفِ مَعَهَا : هَلْ يَكُونُ فَذًّا أَمْ لَا ؟ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد بُطْلَانُ صَلَاةِ مَنْ يَلِيهَا فِي الْمَوْقِفِ . وَأَمَّا وُقُوفُ الرَّجُلِ وَحْدَهُ خَلْفَ الصَّفِّ فَمَكْرُوهٌ وَتَرْكٌ لِلسُّنَّةِ بِاتِّفَاقِهِمْ فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمَنْهِيُّ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَكَذَلِكَ وُقُوفُ الْإِمَامِ أَمَامَ الصَّفِّ هُوَ السُّنَّةُ . فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمَأْمُورُ بِهِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ إنَّمَا هُوَ قِيَاسُ الْمَسْكُوتِ عَلَى الْمَنْصُوصِ أَمَّا قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى مَنْصُوصٍ يُخَالِفُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَقِيَاسِ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا . ( وَالثَّانِي أَنَّ الْمَرْأَةَ وَقَفَتْ خَلْفَ الصَّفِّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْ تُصَافُّهُ وَلَمْ يُمْكِنْهَا مُصَافَّةَ الرِّجَالِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مَعَهَا فِي الصَّلَاةِ امْرَأَةٌ لَكَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تَقُومَ مَعَهَا وَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّجُلِ الْمُنْفَرِدِ عَنْ صَفِّ الرِّجَالِ . وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَجِدَ الرَّجُلُ مَوْقِفًا إلَّا خَلْفَ الصَّفِّ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُبْطِلِينَ لِصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَإِلَّا ظَهَرَ صِحَّةُ صَلَاتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ جَمِيعَ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ . وَطَرْدُ هَذَا صِحَّةُ صَلَاةِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْإِمَامِ لِلْحَاجَةِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَإِذَا كَانَ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَإِتْمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ فَكَذَلِكَ الِاصْطِفَافُ وَتَرْكُ التَّقَدُّمِ . وَطَرَدَ هَذَا بَقِيَّةَ مَسَائِلِ الصُّفُوفِ كَمَسْأَلَةِ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَرَ الْإِمَامَ وَلَا مَنْ وَرَاءَهُ [ مَعَ ] سَمَاعِهِ لِلتَّكْبِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَإِنَّمَا قُدِّمَ لِيَرَاهُ الْمَأْمُومُونَ فَيَأْتَمُّونَ بِهِ وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي الْمَأْمُومِ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ مِنْ الِاصْطِفَافِ الْمَأْمُورَ بِهِ مَا يَكُونُ بِهِ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقِفَ وَحْدَهُ ثُمَّ يَجِيءُ آخَرُ فَيُصَافُّهُ فِي الْقِيَامِ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فِيهِ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ : " وَلَا تَعُدْ " وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الرَّكْعَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْفَذِّ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ وَهَذَا مُبَيَّنٌ مُفَسَّرٌ وَذَلِكَ مُجْمَلٌ حَتَّى لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ بِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّفِّ بَعْدَ اعْتِدَالِ الْإِمَامِ كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ لَكَانَ سَائِغًا فِي مِثْلِ هَذَا دُونَ مَا أَمَرَ فِيهِ بِالْإِعَادَةِ فَهَذَا لَهُ وَجْهٌ وَهَذَا لَهُ وَجْهٌ . وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ كَقَوْلِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَلَا يَسُوغُ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ الْمُنْفَرِدَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالنَّهْيِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ كَمَا أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ بِالْإِعَادَةِ . وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الْمَذْكُورُونَ : فَمِنْ سَادَاتِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَجَلُّ مِنْ أَقْرَانِهِ : كَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ بْنِ حَيٍّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَلَهُ مَذْهَبٌ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ بِأَرْضِ خُرَاسَانَ . والأوزاعي إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ وَمَا زَالُوا عَلَى مَذْهَبِهِ إلَى الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ بَلْ أَهْلُ الْمَغْرِبِ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إلَيْهِمْ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ : هُوَ شَيْخُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وَغَيْرِهِمَا وَمَذْهَبُهُ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ داود بْنِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ وَمَذْهَبُهُمْ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ فَلَمْ يَجْمَعْ النَّاسُ الْيَوْمَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ ; بَلْ الْقَائِلُونَ بِهِ كَثِيرٌ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ . وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْقٌ فِي الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بَيْنَ شَخْصٍ وَشَخْصٍ فَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ والأوزاعي وَالثَّوْرِيُّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ فِي زَمَانِهِمْ وَتَقْلِيدُ كُلٍّ مِنْهُمْ كَتَقْلِيدِ الْآخَرِ لَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ هَذَا دُونَ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَقْلِيدِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّمَا نَمْنَعُهُ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَعْرِفُ مَذَاهِبَهُمْ وَتَقْلِيدُ الْمَيِّتِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فَمَنْ مَنَعَهُ قَالَ : هَؤُلَاءِ مَوْتَى وَمَنْ سَوَّغَهُ قَالَ : لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْيَاءِ مَنْ يَعْرِفُ قَوْلَ الْمَيِّتِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ الْإِجْمَاعُ الْيَوْمَ قَدْ انْعَقَدَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ . وَيَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى مَسْأَلَةٍ مَعْرُوفَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهِيَ : أَنَّ الصَّحَابَةَ مَثَلًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ أَوْ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِهِمَا فَهَلْ يَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا يَرْفَعُ ذَلِكَ الْخِلَافَ ؟ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَمَنْ قَالَ : إنَّ مَعَ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي لَا يَسُوغُ الْأَخْذُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ وَاعْتَقَدَ أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ يُرَكِّبُ مِنْ هَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ الْمَنْعَ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخِلَافَ الْقَدِيمَ حُكْمُهُ بَاقٍ ; لِأَنَّ الْأَقْوَالَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ قَائِلِيهَا فَإِنَّهُ يَسُوغُ الذَّهَابَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لِلْمُجْتَهِدِ الَّذِي وَافَقَ اجْتِهَادَهُ . وَأَمَّا التَّقْلِيدُ فَيَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ أَوْ غَيْرُهُمْ قَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَاقِيَةُ مَذَاهِبُهُمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُ مُؤَيَّدٌ بِمُوَافَقَةِ هَؤُلَاءِ وَيَعْتَضِدُ بِهِ وَيُقَابِلُ بِهَؤُلَاءِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ . فَيُقَابِلُ بِالثَّوْرِيِّ والأوزاعي أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا إذْ الْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ مَالِكٌ والأوزاعي وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَجُزْ أَنَّ يُقَالَ قَوْلُ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ دُونَ هَذَا إلَّا بِحُجَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .