وَسُئِلَ هَلْ التَّكْبِيرُ يَجِبُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ أَكْثَرُ مِنْ عِيدِ الْأَضْحَى ؟ بَيِّنُوا لَنَا مَأْجُورِينَ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فَصْلٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وَ " اللَّامُ " إمَّا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَذْكُورِ : أَيْ { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } . . . { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } . كَمَا قَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } . أَوْ بِمَحْذُوفِ : أَيْ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ شَرَعَ ذَلِكَ . وَهَذَا أَشْهَرُ لِأَنَّهُ قَالَ : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فَيَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ وَيُرِيدُ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَفِيهِ وَهْنٌ . لَكِنْ يُحْتَجُّ لِلْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فَإِنَّ آيَةَ الصِّيَامِ وَآيَةَ الطَّهَارَةِ مُتَنَاسِبَتَانِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَقَوْلُهُ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } وَقَوْلِهِ : { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } كَقَوْلِهِ : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ شَرْعًا : التَّكْبِيرَ عَلَى مَا هَدَانَا وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : كَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ هُوَ التَّكْبِيرُ تَكْبِيرُ الْعِيدِ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ مَخْصُوصَةٌ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ وَلَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِي التَّكْبِيرِ صَلَاةُ الْعِيدِ كَمَا سُمِّيَتْ الصَّلَاةُ تَسْبِيحًا وَقِيَامًا وَسُجُودًا وَقُرْآنًا وَكَمَا أُدْخِلَتْ صَلَاتَا الْجَمْعِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وَأُرِيدَ الْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ بِقَوْلِهِ : { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وَيَكُونُ لِأَجْلِ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا سُمِّيَتْ تَكْبِيرًا خُصَّتْ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ لَمَّا سُمِّيَتْ قُرْآنًا خُصَّتْ بِقُرْآنٍ زَائِدٍ وَجَعَلَ طُولَ الْقِرَاءَةِ فِيهَا عِوَضًا عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ . وَكَذَلِكَ " صَلَاةُ اللَّيْلِ " لَمَّا سُمِّيَتْ قِيَامًا بِقَوْلِهِ : { قُمِ اللَّيْلَ } خُصَّتْ بِطُولِ الْقِيَامِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيلُ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ بِاللَّيْلِ مَا لَا يُطِيلُهُ بِالنَّهَارِ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إنَّ التَّطْوِيلَ بِاللَّيْلِ أَفْضَلُ وَإِنَّ تَكْثِيرَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِالنَّهَارِ أَفْضَلُ . وَكَانَ التَّكْبِيرُ أَيْضًا مَشْرُوعًا فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ زِيَادَةً عَلَى الْخُطَبِ الجمعية وَكَانَ التَّكْبِيرُ أَيْضًا مَشْرُوعًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ حِينِ إهْلَالِ الْعِيدِ إلَى انْقِضَاءِ الْعِيدِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ ; لَكِنْ هَلْ يَقْطَعُهُ الْمُؤْتَمُّ إذَا شَهِدَ الْمُصَلَّى لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بَعْدَ ذَلِكَ بِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ ؟ أَوْ يَقْطَعُهُ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ لِلِاشْتِغَالِ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ أَوْ لَا يَقْطَعُهُ إلَى انْقِضَاءِ الْخُطْبَةِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إلَى آخِرِ الْعِيدِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْحَجِّ { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } فَقِيلَ : الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ . هِيَ أَيَّامُ الذَّبْحِ وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ التَّسْمِيَةُ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ . وَقِيلَ : هِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . ثُمَّ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ فِيهَا هُوَ ذِكْرُهُ فِي الْعَشْرِ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَنَا وَقِيلَ هُوَ ذِكْرُهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهَدْيِ وَأَظُنُّهُ مَأْثُورًا عَنْ الشَّافِعِيِّ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَخْرُجَانِ إلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ فَيُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا غَدَاةَ عَرَفَةَ وَهُمْ ذَاهِبُونَ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَةَ يُكَبِّرُ مِنْهُمْ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُلَبِّي الْمُلَبِّي فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَفِي أَمْثِلَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ . } وَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ كَقَوْلِهِ { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وَكَقَوْلِهِ : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } وَكَقَوْلِهِ : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } . وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ( مَا مَوْصُولَةٌ لَا مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى عَلَى الَّذِي رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } وَعَلَى قَوْلِنَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا وَقْتَ الذَّبْحِ وَوَقْتَ السَّوْقِ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَهَا وَبِالتَّكْبِيرِ . يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مُجَرَّدَ التَّسْمِيَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْأُضْحِيَّةِ بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ فَإِنَّ اسْمَهُ مَذْكُورٌ عِنْدَ كُلِّ ذَبْحٍ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَمَا وَجَبَ فِيهَا وَجَبَ فِي غَيْرِهَا وَمَا لَمْ يَجِبْ لَمْ يَجِبْ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } - إلَى قَوْلِهِ - { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ } فَجَعَلَ إتْيَانَهُمْ إلَى الْمَشَاعِرِ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ . وَلَوْ أَرَادَ الْأُضْحِيَّةَ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَشَاعِرِ بِهَذَا اخْتِصَاصٌ ; فَإِنَّ الْأُضْحِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ يَرُدُّ عَلَى قَوْلِنَا : بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْعَشْرِ فِي الْأَمْصَارِ . فَيُقَالُ : لِمَ خَصَّ ذَلِكَ بِالْإِتْيَانِ إلَى الْمَشَاعِرِ ؟ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهَدْيِ ; لِأَنَّ الْهَدْيَ يُسَاقُ إلَى مَكَّةَ لَكِنْ عِنْدَهُ يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ مَتَى وَصَلَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ لِتَوْقِيتِهِ بِالْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ . وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الذَّبْحَ بِالْمَشَاعِرِ أَصْلٌ وَبَقِيَّةُ الْأَمْصَارِ تَبَعٌ لِمَكَّةَ وَلِهَذَا كَانَ عِيدُ النَّحْرِ الْعِيدَ الْأَكْبَرَ وَيَوْمُ النَّحْرِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهِ عِيدُ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ . الثَّانِي : أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ هُنَاكَ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ جَمِيعًا بِخِلَافِ غَيْرِ مَكَّةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا الْأُضْحِيَّةُ . وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ فَإِنَّ الْهَدْيَ عِنْدَنَا مُؤَقَّتٌ فَإِذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَنْحَرْهُ إلَّا عِنْدَ الْإِحْلَالِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ يَحِلُّوا إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَهُ وَهَذَا إذَا قَدِمَ بِهِ فِي الْعَشْرِ بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا إذَا قَدِمَ بِهِ قَبْلَ الْعَشْرِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَدْ أَمَرَا بِذِكْرِهِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ فَهَلَّا شُرِعَ التَّكْبِيرُ فِيهَا فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ كَمَا شُرِعَ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ ؟ . قِيلَ : إنَّمَا شُرِعَ التَّكْبِيرُ فِي لَيْلَةِ الْفِطْرِ إلَى حِينِ انْقِضَاءِ الْعِيدِ وَلَمْ يُشْرَعْ عَقِبَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ عَقِبَ الصَّلَاةِ أَوْكَدُ . فَاخْتُصَّ بِهِ الْعِيدُ الْكَبِيرُ وَأَيَّامُ الْعِيدِ خَمْسَةٌ هِيَ أَيَّامُ الِاجْتِمَاعِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ مِنًى عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَنَا وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهَا أَيَّامُ الذَّبْحِ . فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِيهَا التَّكْبِيرُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا جُعِلَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ } فَالذِّكْرُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُطْلَقٌ وَإِنْ كَانَتْ السُّنَّةُ قَدْ جَاءَتْ بِالتَّكْبِيرِ فِي عِيدِ النَّحْرِ فِي صَلَاتِهِ وَخُطْبَتِهِ وَدُبُرِ صَلَوَاتِهِ وَرَمْيِ جَمَرَاتِهِ وَالذِّكْرُ فِي آيَةِ الصِّيَامِ يَعْنِي بِالتَّكْبِيرِ عَلَى الْهِدَايَةِ فَهَذَا ذِكْرٌ لِلَّهِ وَتَكْبِيرٌ لَهُ عَلَى الْهِدَايَةِ وَهُنَاكَ عَلَى الرِّزْقِ . وَقَدْ { ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى خَيْبَرَ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } وَكَانَ يُكَبِّرُ عَلَى الْأَشْرَافِ مِثْلَ التَّكْبِيرِ إذَا رَكِبَ دَابَّةً وَإِذَا عَلَا نَشْزًا مِنْ الْأَرْضِ وَإِذَا صَعِدَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . { وَقَالَ جَابِرٌ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا هَبَطْنَا سَبَّحْنَا فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ } رَوَاهُ أَبُو داود . وَجَاءَ التَّكْبِيرُ مُكَرَّرًا فِي الْأَذَانِ فِي أَوَّلِهِ وَفِي آخِرِهِ وَالْأَذَانُ هُوَ الذِّكْرُ الرَّفِيعُ وَفِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَهُوَ حَالُ الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَالْقِيَامِ إلَيْهَا كَمَا قَالَ " تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ " وَرُوِيَ " أَنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفِئُ الْحَرِيقَ " . فَالتَّكْبِيرُ شُرِعَ أَيْضًا لِدَفْعِ الْعَدُوِّ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالنَّارِ الَّتِي هِيَ عَدُوٌّ لَنَا وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ فِي الْمَوَاضِعِ الْكِبَارِ لِكَثْرَةِ الْجَمْعِ أَوْ لِعَظَمَةِ الْفِعْلِ أَوْ لِقُوَّةِ الْحَالِ . أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ : لِيُبَيِّنَ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ وَتَسْتَوْلِيَ كِبْرِيَاؤُهُ فِي الْقُلُوبِ عَلَى كِبْرِيَاءِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْكِبَارِ فَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَيَكُونُ الْعِبَادُ لَهُ مُكَبِّرِينَ فَيَحْصُلُ لَهُمْ مَقْصُودَانِ . مَقْصُودُ الْعِبَادَةِ بِتَكْبِيرِ قُلُوبِهِمْ لِلَّهِ وَمَقْصُودُ الِاسْتِعَانَةِ بِانْقِيَادِ سَائِرِ الْمَطَالِبِ لِكِبْرِيَائِهِ وَلِهَذَا شُرِعَ التَّكْبِيرُ عَلَى الْهِدَايَةِ وَالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ أَكْبَرُ مَا يَطْلُبُهُ الْعَبْدُ وَهِيَ جِمَاعُ مَصَالِحِهِ . وَالْهَدْيُ أَعْظَمُ مِنْ الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ لِأَنَّ الرِّزْقَ وَالنَّصْرَ قَدْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِمَا إلَّا فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا الْهَدْيُ فَمَنْفَعَتُهُ فِي الْآخِرَةِ قَطْعًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ فَخُصَّ بِصَرِيحِ التَّكْبِيرِ ; لِأَنَّهُ أَكْبَرُ نِعْمَةِ الْحَقِّ . وذانك دُونَهُ فَوُسِّعَ الْأَمْرُ فِيهِمَا بِعُمُومِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ . فَجِمَاعُ هَذَا أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ عِنْدَ كُلِّ أَمْرٍ كَبِيرٍ مِنْ مَكَانٍ وَزَمَانٍ وَحَالٍ وَرِجَالٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ لِتَسْتَوْلِيَ كِبْرِيَاؤُهُ فِي الْقُلُوبِ عَلَى كِبْرِيَاءِ مَا سِوَاهُ وَيَكُونَ لَهُ الشَّرَفُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ . { قَالَ تَعَالَى فِيمَا رَوَى عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته . } وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ذَكَرَ التَّكْبِيرَ وَالشُّكْرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } وَالشُّكْرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَهُوَ الْحَمْدُ وَيَكُونُ بِالْعَمَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا } فَقَرَنَ بِتَكْبِيرِ الْأَعْيَادِ الْحَمْدَ . فَقِيلَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ; لِأَنَّهُ قَدْ طُلِبَ فِيهِ التَّكْبِيرُ وَالشُّكْرُ . وَلِهَذَا رُوِيَ فِي الْأَثَرِ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ : { اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَانَا } لِيَجْمَعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْحَمْدِ حَمْدَ الشُّكْرِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ التَّحْمِيدِ تَحْمِيدِ الثَّنَاءِ وَالتَّكْبِيرِ فِي قَوْلِهِ : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } فَأَمَرَ بِتَحْمِيدِهِ وَتَكْبِيرِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " وَهِيَ شَطْرَانِ : فَالتَّسْبِيحُ قَرِينُ التَّحْمِيدِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ { أَفْضَلُ الْكَلَامِ مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } . وَفِي الْقُرْآنِ { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . { فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } هَكَذَا فِي الصِّحَاحِ عَنْ عَائِشَةَ فَجُعِلَ قَوْلُهُ : " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك " تَأْوِيلَ { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } وَقَالَ : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَالْآثَارُ فِي اقْتِرَانِهِمَا كَثِيرَةٌ . وَأَمَّا التَّهْلِيلُ فَهُوَ قَرِينُ التَّكْبِيرِ كَمَا فِي كَلِمَاتِ الْأَذَانِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ بَعْدَ دُعَاءِ الْعِبَادِ إلَى الصَّلَاةِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ . وَهُوَ ذِكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِي وَسَطِهِ دُعَاءُ الْخَلْقِ إلَى الصَّلَاةِ وَالْفَلَاحِ . فَالصَّلَاةُ هِيَ الْعَمَلُ . وَالْفَلَاحُ هُوَ ثَوَابُ الْعَمَلِ لَكِنْ جُعِلَ التَّكْبِيرُ شَفْعًا وَالتَّشَهُّدُ وِتْرًا فَمَعَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ شَهَادَةٌ ; وَجُعِلَ أَوَّلُهُ مُضَاعَفًا عَلَى آخِرِهِ فَفِي [ أَوَّلِ ] الْأَذَانِ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَيَتَشَهَّدُ مَرَّتَيْنِ وَالشَّهَادَتَانِ جَمِيعًا بِاسْمِ الشَّهَادَةِ وَفِي آخِرِهِ التَّكْبِيرُ مَرَّتَانِ فَقَطْ مَعَ التَّهْلِيلِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَلَا الشَّهَادَةِ الْأُخْرَى . وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْزِلَةِ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَإِنَّ الْأُولَيَيْنِ فُضِّلَتَا بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ وَبِالْجَهْرِ فِي الْقِرَاءَةِ فَحَصَلَ الْفَضْلُ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ وَوَصْفِهَا كَمَا أَنَّ الشَّطْرَ الْأَوَّلَ مِنْ الْأَذَانِ فُضِّلَ فِي قَدْرِ الذِّكْرِ وَفِي وَصْفِهِ لَكِنَّ الْوَصْفَ هُنَا كَوْنُ التَّوْحِيدِ قُرِنَ بِهِ لَفْظُ أَشْهَدُ وَلِهَذَا حُذِفَ فِي الْإِقَامَةِ عِنْدَ مَنْ يَخْتَارُ إيتَارَهَا وَهِيَ إقَامَةُ بِلَالٍ - مَا فَضَلَ بِهِ مِنْ الْقَدْرِ كَمَا يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ هَذَا الْمَزِيدَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ فَأَشْبَهَ حَذْفَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ . وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الْأُصُولُ فَلَمْ يُحْذَفْ مِنْهَا شَيْءٌ . وَهَكَذَا سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَغَيْرِهِمَا تَطْوِيلُ أَوَّلِ الْعِبَادَةِ عَلَى آخِرِهَا ; لِأَسْبَابٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ . وَكَمَا جَمَعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ فِي الْأَذَانِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي تَكْبِيرِ الْأَشْرَافِ فَكَانَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِذَا عَلَا شَرْفًا فِي غَزْوَةٍ أَوْ حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا . وَيَقُولُ : { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَأَعَزَّ جُنْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ } يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا . وَهَذَا فِي الصِّحَاحِ وَكَذَلِكَ عَلَى الدَّابَّةِ كَبَّرَ ثَلَاثًا وَهَلَّلَ ثَلَاثًا فَجَمَعَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد والترمذي فِيهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : يَا عَدِيُّ مَا يَفِرُّك ؟ أَيَفِرُّك أَنْ يُقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهَلْ تَعْلَمُ مَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ يَا عَدِيُّ مَا يَفِرُّك أَيَفِرُّك أَنْ يُقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ؟ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ أَكْبَرُ مِنْ اللَّهِ } فَقَرَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ حَدِيثُ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ قَالَ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَك أَوْ عَلَيْك كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو : فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ مِلْئِهِ لِلْمِيزَانِ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كريز أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . فَجَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ " أَفْضَلِ الدُّعَاءِ وَأَفْضَلِ الثَّنَاءِ فَإِنَّ الذِّكْرَ نَوْعَانِ : دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ فَقَالَ : أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ . وَأَفْضَلُ مَا قُلْت هَذَا الْكَلَامَ " . وَلَمْ يَقُلْ أَفْضَلُ مَا قُلْت يَوْمَ عَرَفَةَ هَذَا الْكَلَامَ . وَإِنَّمَا هُوَ أَفْضَلُ مَا قُلْت مُطْلَقًا . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا { أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } . وَأَيْضًا فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً : أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ هِيَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ . وَأَيْضًا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا أبي : أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَفِي ذَاكَ أَنَّهَا أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ وَهَذَا غَايَةُ الْفَضْلِ فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ مُجْتَمِعٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ فَإِذَا كَانَتْ أَعْظَمَ الْقُرْآنِ وَأَعْلَى الْإِيمَانِ ثَبَتَ لَهَا غَايَةُ الرُّجْحَانِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّوْحِيدَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْفَارِقُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَهُوَ ثَمَنُ الْجَنَّةِ وَلَا يَصِحُّ إسْلَامُ أَحَدٍ إلَّا بِهِ وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَكُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ فَمَنْزِلَتُهُ مَنْزِلَةُ الْأَصْلِ وَمَنْزِلَةُ التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ مَنْزِلَةُ الْفَرْعِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالْجَهْرِ وَعِنْدَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ مِثْلِ الْأَذَانِ الَّذِي تُرْفَعُ بِهِ الْأَصْوَاتُ وَعِنْدَ الصُّعُودِ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْعَالِيَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ وَيَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَوَاتِ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْأَعْيَادِ . { وَقَالَ جَابِرٌ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا هَبَطْنَا سَبَّحْنَا فَوُضِعَتْ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ } رَوَاهُ أَبُو داود وَغَيْرُهُ . فَبَيَّنَ أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الْعُلُوِّ مِنْ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَفْعَالِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ وَالتَّسْبِيحَ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الِانْخِفَاضِ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَفْعَالِ كَمَا فِي السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ . وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّةُ فِي التَّسْبِيحِ الْإِخْفَاءَ حِينَ شُرِعَ فَلَمْ يُشْرَعْ مِنْ الْجَهْرِ بِهِ وَالْإِعْلَانَ مَا شُرِعَ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي وَصْفِ الذِّكْرِ إنَّمَا هُوَ لِلزِّيَادَةِ فِي أَمْرِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُسَنُّ فِيهِ الْجَهْرُ كَمَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مُطْلَقًا بِدَلِيلِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَقَالَ : { إنِّي نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقُمْنَ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } . وَهُنَا أَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ نَعْرِفَهُ . وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ فِي كُلِّ حَالٍ وَلَا لِكُلِّ أَحَدٍ بَلْ الْمَفْضُولُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الْفَاضِلِ الْمُطْلَقِ كَمَا أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءُ بَعْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . وَهَذَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا أَوْ إسْلَامًا } ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَلَا يُؤَمَّن الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يُجْلَسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } فَذَكَرَ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ فِي الْإِمَامَةِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَرْتَبَةِ ذَا السُّلْطَانِ مِثْلُ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ كَأَمِيرِ الْحَرْبِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَكَأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهِمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَفْضَلَ مِنْهُمْ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الذَّهَبَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَدِيدِ وَالنَّوْرَةِ وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْمَعَادِنُ مُقَدَّمَةً عَلَى الذَّهَبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا دُونَهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا : أَكْثَرُ النَّاسِ يَعْجِزُونَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَلَوْ أُمِرُوا بِهَا لَفَعَلُوهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ أَوْ يَنْتَفِعُونَ انْتِفَاعًا مَرْجُوحًا فَيَكُونُ فِي حَقِّ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الْعَمَلُ الَّذِي يُنَاسِبُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ أَفْضَلُ لَهُ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ . وَلِهَذَا يَكُونُ الذِّكْرُ لِكَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الذِّكْرَ يُورِثُهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ يُورِثُهُ الْعِلْمَ وَالْعِلْمُ بَعْدَ الْإِيمَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وَالْقُرْآنُ يَحْتَاجُ إلَى فَهْمٍ وَتَدَبُّرٍ وَقَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَغْلَطُونَ فَيَعْتَقِدُ أَحَدُهُمْ أَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ; قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . { وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْمِلَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي . فَقَالَ : قُلْ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَّا إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ فِي الصَّلَاةِ بَدَلٌ عَنْ الْقِرَاءَةِ لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ وَبِمَنْزِلَةِ صِيَامِ الشَّهْرَيْنِ مَعَ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ مَعَ الْهَدْيِ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ { مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو داود والترمذي وَصَحَّحَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدِّمُ أَهْلَ الْقُرْآنِ فِي الْمَوَاطِنِ كَمَا قَدَّمَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقُبُورِ فَأَذِنَ لَهُمْ أَنْ يَدْفِنُوا الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ وَقَالَ : قَدِّمُوا إلَى الْقِبْلَةِ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا . { فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ لَمَّا سُئِلَ : أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ : فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } هَذَا خَرَجَ عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ . فَرُبَّمَا عَلِمَ مِنْ حَالِ السَّائِلِ حَالًا مَخْصُوصَةً كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ : { أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } إلَى آخِرِهِ . أَرَادَ بِذَلِكَ مِنْ الذِّكْرِ لَا مِنْ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الذِّكْرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْقِرَاءَةِ كَمَا أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ فِي وَقْتِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ تَجْدِيدِهِ أَوْ عِنْدَمَا يَقْتَضِي ذِكْرَهُمَا مِثْلَ عَقِبِ الْوُضُوءِ وَدُبُرِ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ . وَكَذَلِكَ فِي مُوَافَقَةِ الْمُؤَذِّنِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَقْرَأُ وَسَمِعَ الْمُؤَذِّنَ فَإِنَّ مُوَافَقَتَهُ فِي ذِكْرِ الْأَذَانِ أَفْضَلُ لَهُ حِينَئِذٍ مِنْ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يُسْتَحَبَّ لَهُ قَطْعُ الْقِرَاءَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ هَذَا وَقْتُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ يَفُوتُ بِفَوْتِهَا وَالْقِرَاءَةُ لَا تَفُوتُ . فَنَقُولُ : الْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ : حَالٌ يُسْتَحَبُّ فِيهَا الْإِسْرَارُ وَيُكْرَهُ فِيهَا الْجَهْرُ ; لِأَنَّهَا حَالُ انْخِفَاضٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . فَهُنَا التَّسْبِيحُ أَفْضَلُ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَكَذَلِكَ فِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَأَمَّا مَا السُّنَّةُ فِيهِ الْجَهْرُ وَالْإِعْلَانُ كَالْإِشْرَافِ وَالْأَذَانِ فَالسُّنَّةُ فِيهِ التَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ وَأَمَّا مَا يُشْرَعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا .