تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَمُفْتِي الْأَنَامِ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الزَّاهِدُ الْوَرِعُ نَاصِرُ السُّنَّةِ وَقَامِعُ الْبِدْعَةِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تيمية الحراني - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ صَحَّ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ ؟ أَمْ يُكْرَهُ ؟ أَمْ يُسْتَحَبُّ ؟ . وَإِذَا قِيلَ : بِالْكَرَاهَةِ . هَلْ تَكُونُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ ؟ أَمْ تَنْزِيهٍ ؟ وَهَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي " . أَمْ لَا ؟ وَهَلْ صَحَّ فِي فَضْلِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ أَمْ لَا ؟ .
123
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا : فَالزِّيَارَةُ الْمَأْذُونُ فِيهَا هَلْ فِيهَا إذْنٌ لِلنِّسَاءِ وَنَسْخٌ لِلنَّهْيِ فِي حَقِّهِنَّ ؟ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهَا بَلْ هُنَّ مَنْهِيَّاتٌ عَنْهَا ؟ وَهَلْ النَّهْيُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ ؟ فِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ وَالثَّلَاثَةُ أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَيْضًا وَغَيْرِهِمَا . وَقَدْ حُكِيَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ نَظِيرُ تَنَازُعِهِمْ فِي تَشْيِيعِ النِّسَاءِ لِلْجَنَائِزِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُرَخِّصُ فِي الزِّيَارَةِ دُونَ التَّشْيِيعِ كَمَا اخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ النِّسَاءَ مَأْذُونٌ لَهُنَّ فِي الزِّيَارَةِ وَأَنَّهُ أَذِنَ لَهُنَّ كَمَا أَذِنَ لِلرِّجَالِ وَاعْتَقَدَ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } خِطَابٌ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي الْإِذْنِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِعِدَّةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزُورُوهَا صِيغَةُ تَذْكِيرٍ وَصِيغَةُ التَّذْكِيرِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ بِالْوَضْعِ وَقَدْ تَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ لَكِنَّ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ : قِيلَ : إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَاجُ تَنَاوُلُ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَقِيلَ : إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ دُخُولُ النِّسَاءِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الضَّعِيفِ وَالْعَامِّ لَا يُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ الْخَاصَّةَ الْمُسْتَفِيضَةَ فِي نَهْيِ النِّسَاءِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ وَلَا يَنْسَخُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ . الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : لَوْ كَانَ النِّسَاءُ دَاخِلَاتٍ فِي الْخِطَابِ لَاسْتَحَبَّ لَهُنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ كَمَا اسْتَحَبَّ لِلرِّجَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ بِعِلَّةٍ تَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ وَهِيَ قَوْلُهُ : { فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } وَلِهَذَا تَجُوزُ زِيَارَةُ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ وَقَالَ : { اسْتَأْذَنْت رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْته فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } . وَأَمَّا زِيَارَتُهُ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ فَذَلِكَ فِيهِ أَيْضًا الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ وَالدُّعَاءُ كَمَا عَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ إذَا زَارُوا قُبُورَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ وَيَدْعُوا لَهُمْ فَلَوْ كَانَتْ زِيَارَةُ الْقُبُورِ مَأْذُونًا فِيهَا لِلنِّسَاءِ لَاسْتَحَبَّ لَهُنَّ كَمَا اسْتَحَبَّ لِلرِّجَالِ لِمَا فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَذَكُّرِ الْمَوْتِ وَمَا عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ اسْتَحَبَّ لَهُنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ وَلَا كَانَ النِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ يَخْرُجْنَ إلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ كَمَا يَخْرُجُ الرِّجَالُ . وَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي الزِّيَارَةِ اعْتَمَدُوا عَلَى مَا يُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ قَدْ مَاتَ فِي غَيْبَتِهَا . وَقَالَتْ : لَوْ شَهِدْتُك لَمَا زُرْتُك وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزِّيَارَةَ لَيْسَتْ مُسْتَحَبَّةً لِلنِّسَاءِ كَمَا تُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاسْتَحَبَّ لَهَا زِيَارَتَهُ كَمَا تُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ زِيَارَتُهُ سَوَاءٌ شَهِدَتْهُ أَوْ لَمْ تَشْهَدْهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجَنَائِزِ أَوْكَدُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَفِي ذَلِكَ تَفْوِيتُ صَلَاتِهِنَّ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ لَهُنَّ اتِّبَاعَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالثَّوَابِ فَكَيْفَ بِالزِّيَارَةِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ : غَايَةُ مَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَزُورُوا الْقُبُورَ } خِطَابٌ عَامٌّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ } هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ صِيغَةِ التَّذْكِيرِ فَإِنَّ لَفْظَ : " مَنْ " يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَنْ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ . وَلَفْظُ " مَنْ " أَبْلَغُ صِيَغِ الْعُمُومِ ثُمَّ قَدْ عُلِمَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَمْ يَتَنَاوَلْ النِّسَاءَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُنَّ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ سَوَاءٌ كَانَ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ . فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْنَ فِي هَذَا الْعُمُومِ فَكَذَلِكَ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَكِلَاهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ تَشْيِيعَ الْجِنَازَةِ مِنْ جِنْسِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } فَنَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَعَنْ الْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ . وَكَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ وَمُوجِبُ التَّعْلِيلِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَيُقَامُ عَلَى قُبُورِهِمْ وَذَلِكَ كَمَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : هُوَ الْقِيَامُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَهُوَ مَقْصُودُ زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي عُمُومِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فَلَأَنْ لَا يَدْخُلْنَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ الَّتِي غَايَتُهَا دُونَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا أَمْكَنَ النِّسَاءَ أَنْ يُصَلِّينَ عَلَى الْمَيِّتِ بِلَا اتِّبَاعٍ كَمَا يُصَلِّينَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْتِ فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي الْبَيْتِ . وَإِذَا قِيلَ مَفْسَدَةُ الِاتِّبَاعِ لِلْجَنَائِزِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الزِّيَارَةِ ; لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ حَدِيثَةٌ وَفِي ذَلِكَ أَذًى لِلْمَيِّتِ وَفِتْنَةٌ لِلْحَيِّ بِأَصْوَاتِهِنَّ وَصُوَرِهِنَّ . قِيلَ : وَمُطْلَقُ الِاتِّبَاعِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الزِّيَارَةِ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الدُّعَاءِ ; وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالِاتِّبَاعِ الْحَمْلُ وَالدَّفْنُ وَالصَّلَاةُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الزِّيَارَةِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ - وَذَلِكَ الْفَرْضُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ بِحَيْثُ لَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا نِسَاءٌ لَكَانَ حَمْلُهُ وَدَفْنُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَرْضًا عَلَيْهِنَّ وَفِي تَغْسِيلِهِنَّ لِلرِّجَالِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ . وَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ هَلْ يُيَمَّمُ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ - فَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ مَنْهِيَّاتٍ عَمَّا جِنْسُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَمَصْلَحَتُهُ أَعْظَمُ إذَا قَامَ بِهِ الرِّجَالُ فَمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أَحَدٍ أَوْلَى . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : مَفْسَدَةُ التَّشْيِيعِ أَعْظَمُ : مَمْنُوعٌ ; بَلْ إذَا رُخِّصَ لِلْمَرْأَةِ فِي الزِّيَارَةِ كَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ تَكْرِيرِ ذَلِكَ فَتَعْظُمُ فِيهِ الْمَفْسَدَةُ وَيَتَجَدَّدُ الْجَزَعُ وَالْأَذَى لِلْمَيِّتِ فَكَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ قَصْدِ الرِّجَالِ لَهُنَّ وَالِافْتِتَانِ بِهِنَّ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِسَبَبِ زِيَارَةِ النِّسَاءِ الْقُبُورَ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْهُ عِنْدَ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ . وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ جِنْسَ زِيَارَةِ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ اتِّبَاعِهِنَّ وَأَنَّ نَهْيَ الِاتِّبَاعِ إذَا كَانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ نَهْيُ الزِّيَارَةِ نَهْيَ تَحْرِيمٍ وَذَلِكَ أَنَّ نَهْيَ الْمَرْأَةِ عَنْ الِاتِّبَاعِ قَدْ يَتَعَذَّرُ لِفَرْطِ الْجَزَعِ كَمَا يَتَعَذَّرُ تَسْكِينُهُنَّ لِفَرْطِ الْجَزَعِ أَيْضًا فَإِذَا خَفَّفَ هَذِهِ الْقُوَّةَ الْمُقْتَضِي لَمْ يَلْزَمْ تَخْفِيفُ مَا لَا يَقْوَى الْمُقْتَضَى فِيهِ . وَإِذَا عَفَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ عَمَّا لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْفُوَ لَهُ عَمَّا يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ بِدُونِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ الْوَاجِبَةِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : قَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقَيْنِ : أَنَّهُ لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ ماجه والترمذي وَصَحَّحَهُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد ; وَأَبُو داود والنسائي والترمذي وَحَسَّنَهُ وَفِي نُسَخٍ تَصْحِيحُهُ وَرَوَاهُ ابْنُ ماجه مِنْ ذِكْرِ الزِّيَارَةِ . فَإِنْ قِيلَ : الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ قَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ تَرَكَهُ شُعْبَةُ وَلَيْسَ بِذَاكَ وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ كَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ . وَقَالَ السَّعْدِيُّ والنسائي لَيْسَ بِقَوِيِّ الْحَدِيثِ . وَالثَّانِي فِيهِ أَبُو صَالِحٍ باذام مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ وَقَدْ ضَعَّفُوهُ قَالَ أَحْمَد : كَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ تَرَكَ حَدِيثَ أَبِي صَالِحٍ وَكَانَ أَبُو حَاتِمٍ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ . وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ تَفْسِيرٌ وَمَا أَقَلَّ مَا لَهُ فِي الْمُسْنَدِ وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ رَضِيَهُ . قُلْت : الْجَوَابُ عَلَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ كُلٌّ مِنْ الرَّجُلَيْنِ قَدْ عَدَّلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمَا جَرَّحَهُ آخَرُونَ أَمَّا عُمَرُ فَقَدْ قَالَ فِيهِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ العجلي : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ أَصْعَبِ النَّاسِ تَزْكِيَةً . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : تَرَكَهُ شُعْبَةُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ . كَمَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ يَسْمَعْ شُعْبَةُ مِنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ شَيْئًا وَشُعْبَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَمَالِكٌ وَنَحْوُهُمْ قَدْ كَانُوا يَتْرُكُونَ الْحَدِيثَ عَنْ أُنَاسٍ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ بَلَغَتْهُمْ لَا تُوجِبُ رَدَّ أَخْبَارِهِمْ فَهُمْ إذَا رَوَوْا عَنْ شَخْصٍ كَانَتْ رِوَايَتُهُمْ تَعْدِيلًا لَهُ . وَأَمَّا تَرْكُ الرِّوَايَةِ فَقَدْ يَكُونُ لِشُبْهَةٍ لَا تُوجِبُ الْجَرْحَ وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ قَدْ خُرِّجَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : لَيْسَ بِقَوِيٍّ فِي الْحَدِيثِ عِبَارَةٌ لَيِّنَةٌ تَقْتَضِي أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي حِفْظِهِ بَعْضُ التَّغَيُّرِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لَا تَقْتَضِي عِنْدَهُمْ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ وَلَا مُبَالَغَةً فِي الْغَلَطِ . وَأَمَّا أَبُو صَالِحٍ : فَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا تَرَكَ أَبَا صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ وَمَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُ فِيهِ شَيْئًا وَلَمْ يَتْرُكْهُ شُعْبَةُ وَلَا زَائِدَةُ فَهَذِهِ رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ كَمَا عُرِفَ مِنْ عَادَةِ شُعْبَةَ وَتَرْكُ ابْنُ مَهْدِيٍّ لَهُ لَا يُعَارِضُ ذَلِكَ فَإِنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ أَعْلَمُ بِالْعِلَلِ وَالرِّجَالِ مِنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ فَإِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ شُعْبَةَ وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ أَعْلَمُ بِالرِّجَالِ مِنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ وَأَمْثَالِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ : يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ فَأَبُو حَاتِمٍ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ شَرْطَهُ فِي التَّعْدِيلِ صَعْبٌ وَالْحُجَّةُ فِي اصْطِلَاحِهِ لَيْسَ هُوَ الْحُجَّةَ فِي جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَهَذَا كَقَوْلِ مَنْ قَالَ : لَا أَعْلَمُ أَنَّهُمْ رَضُوهُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ الطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ لَكِنَّ مُجَرَّدَ عَدَمِ تَخْرِيجِهِمَا لِلشَّخْصِ لَا يُوجِبُ رَدَّ حَدِيثِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُقَالُ : إذَا كَانَ الْجَارِحُ وَالْمُعَدِّلُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُقْبَلْ الْجَرْحُ إلَّا مُفَسَّرًا فَيَكُونُ التَّعْدِيلُ مُقَدَّمًا عَلَى الْجَرْحِ الْمُطْلَقِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ حَدِيثَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ فِي الْحَسَنِ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا صَحَّحَهُ مَنْ صَحَّحَهُ كَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْجَرْحِ إلَّا مَا ذُكِرَ كَانَ أَقَلَّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحَسَنِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْآخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِجَالُ هَذَا لَيْسَ رِجَالَ هَذَا فَلَمْ يَأْخُذْهُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَلَيْسَ فِي الْإِسْنَادَيْنِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ وَإِنَّمَا التَّضْعِيفُ مِنْ جِهَةِ سُوءِ الْحِفْظِ وَمِثْلُ هَذَا حُجَّةٌ بِلَا رَيْبٍ وَهَذَا مِنْ أَجْوَدِ الْحَسَنِ الَّذِي شَرَطَهُ التِّرْمِذِيُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْحَسَنَ مَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُتَّهَمٌ وَلَمْ يَكُنْ شَاذًّا : أَيْ مُخَالِفًا لِمَا ثَبَتَ بِنَقْلِ الثقاة . وَهَذَا الْحَدِيثُ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَيْسَ فِيهِ مُتَّهَمٌ وَلَا خَالَفَهُ أَحَدٌ مِنْ الثقاة وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا يُخَافُ فِيهِ مِنْ شَيْئَيْنِ : إمَّا تَعَمُّدُ الْكَذِبِ وَإِمَّا خَطَأُ الرَّاوِي فَإِذَا كَانَ مِنْ وَجْهَيْنِ لَمْ يَأْخُذْهُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَلَيْسَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يَتَّفِقَ تَسَاوِي الْكَذِبِ فِيهِ : عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبِ ; لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الرُّوَاةُ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكَذِبِ . وَأَمَّا الْخَطَأُ فَإِنَّهُ مَعَ التَّعَدُّدِ يَضْعُفُ وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَطْلُبَانِ مَعَ الْمُحَدِّثِ الْوَاحِدِ مَنْ يُوَافِقُهُ خَشْيَةَ الْغَلَطِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَرْأَتَيْنِ { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } هَذَا لَوْ كَانَا عَنْ صَاحِبٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ عَنْ صَاحِبٍ وَذَلِكَ عَنْ آخَرَ وَفِي لَفْظِ أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى لَفْظِ الْآخَرِ فَهَذَا كُلُّهُ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْأَصْلِ مَعْرُوفٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَبْ أَنَّهُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ مَنْسُوخٌ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَنْسَخُهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَد فِي رِوَايَتِهِ وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ { أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَقْبَلَتْ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ الْمَقَابِرِ فَقُلْت لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَلَيْسَ كَانَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ كَانَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا } . قِيلَ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْخِطَابُ بِأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَتَنَاوَلْ النِّسَاءَ فَلَا يَدْخُلْنَ فِي الْحُكْمِ النَّاسِخِ . الثَّانِي : خَاصٌّ فِي النِّسَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ أَوْ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ } وَقَوْلُهُ : " فَزُورُوهَا " بِطَرِيقِ التَّبَعِ فَيَدْخُلْنَ بِعُمُومٍ ضَعِيفٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالرِّجَالِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِلنِّسَاءِ وَالْعَامُّ إذَا عُرِفَ أَنَّهُ بَعْدَ الْخَاصِّ لَمْ يَكُنْ نَاسِخًا لَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعَامَّ بَعْدَ الْخَاصِّ إذْ قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ : { لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ } بَعْدَ إذْنِهِ لِلرِّجَالِ فِي الزِّيَارَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَرَنَهُ بِالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ وَذَكَرَ هَذَا بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَلَعْنُ الزَّائِرَاتِ جَعَلَهُ مُخْتَصًّا بِالنِّسَاءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَسَاجِدِ وَالسُّرُجِ بَاقٍ مُحْكَمٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ . وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَحْمَدُ احْتَجَّ بِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ لَمَّا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى ذَلِكَ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ تُنَاقِضُ ذَلِكَ وَهِيَ اخْتِيَارُ الخرقي وَغَيْرِهِ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ . وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فَإِنَّ الْمُحْتَجَّ عَلَيْهَا احْتَجَّ بِالنَّهْيِ الْعَامِّ فَدَفَعَتْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّهْيَ مَنْسُوخٌ وَهُوَ كَمَا قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا الْمُحْتَجُّ النَّهْيَ الْمُخْتَصَّ بِالنِّسَاءِ الَّذِي فِيهِ لَعْنُهُنَّ عَلَى الزِّيَارَةِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهَا : " قَدْ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا " فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا أَمْرًا يَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ وَالِاسْتِحْبَابُ إنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً وَلَكِنَّ عَائِشَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ أَمْرَهُ الثَّانِيَ نَسَخَ نَهْيَهُ الْأَوَّلَ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ وَهُوَ النِّسَاءُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ وَلَوْ كَانَتْ عَائِشَةُ تَعْتَقِدُ أَنَّ النِّسَاءَ مَأْمُورَاتٍ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ لَكَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ الرِّجَالُ وَلَمْ تَقُلْ لِأَخِيهَا : لَمَا زُرْتُك . الْجَوَابُ الثَّالِثُ : جَوَابُ مَنْ يَقُولُ بِالْكَرَاهَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا : حَدِيثُ اللَّعْنِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَحَدِيثُ الْإِذْنِ يَرْفَعُ التَّحْرِيمَ وَبَقِيَ أَصْلُ الْكَرَاهَةِ يُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُ { } أُمِّ عَطِيَّةَ : نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا { } . وَالزِّيَارَةُ مِنْ جِنْسِ الِاتِّبَاعِ فَيَكُونُ كِلَاهُمَا مَكْرُوهًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ . الْجَوَابُ الرَّابِعُ : جَوَابُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ : كَإِسْحَاقِ بْنِ راهويه فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : اللَّعْنُ قَدْ جَاءَ بِلَفْظِ الزَّوَّارَاتِ وَهُنَّ الْمُكْثِرَاتُ لِلزِّيَارَةِ فَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ فِي الدَّهْرِ لَا تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ وَلَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ زَائِرَةً وَيَقُولُونَ : عَائِشَةُ زَارَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ تَكُنْ زَوَّارَةً . وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ : فَيَقُولُونَ قَدْ جَاءَ بِلَفْظِ " الزَّوَّارَاتِ " وَلَفْظُ الزَّوَّارَاتِ قَدْ يَكُونُ لِتَعَدُّدِهِنَّ كَمَا يُقَالُ : فَتَّحْت الْأَبْوَابَ إذْ لِكُلِّ بَابٍ فَتْحٌ يَخُصُّهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى إذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِكُلِّ بَابٍ فَتْحًا وَاحِدًا . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا يُحَرَّمُ وَمَا لَا يُحَرَّمُ وَاللَّعْنُ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : التَّشْيِيعُ كَذَلِكَ وَيُحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ فِي التَّشْيِيعِ مِنْ التَّغْلِيظِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ فَإِنَّكُنَّ تَفْتِنَّ الْحَيَّ وَتُؤْذِينَ الْمَيِّتَ } وَقَوْلِهِ لِفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - { أَمَا إنَّك لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى لَمْ تَدْخُلِي الْجَنَّةَ حَتَّى يَكُونَ كَذَا وَكَذَا } وَهَذَانِ يُؤَيِّدُهُمَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ { نَهَى النِّسَاءَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ } . وَأَمَّا قَوْلُ { أُمِّ عَطِيَّةَ : وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا } فَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهَا لَمْ يُؤَكِّدْ النَّهْيَ وَهَذَا لَا يَنْفِي التَّحْرِيمَ وَقَدْ تَكُونُ هِيَ ظَنَّتْ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَهْيِ تَحْرِيمٍ وَالْحُجَّةُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِي ظَنِّ غَيْرِهِ . الْجَوَابُ الْخَامِسُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ الْإِذْنَ لِلرِّجَالِ بِأَنَّ ذَلِكَ يُذَكِّرُ بِالْمَوْتِ وَيُرَقِّقُ الْقَلْبَ وَيُدْمِعُ الْعَيْنَ هَكَذَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَد وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا فُتِحَ لَهَا هَذَا الْبَابُ أَخْرَجَهَا إلَى الْجَزَعِ وَالنَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الضَّعْفِ وَكَثْرَةِ الْجَزَعِ وَقِلَّةِ الصَّبْرِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِتَأَذِّي الْمَيِّتِ بِبُكَائِهَا وَلِافْتِتَانِ الرِّجَالِ بِصَوْتِهَا وَصُورَتِهَا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ : { فَإِنَّكُنَّ تَفْتِنَّ الْحَيَّ وَتُؤْذِينَ الْمَيِّتَ } وَإِذَا كَانَتْ زِيَارَةُ النِّسَاءِ مَظِنَّةً وَسَبَبًا لِلْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ فِي حَقِّهِنَّ وَحَقِّ الرِّجَالِ وَالْحِكْمَةُ هُنَا غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُدَّ الْمِقْدَارَ الَّذِي لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ وَلَا التَّمْيِيزَ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ . وَمِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْحِكْمَةَ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً أَوْ غَيْرَ مُنْتَشِرَةٍ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِمَظِنَّتِهَا فَيُحَرَّمُ هَذَا الْبَابُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ كَمَا حَرَّمَ النَّظَرَ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفِتْنَةِ وَكَمَا حَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ مَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا دُعَاؤُهَا لِلْمَيِّتِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي بَيْتِهَا ; وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إذَا عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ نَفْسِهَا أَنَّهَا إذَا زَارَتْ الْمَقْبَرَةَ بَدَا مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَمْ تَجُزْ لَهَا الزِّيَارَةُ بِلَا نِزَاعٍ .