مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَمِنْ السُّؤَالِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ سُؤَالُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَوَوْا إلَى غَارٍ فَسَأَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَمَلِ عَظِيمٍ أَخْلَصَ فِيهِ لِلَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مَحَبَّةً تَقْتَضِي إجَابَةَ صَاحِبِهِ : هَذَا سَأَلَ بِبِرِّهِ لِوَالِدَيْهِ وَهَذَا سَأَلَ بِعِفَّتِهِ التَّامَّةِ وَهَذَا سَأَلَ بِأَمَانَتِهِ وَإِحْسَانِهِ . وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ وَقْتَ السَّحَرِ " اللَّهُمَّ أَمَرْتنِي فَأَطَعْتُك وَدَعَوْتنِي فَأَجَبْتُك وَهَذَا سَحَرٌ فَاغْفِرْ لِي " وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الصَّفَا : " اللَّهُمَّ إنَّك قُلْت وَقَوْلُك الْحَقُّ { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وَإِنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ " ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعَاءَ الْمَعْرُوفَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَلَى الصَّفَا . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ " أَسْأَلُك بِكَذَا " نَوْعَانِ : فَإِنَّ الْبَاءَ قَدْ تَكُونُ لِلْقَسَمِ وَقَدْ تَكُونُ لِلسَّبَبِ فَقَدْ تَكُونُ قَسَمًا بِهِ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ تَكُونُ سُؤَالًا بِسَبَبِهِ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْقَسَمُ بِالْمَخْلُوقَاتِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَكَيْفَ عَلَى الْخَالِقِ ؟ وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ السُّؤَالُ بِالْمُعَظَّمِ كَالسُّؤَالِ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ فَنَقُولُ : قَوْلُ السَّائِلِ لِلَّهِ تَعَالَى : " أَسْأَلُك بِحَقِّ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ أَوْ بِجَاهِ فُلَانٍ أَوْ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ " يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ جَاهٌ وَهَذَا صَحِيحٌ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ وَجَاهٌ وَحُرْمَةٌ يَقْتَضِي أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ دَرَجَاتِهِمْ وَيُعْظِمَ أَقْدَارَهُمْ وَيَقْبَلَ شَفَاعَتَهُمْ إذَا شُفِّعُوا مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } . وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ مَنْ اتَّبَعَهُمْ وَاقْتَدَى بِهِمْ فِيمَا سُنَّ لَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيهِ كَانَ سَعِيدًا وَمَنْ أَطَاعَ أَمْرَهُمْ الَّذِي بَلَّغُوهُ عَنْ اللَّهِ كَانَ سَعِيدًا وَلَكِنْ لَيْسَ نَفْسُ مُجَرَّدِ قَدْرِهِمْ وَجَاهِهِمْ مِمَّا يَقْتَضِي إجَابَةَ دُعَائِهِ إذَا سَأَلَ اللَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَسْأَلَ اللَّهَ بِذَلِكَ بَلْ جَاهُهُمْ يَنْفَعُهُ أَيْضًا إذَا اتَّبَعَهُمْ وَأَطَاعَهُمْ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ عَنْ اللَّهِ أَوْ تَأَسَّى بِهِمْ فِيمَا سَنُّوهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَنْفَعُهُ أَيْضًا إذَا دَعَوْا لَهُ وَشُفِّعُوا فِيهِ . فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ دُعَاءٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَلَا مِنْهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْإِجَابَةَ لَمْ يَكُنْ مُتَشَفِّعًا بِجَاهِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُ بِجَاهِهِمْ نَافِعًا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ يَكُونُ قَدْ سَأَلَ بِأَمْرِ أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ سَبَبًا لِنَفْعِهِ . وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِمُطَاعِ كَبِيرٍ : " أَسْأَلُك بِطَاعَةِ فُلَانٍ لَك وَبِحُبِّك لَهُ عَلَى طَاعَتِك وَبِجَاهِهِ عِنْدَك الَّذِي أَوْجَبَتْهُ طَاعَتُهُ لَك لَكَانَ قَدْ سَأَلَهُ بِأَمْرِ أَجْنَبِيٍّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ إحْسَانُ اللَّهِ إلَى هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ وَمَحَبَّتُهُ لَهُمْ وَتَعْظِيمُهُ لِأَقْدَارِهِمْ مَعَ عِبَادَتِهِمْ لَهُ وَطَاعَتِهِمْ إيَّاهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ إجَابَةَ دُعَاءِ مَنْ يَسْأَلُ بِهِمْ وَإِنَّمَا يُوجِبُ إجَابَةَ دُعَائِهِ بِسَبَبِ مِنْهُ لِطَاعَتِهِ لَهُمْ أَوْ سَبَبٍ مِنْهُمْ لِشَفَاعَتِهِمْ لَهُ فَإِذَا انْتَفَى هَذَا وَهَذَا فَلَا سَبَبَ .