مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } فَكَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ لِلْمُشْرِكِينَ : سَوْفَ يُبْعَثُ هَذَا النَّبِيُّ وَنُقَاتِلُكُمْ مَعَهُ فَنَقْتُلُكُمْ ; لَمْ يَكُونُوا يُقْسِمُونَ عَلَى اللَّهِ بِذَاتِهِ وَلَا يَسْأَلُونَ بِهِ ; أَوْ يَقُولُونَ : اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ لِنَتَّبِعَهُ وَنَقْتُلَ هَؤُلَاءِ مَعَهُ . هَذَا هُوَ النَّقْلُ الثَّابِتُ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ } وَالِاسْتِفْتَاحُ الِاسْتِنْصَارُ وَهُوَ طَلَبُ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ ; فَطَلَبُ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ بِهِ هُوَ أَنْ يُبْعَثَ فَيُقَاتِلُونَهُمْ مَعَهُ فَبِهَذَا يُنْصَرُونَ لَيْسَ هُوَ بِإِقْسَامِهِمْ بِهِ وَسُؤَالِهِمْ بِهِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانُوا إذَا سَأَلُوا أَوْ أَقْسَمُوا بِهِ نُصِرُوا ; وَلَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَرَ اللَّهُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَجَاهَدَ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقْسِمُونَ بِهِ أَوْ يَسْأَلُونَ بِهِ فَهُوَ نَقْلٌ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلنُّقُولِ الْكَثِيرَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ الْمُخَالَفَةِ لَهُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي ( دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَفِي كِتَابِ ( الِاسْتِغَاثَةِ الْكَبِيرِ . وَ ( كُتُبُ السِّيَرِ وَ ( دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ وَ ( التَّفْسِيرُ مَشْحُونَةٌ بِذَلِكَ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ : كَانَ الْيَهُودُ إذَا اسْتَنْصَرُوا بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ يَقُولُونَ : اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَنَا حَتَّى نَغْلِبَ الْمُشْرِكِينَ وَنَقْتُلَهُمْ . فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا وَرَأَوْا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قتادة الْأَنْصَارِيُّ عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا : مِمَّا دَعَانَا إلَى الْإِسْلَامِ - مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَهُدَاهُ - مَا كُنَّا نَسْمَعُ مِنْ رِجَالٍ يَهُودٍ وَكُنَّا أَهْلَ شِرْكٍ وَأَصْحَابَ أَوْثَانٍ وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَنَا وَكَانَتْ لَا تَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ ; فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَ قَالُوا لَنَا : قَدْ تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ الْآنَ فَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ - كَثِيرًا مَا كُنَّا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ - فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَجَبْنَاهُ حِينَ دَعَانَا إلَى اللَّهِ وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعَّدُونَا بِهِ فَبَادَرْنَاهُمْ إلَيْهِ فَآمَنَّا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ فَفِينَا وَفِيهِمْ نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } . وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ جَمَعَ كَلَامَ مُفَسِّرِي السَّلَفِ إلَّا هَذَا وَهَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ السُّؤَالُ بِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ ; بَلْ ذَكَرُوا الْإِخْبَارَ بِهِ أَوْ سُؤَالَ اللَّهِ أَنْ يَبْعَثَهُ ; فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رزين عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } قَالَ : يَسْتَظْهِرُونَ ; يَقُولُونَ : نَحْنُ نُعِينُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ وَلَيْسُوا كَذَلِكَ يَكْذِبُونَ . وَرُوِيَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قتادة فِي قَوْله تَعَالَى { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } قَالَ : كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّهُ سَيَأْتِي نَبِيٌّ { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ } . وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ - أَوْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ يَهُودَ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ مِنْ الْعَرَبِ كَفَرُوا بِهِ وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ وداود بْنُ سَلَمَةَ : يَا مَعْشَرَ يَهُودَ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَتُخْبِرُونَا بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ وَتَصِفُونَهُ بِصِفَتِهِ فَقَالَ سَلَامُ بْنُ مُشْكِمٍ أَخُو بَنِي النَّضِيرِ : مَا جَاءَنَا بِشَيْءِ نَعْرِفُهُ وَمَا هُوَ بِاَلَّذِي كُنَّا نَذْكُرُ لَكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } . وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ : كَانَتْ الْيَهُودُ تَسْتَنْصِرُ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ يَقُولُونَ : اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَنَا حَتَّى نُعَذِّبَ الْمُشْرِكِينَ وَنَقْتُلَهُمْ . فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا وَرَأَوْا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُ { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَتْ يَهُودَ خَيْبَرَ تُقَاتِلُ بِسُكَيْنَةِ فَكُلَّمَا الْتَقَوْا هُزِمَتْ يَهُودُ فَعَاذَتْ بِهَذَا الدُّعَاءِ : اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي وَعَدْتنَا أَنْ تُخْرِجَهُ لَنَا آخِرَ الزَّمَانِ إلَّا نَصَرْتنَا عَلَيْهِمْ فَكَانُوا إذَا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ هَزَمُوا غطفان . فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرُوا بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ } وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ : أَدَّتْ الضَّرُورَةُ إلَّا إخْرَاجِهِ . وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ هَارُونَ مِنْ أَضْعَفِ النَّاسِ وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّجَالِ مَتْرُوكٌ ; بَلْ كَذَّابٌ . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي حَقِّهِ . قُلْت : وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَتِهَا وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ كَمَا تَقَدَّمَ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } إنَّمَا نَزَلَتْ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ فِي الْيَهُودِ الْمُجَاوِرِينَ لِلْمَدِينَةِ أَوَّلًا كَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا يُحَالِفُونَ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ وَهُمْ الَّذِينَ عَاهَدَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ حَارَبَهُمْ فَحَارَبَ أَوَّلًا بَنِي قَيْنُقَاعَ ثُمَّ النَّضِيرِ - وَفِيهِمْ نَزَلَتْ سُورَةُ الْحَشْرِ - ثُمَّ قُرَيْظَةَ عَامَ الْخَنْدَقِ فَكَيْفَ يُقَالُ نَزَلَتْ فِي يَهُودِ خَيْبَرَ كالبيهقي ؟ فَإِنَّ هَذَا مِنْ كَذَّابٍ جَاهِلٍ لَمْ يُحْسِنْ كَيْفَ يَكْذِبُ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ انْتِصَارَ الْيَهُودِ عَلَى غطفان لَمَّا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ ; وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ غَيْرُ هَذَا الْكَذَّابِ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا وَقَعَ لَكَانَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ دَوَاعِي الصَّادِقِينَ عَلَى نَقْلِهِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ لَوْ كَانَ مِمَّا يَقْتَضِي السُّؤَالُ بِهِ وَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّهُ أَوَّلًا لَمْ يَثْبُتْ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا شَرْعًا لَنَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ سُجُودِ إخْوَةِ يُوسُفَ وَأَبَوَيْهِ وَأَخْبَرَ عَنْ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَهْلِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا : { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } وَنَحْنُ قَدْ نُهِينَا عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَلَفْظُ الْآيَةِ إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } وَالِاسْتِفْتَاحُ طَلَبُ الْفَتْحِ وَهُوَ النَّصْرُ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ أَيْ يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ أَيْ بِدُعَائِهِمْ كَمَا قَالَ هَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ بِصَلَاتِهِمْ وَدُعَائِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ ؟ } . وَهَذَا قَدْ يَكُونُ بِأَنْ يَطْلُبُوا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَنْصُرَهُمْ بِالنَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِأَنْ يُعَجِّلَ بَعْثَ ذَلِكَ النَّبِيِّ إلَيْهِمْ لِيَنْتَصِرُوا بِهِ عَلَيْهِمْ ; لَا لِأَنَّهُمْ أَقْسَمُوا عَلَى اللَّهِ وَسَأَلُوا بِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } فَلَوْ لَمْ تَرِدْ الْآثَارُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ أَنْ يَحْمِلَ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِلَا دَلِيلٍ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَيْهِ فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ ؟ . وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ الْيَهُودِ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْصَرُونَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ شَاذٌّ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الْيَهُودَ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهَا غَلَبَتْ الْعَرَبَ بَلْ كَانُوا مَغْلُوبِينَ مَعَهُمْ وَكَانُوا يُحَالِفُونَ الْعَرَبَ فَيُحَالِفُ كُلُّ فَرِيقٍ فَرِيقًا كَمَا كَانَتْ قُرَيْظَةُ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ وَكَانَتْ النَّضِيرُ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ . وَأَمَّا كَوْنُ الْيَهُودِ كَانُوا يَنْتَصِرُونَ عَلَى الْعَرَبِ فَهَذَا لَا يُعْرَفُ بَلْ الْمَعْرُوفُ خِلَافُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } . فَالْيَهُودُ - مِنْ حِينِ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ - لَمْ يَكُونُوا بِمُجَرَّدِهِمْ يَنْتَصِرُونَ لَا عَلَى الْعَرَبِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ مَعَ حُلَفَائِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالذِّلَّةُ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ حِينِ بُعِثَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَذَّبُوهُ . قَالَ تَعَالَى : { يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } وَكَانُوا قَدْ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ . قَالَ تَعَالَى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } .