تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)

التحليل الموضوعي

متن:
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَ اسْتَقَرَّ إطْلَاقُهُ مِنْ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَإِلَى الْآنِ : مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْمُرَتَّبِ لِلْمُرْتَزَقِينَ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ . فَمِنْهُمْ الْفَقِيرُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ عَائِلَةٌ كَثِيرَةٌ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ وَكَسْبُهُ لَا يَقُومُ بِكُلْفَتِهِمْ . وَمِنْهُمْ الْمُنْقَطِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ يَتَسَبَّبُ بِهِ [ وَ ] لَا يُحْسِنُ صَنْعَةً يَصْنَعُهَا . وَمِنْهُمْ الْعَاجِزُ عَنْ الْحَرَكَةِ لِكِبَرِ أَوْ ضَعْفٍ . وَمِنْهُمْ الصَّغِيرُ دُونَ الْبَالِغِ وَالنِّسَاءُ الْأَرَامِلُ وَذَوُو الْعَاهَاتِ . وَمِنْهُمْ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْعِلْمِ الشَّرِيفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمِنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ نَفْعٌ عَامٌّ وَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ نَصِيبٌ . وَمِنْهُمْ أَرْبَابُ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ الْمُتَجَرِّدُونَ لِلْعِبَادَةِ وَتَلَقِّي الْوَارِدِينَ : مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ . وَمِنْهُمْ أَيْتَامُ الْمُسْتَشْهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَوْلَادِ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُخْلِفْ لَهُ مَا يَكْفِيهِ وَمِمَّنْ يَسْأَلُ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ فَأَحْيَاهَا أَوْ اسْتَصْلَحَ أَحْرَاسًا عَالِيَةً لِتَكُونَ لَهُ مُسْتَمِرَّةً بَعْدَ إصْلَاحِهَا فَاسْتَخْرَجَهَا فِي مُدَّةِ سِنِينَ عَدِيدَةٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ عَلَى جَارِي الْعَوَائِدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ . فَهَلْ تَكُونُ هَذِهِ الْأَسْبَابُ الَّتِي اتَّصَفُوا بِهَا مُسَوِّغَةً لَهُمْ تَنَاوُلَ مَا نَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْلَقَهُ لَهُمْ مُلُوكُ الْإِسْلَامِ وَنُوَّابُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَاسْتَقَرَّ بِأَيْدِيهِمْ إلَى الْآنِ أَمْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ يُنْزِلُهُمْ بِعَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَتَقَرَّبَ إلَى السُّلْطَانِ بِالسَّعْيِ بِقَطْعِ أَرْزَاقِهِمْ الْمُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ الزَّوَايَا وَمُعْظَمِ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ الَّتِي يَرْتَفِقُ بِهَا أَبْنَاءُ السَّبِيلِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُجَرَّدِينَ وَيَقُومُ بِهَا شِعَارُ الْإِسْلَامِ . هَلْ يَكُونُ بِذَلِكَ آثِمًا عَاصِيًا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يُكَلَّفَ هَؤُلَاءِ إثْبَاتُ اسْتِحْقَاقِهِمْ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ قِبَلِ أُولِي الْأَمْرِ . وَلَوْ كُلِّفُوا ذَلِكَ : فَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتُهُ عِنْدَ حَاكِمٍ بِعَيْنِهِ غَرِيبٍ مِنْ بِلَادِهِمْ مُتَظَاهِرٍ بِمُنَافِرَتِهِمْ مَعَ وُجُودِ عِدَّةٍ مِنْ الْحُكَّامِ غَيْرِهِ فِي بِلَادِهِمْ أَوْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ عَجَزَ مِنْهُمْ عَنْ الْإِثْبَاتِ لِضَعْفِهِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ ؟ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَالُ مِنْ أَنَّ شُهُودَ هَذَا الزَّمَانِ لَا يُؤَدُّونَ شَهَادَةً إلَّا بِأُجْرَةِ تُرْضِيهِمْ وَقَدْ يَعْجِزُ الْفَقِيرُ عَنْ مِثْلِهَا وَكَذَلِكَ النِّسْوَةُ اللَّاتِي لَا يَعْلَمُ الشُّهُودُ أَحْوَالَهُنَّ غَالِبًا . وَإِذَا سَأَلَ الْإِمَامُ حَاكِمًا عَنْ اسْتِحْقَاقِ مَنْ ذُكِرَ . فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ إلَّا الْأَعْمَى وَالْمُكَسَّحَ وَالزَّمِنَ لَا غَيْرُ وَاضْرِبْ عَمًّا سِوَاهُمْ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعٍ عَلَى حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ . هَلْ يَكُونُ بِذَلِكَ آثِمًا عَاصِيًا أَمْ لَا ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ؟ وَإِذَا سَأَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ . هَلْ يَسْتَحِقُّ مَنْ هُوَ بِهَا مَا هُوَ مُرَتَّبٌ لَهُمْ . فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الزَّوَايَا وَالرَّبْطَ دَكَاكِينُ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهِمْ الصُّلَحَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَحَمَلَةُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالْمُنْقَطِعِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . هَلْ يَكُونُ مُؤْذِيًا لَهُمْ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ هَذَا الْقَوْلِ الْمُطْلَقِ فِيهِمْ - مَعَ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِجَمِيعِهِمْ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ إذَا تَبَيَّنَ سُقُوطُهُ وَبُطْلَانُهُ - هَلْ تَسْقُطُ بِذَلِكَ رِوَايَتُهُ وَمَا عَدَاهَا مِنْ أَخْبَارِهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لِلْمَقْذُوفِينَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّعْنِ عَلَيْهِمْ الْمُؤَدِّي عِنْدَ الْمُلُوكِ إلَى قَطْعِ أَرْزَاقِهِمْ وَأَنْ يُكَلَّفُوهُ إثْبَاتُ ذَلِكَ . وَإِذَا عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِهِ فَهَلْ لَهُمْ مُطَالَبَتُهُ بِمُقْتَضَاهُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا عَجَزَ عَنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ هَلْ يَكُونُ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ وَجَرْحِهِ : يَنْعَزِلُ بِهَا عَنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ أَمْ لَا ؟ وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ وَهُمْ لَهُ فِي غَايَةِ الْكَرَاهَةِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ بِهِمْ وَقَدْ جَاءَ : { لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ } ؟ ؟ .
12
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ الْفَقِيرُ أَشَدُّ حَاجَةً أَوْ الْمِسْكِينُ ؟ أَوْ الْفَقِيرُ مَنْ يَتَعَفَّفُ وَالْمِسْكِينُ مَنْ يَسْأَلُ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لَهُمْ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مَا يَكْفِيهِ سَوَاءٌ كَانَ لُبْسُهُ لُبْسَ الْفَقِيرِ الِاصْطِلَاحِيِّ أَوْ لِبَاسَ الْجُنْدِ وَالْمُقَاتِلَةِ أَوْ لُبْسَ الشُّهُودِ أَوْ لُبْسَ التُّجَّارِ أَوْ الصُّنَّاعِ أَوْ الْفَلَّاحِينَ فَالصَّدَقَةُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا صِنْفٌ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ ; بَلْ كُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ كِفَايَةٌ تَامَّةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ : مِثْلُ الصَّانِعِ الَّذِي لَا تَقُومُ صَنْعَتُهُ بِكِفَايَتِهِ وَالتَّاجِرِ الَّذِي لَا تَقُومُ تِجَارَتُهُ بِكِفَايَتِهِ وَالْجُنْدِيِّ الَّذِي لَا يَقُومُ إقْطَاعُهُ بِكِفَايَتِهِ . وَالْفَقِيرِ وَالصُّوفِيِّ الَّذِي لَا يَقُومُ مَعْلُومُهُ مِنْ الْوَقْفِ بِكِفَايَتِهِ وَالشَّاهِدِ وَالْفَقِيهِ الَّذِي لَا يَقُومُ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِكِفَايَتِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي رِبَاطٍ أَوْ زَاوِيَةٍ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ كِفَايَتِهِ . فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُسْتَحِقُّونَ . وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيًّا ; فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ : { لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانُوا مِنْ أَصْنَافِ الْقِبْلَةِ . وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مُنَافِقًا أَوْ مُظْهِرًا لِبِدْعَةِ تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ بِدَعِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ ; فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ . وَمِنْ عُقُوبَتِهِ أَنْ يُحْرَمَ حَتَّى يَتُوبَ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ زِنْدِيقًا كَالْحُلُولِيَّةِ والمباحية وَمَنْ يُفَضِّلُ مَتْبُوعَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ اتِّبَاعُ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَنَّهُ إذَا حَصَلَتْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ وَالتَّحْقِيقُ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَوْ أَنَّ الْعَارِفَ الْمُحَقِّقَ يَجُوزُ لَهُ التَّدَيُّنُ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مُنَافِقُونَ زَنَادِقَةٌ وَإِذَا ظَهَرَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ كَثِيرُونَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ . وَعَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ مَعَ إعْطَاءِ الْفُقَرَاءِ ; بَلْ وَالْأَغْنِيَاءِ : بِأَنْ يُلْزِمُوا هَؤُلَاءِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يُمَكِّنُوا أَحَدًا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ ادَّعَى مِنْ الدَّعَاوَى مَا ادَّعَاهُ وَلَوْ زَعَمَ أَنَّهُ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ . وَمَنْ كَانَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَمْ تَشْغَلُهُمْ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ الْكَسْبِ قَادِرًا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ وَلَا لَقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ } وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مَنْ يَصْنَعُ بِهَا دَعْوَةً وَضِيَافَةً لِلْفُقَرَاءِ وَلَا يُقِيمُ بِهَا سِمَاطًا ; لَا لِوَارِدِ وَلَا غَيْرِ وَارِدٍ ; بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْطِيَ مُلْكًا لِلْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ ; بِحَيْثُ يُنْفِقُهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فِي بَيْتِهِ إنْ شَاءَ وَيَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ وَيَصْرِفُهَا فِي حَاجَاتِهِ . وَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُنْكِرُ صَرْفَ الصَّدَقَاتِ وَفَاضِلِ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ . وَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالْعِلْمِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كُفْرًا بِالدِّينِ ; بَلْ بِسَائِرِ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ أَوْ يَكُونُ النَّقْلُ عَنْهُ كَذِبًا أَوْ مُحَرَّفًا . فَإِمَّا مَنْ هُوَ مُتَوَسِّطٌ فِي عِلْمٍ وَدِينٍ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ . وَلَكِنْ قَدْ اخْتَلَطَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْمُرَتَّبَةِ السُّلْطَانِيَّةِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ . فَأَقْوَامٌ كَثِيرُونَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَالدِّينِ وَالْعِلْمِ لَا يُعْطَى أَحَدُهُمْ كِفَايَتَهُ وَيَتَمَزَّقُ جَوْعًا وَهُوَ لَا يَسْأَلُ وَمَنْ يَعْرِفُهُ فَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِ . وَأَقْوَامٌ كَثِيرُونَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ . وَقَوْمٌ لَهُمْ رَوَاتِبُ أَضْعَافُ حَاجَاتِهِمْ . وَقَوْمٌ لَهُمْ رَوَاتِبُ مَعَ غِنَاهُمْ وَعَدَمِ حَاجَاتِهِمْ . وَقَوْمٌ يَنَالُونَ جِهَاتٍ كَمَسَاجِدَ وَغَيْرِهَا فَيَأْخُذُونَ مَعْلُومَهَا وَيَسْتَثْنُونَ مَنْ يُعْطُونَ شَيْئًا يَسِيرًا . وَأَقْوَامٌ فِي الرَّبْطِ وَالزَّوَايَا يَأْخُذُونَ مَالًا يَسْتَحِقُّونَ وَيَأْخُذُونَ فَوْقَ حَقِّهِمْ وَيَمْنَعُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُمْ حَقَّهُ أَوْ تَمَامَ حَقِّهِ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . وَلَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ أَنَّ السَّعْيَ فِي تَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ غَيْرِهِ وَإِعْطَاءَ الْوِلَايَاتِ وَالْأَرْزَاقِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا وَالْعَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَفِعْلَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ : هُوَ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ وُلَاةِ الْأُمُورِ ; بَلْ وَمِنْ أَوْجَبِهَا عَلَيْهِمْ ; فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْعَدْلُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ . وَكَمَا أَنَّ النَّظَرَ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ وَالتَّعْدِيلَ بَيْنَهُمْ ; وَزِيَادَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ وَنُقْصَانَ مَنْ يَسْتَحِقُّ النُّقْصَانَ وَإِعْطَاءَ الْعَاجِزِ عَنْ الْجِهَادِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : هُوَ مِنْ أَحْسَنِ أَفْعَالِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَأُوجِبْهَا فَكَذَلِكَ النَّظَرُ فِي حَالِ سَائِرِ الْمُرْتَزَقِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْمَصَالِحِ وَالْوُقُوفِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ وَإِعْطَاءِ الْمُسْتَحِقِّ تَمَامَ كِفَايَتِهِ وَمَنْعِ مَنْ دَخَلَ فِي الْمُسْتَحِقِّينَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ أَنْ يُزَاحِمَهُمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ . وَإِذَا ادَّعَى الْفَقْرَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْغِنَى وَطَلَبِ الْأَخْذِ مِنْ الصَّدَقَاتِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِلَا بَيِّنَةٍ بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيِّ وَلَا لَقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ ; { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلَانِ مِنْ الصَّدَقَةِ فَلَمَّا رَآهُمَا جَلْدَيْنِ صَعِدَ فِيهَا النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ . فَقَالَ : إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيِّ وَلَا لَقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ } . وَأَمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ عِيَالًا . فَهَلْ يَفْتَقِرُ إلَى بَيِّنَةٍ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَانِ : هُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ فِيهِ : يَفْتَقِرُ إلَى بَيِّنَةٍ . فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ مِنْ الشُّهُودِ الْمُعَدِّلِينَ ; بَلْ يَجِبُ أَنَّهُمْ لَمْ يَرْتَزِقُوا عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ إذَا أَخَذُوا عَلَيْهَا رِزْقًا لَا سِيَّمَا مَعَ الْعِلْمِ بِكَثْرَةِ مَنْ يَشْهَدُ بِالزُّورِ ; وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الشُّهُودَ فِي الشَّامِ الْمُرْتَزِقَةَ بِالشَّهَادَةِ لَا يَشْهَدُونَ فِي الاجتهاديات كَالْأَعْشَارِ وَالرُّشْدِ وَالْعَدَالَةِ وَالْأَهْلِيَّةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; بَلْ يَشْهَدُونَ بِالْحِسِّيَّاتِ كَاَلَّذِي سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ ; فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بالاجتهاديات يَدْخُلُهَا التَّأْوِيلُ وَالتُّهَمُ فَالْجُعْلُ يُسَهِّلُ الشَّهَادَةَ فِيهَا بِغَيْرِ تَحَرٍّ ; بِخِلَافِ الْحِسِّيَّاتِ ; فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا كَذِبٌ صَرِيحٌ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ يُقَدَّمُ عَلَى صَرِيحِ الزُّورِ . وَهَؤُلَاءِ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِهِمْ ; بَلْ إذَا أَتَى الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمَنْ يُعْرَفُ صِدْقُهُ مِنْ جِيرَانِهِ وَمَعَارِفِهِ وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ . وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ بِالرَّبْطِ وَالزَّوَايَا غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ بَاطِلٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ . كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِيهِمْ مُسْتَحِقٌّ لِمَا يَأْخُذُهُ هُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا فَلَا هَذَا وَلَا هَذَا ; بَلْ فِيهِمْ الْمُسْتَحِقُّ الَّذِي يَأْخُذُ حَقَّهُ . وَفِيهِمْ مَنْ يَأْخُذُ فَوْقَ حَقِّهِ . وَفِيهِمْ مَنْ لَا يُعْطَى إلَّا دُونَ حَقِّهِ . وَفِيهِمْ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ . حَتَّى إنَّهُمْ فِي الطَّعَامِ الَّذِي يَشْتَرِكُونَ فِيهِ يُعْطَى أَحَدُهُمْ أَفْضَلَ مِمَّا يُعْطَى الْآخَرُ وَإِنْ كَانَ أَغْنَى مِنْهُ ; خِلَافَ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْعَدْلِ الَّذِينَ يُسَوُّونَ فِي الطَّعَامِ بِالْعَدْلِ كَمَا يُعْمَلُ فِي رِبَاطَاتِ أَهْلِ الْعَدْلِ . وَأَمَرَ وَلِيُّ الْأَمْرِ هَؤُلَاءِ بِجَمِيعِ [ مَا ذُكِرَ ] هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ وَأَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ . وَمَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْحُكَّامِ : مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا الْأَعْمَى وَالْمُكَسَّحَ وَالزَّمِنَ . قَوْلٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُولَ هَذَا حَاكِمٌ مِمَّنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ أَوْ أَفْجَرِهِمْ . فَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جُرْحِهِ كَمَا أَنَّهُ إنْ كَانَ النَّاقِلُ لِهَذَا عَنْ حَاكِمٍ قَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تُرْدِعُهُ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الْمُفْتَرِينَ عَلَى النَّاسِ . وَعُقُوبَةُ الْإِمَامِ لِلْكَذَّابِ الْمُفْتَرِي عَلَى النَّاسِ وَالْمُتَكَلِّمِ فِيهِمْ وَفِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لِمَا يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ : لَا يَحْتَاجُ إلَى دَعْوَاهُمْ ; بَلْ الْعُقُوبَةُ فِي ذَلِكَ جَائِزَةٌ بِدُونِ دَعْوَى أَحَدٍ كَعُقُوبَتِهِ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ : فَيَحْدُثُ بِلَا عِلْمٍ وَيُفْتِي بِلَا عِلْمٍ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ . فَعُقُوبَةُ كُلِّ هَؤُلَاءِ جَائِزَةٌ بِدُونِ دَعْوَى . فَإِنَّ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَالتَّكَلُّمَ فِي الدِّينِ وَفِي النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ : كَثِيرٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْأَعْمَى وَالزَّمِنُ وَالْمُكَسَّحُ . فَقَدْ أَخْطَأَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِأَصْنَافِ : مِنْهُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إطْلَاقُ كِفَايَتِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ : فَقَدْ أَخْطَأَ ; بَلْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الزِّكْوَاتِ بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا مِنْ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ - وَلَوْ قَدَرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِنْ الزَّكَوَاتِ مَا يَكْفِيهِمْ وَأَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَانَ إعْطَاءُ الْعَاجِزِ مِنْهُمْ عَنْ الْكَسْبِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ . فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا أَنْ يُطْعِمُوا الْجَائِعَ وَيَكْسُوا الْعَارِيَ وَلَا يَدْعُوا بَيْنَهُمْ مُحْتَاجًا . وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ الْفَاضِلِ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا . وَأَمَّا مَنْ يَأْخُذُ بِمَصْلَحَةِ عَامَّةٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مَعَ حَاجَتِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَ الْغَنِيِّ - كَالْقَاضِي وَالشَّاهِدِ وَالْمُفْتِي وَالْحَاسِبِ وَالْمُقْرِي وَالْمُحْدِثِ إذَا كَانَ غَنِيًّا ؟ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَزِقَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَعَ غِنَاهُ ؟ - قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ عِنَايَةَ الْإِمَامِ بِأَهْلِ الْحَاجَاتِ تَجِبُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ عِنَايَتِهِ بِأَهْلِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهَا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ كَالْجِهَادِ وَالْوِلَايَةِ وَالْعِلْمِ : لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ أَنْ يُقَدَّمَ أَهْلُ الْمَنْفَعَةِ الْعَامَّةِ . وَأَمَّا مَالُ الصَّدَقَاتِ فَيَأْخُذُهُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَأْخُذُ بِحَاجَتِهِ : كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ لِمَصْلَحَةِ أَنْفُسِهِمْ وَابْنِ السَّبِيلِ . وَقَوْمٌ يَأْخُذُونَ لِمَنْفَعَتِهِمْ : كَالْعَامِلِينَ وَالْغَارِمِينَ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ . كَمَنَ فِيهِ نَفْعٌ عَامٌّ : كَالْمُقَاتِلَةِ وَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَلَيْسَ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ أَحَقَّ مِنْ الْآخَرِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا وَهَذَا . الثَّانِي : أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْقَائِمَيْنِ بِالْمَصَالِحِ مِنْ الْجِهَادِ وَالْوِلَايَاتِ وَالْعِلْمِ مِنْ فَسَادِ النِّيَّةِ مُعَارَضٌ بِمَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْ الْفِسْقِ وَالزَّنْدَقَةِ . وَكَمَا أَنَّ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ صَالِحِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ فَفِي الْمُجَاهِدِينَ وَالْعُلَمَاءِ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ ; مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانُوا . وَمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَالْعِلْمِ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ . فَإِنَّ سَادَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانُوا كَذَلِكَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ الْيَوْمَ فِي زَمَانِنَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ وَالْعُلَمَاءِ إنَّمَا يَتَّخِذُونَ الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ وَالِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ مَعِيشَةً دُنْيَوِيَّةً يُحَامُونَ بِهَا عَنْ الْجَاهِ وَالْمَالِ وَأَنَّهُمْ عُصَاةٌ بِقِتَالِهِمْ وَاشْتِغَالِهِمْ مَعَ انْضِمَامِ مَعَاصٍ وَمَصَائِبَ أُخْرَى لَا يَتَّسِعُ الْحَالُ لَهَا . وَالْمُجَاهِدُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَالْمُعَلِّمُ لِيَكُونَ التَّعَلُّمُ مَحْضَ التَّقَرُّبِ : قَلِيلُ الْوُجُودِ أَوْ مَفْقُودٌ . فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْإِخْلَاصَ وَاتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِيمَنْ لَا يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّنْ يَأْكُلُ الْأَمْوَالَ بِذَلِكَ ; بَلْ وَالزَّنْدَقَةُ . . . نُعَارِضُهُ بِمَا هُوَ أَصْدَقُ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الرَّبْطِ وَالزَّوَايَا والمتظاهرين لِلنَّاسِ بِالْفَقْرِ إنَّمَا يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ مَعِيشَةً دُنْيَوِيَّةً هَذَا مَعَ انْضِمَامِ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَمَصَائِبَ لَا يَتَّسِعُ الْحَالُ لِقَوْلِهَا ; بِمِثْلِ دَعْوَى الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي الْعِبَادِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ . وَكَذَلِكَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ بَارٌّ وَفَاجِرٌ وَصِدِّيقٌ وَزِنْدِيقٌ . وَالْوَاجِبُ مُوَالَاةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَبُغْضُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَالْفَاسِقُ الْمَلِيُّ يُعْطَى مِنْ الْمُوَالَاةِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَيُعْطَى مِنْ الْمُعَادَاةِ بِقَدْرِ فِسْقِهِ ; فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْفَاسِقَ الْمَلِيَّ لَهُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إذَا لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ . وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مِنْ الْفُسَّاقِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ . بَلْ يُخَلَّدُ فِيهَا الْمُنَافِقُونَ كَمَا يُخَلَّدُ فِيهَا الْمُتَظَاهِرُونَ بِالْكُفْرِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ : غَالِبُ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْجُنْدِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهِمْ مَحَاوِيجُ أَيْضًا ; بَلْ غَالِبُهُمْ لَيْسَ لَهُ رِزْقٌ إلَّا الْعَطَاءَ . وَمَنْ يَأْخُذُ لِلْمَنْفَعَةِ وَالْحَاجَةُ أَوْلَى مِمَّنْ يَأْخُذُ بِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ : الْعَطَاءُ إذَا كَانَ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُنْظَرْ إلَى الْآخِذِ هَلْ هُوَ صَالِحُ النِّيَّةِ أَوْ فَاسِدُهَا . وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ أَعْطَى ذَوِي الْحَاجَاتِ الْعَاجِزِينَ عَنْ الْقِتَالِ وَتَرَكَ إعْطَاءَ الْمُقَاتِلَةِ حَتَّى يُصْلِحُوا نِيَّاتِهِمْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ لَاسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ ; فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْعَطَايَا فِي الْقُلُوبِ مُتَعَذَّرٌ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ } وَقَالَ : { إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا وَأَدَعُ رِجَالًا وَاَلَّذِينَ أَدَعُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الَّذِينَ أُعْطِي . أُعْطِي رِجَالًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ وَأَكِلُ رِجَالًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ } وَقَالَ : { إنِّي لَأُعْطِي أَحَدَهُمْ الْعَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ ؟ قَالَ يَأْبُونَ إلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ } . وَلَمَّا كَانَ عَامَ حنين قَسَمَ غَنَائِمَ حنين بَيْنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وَالطُّلَقَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ كعيينة بْنِ حِصْنٍ وَالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَأَمْثَالِهِمْ . وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَصَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْن أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الطُّلَقَاءِ الَّذِينَ أَطْلَقَهُمْ عَامَ الْفَتْحِ وَلَمْ يُعْطِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ شَيْئًا . أَعْطَاهُمْ لِيَتَأَلَّفَ بِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَأْلِيفُهُمْ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ . وَاَلَّذِينَ لَمْ يُعْطِهِمْ هُمْ أَفْضَلُ عِنْدِهِ وَهُمْ سَادَاتٌ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَأَفْضَلُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ بَعْد النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَاَلَّذِينَ أَعْطَاهُمْ مِنْهُمْ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَعَامَّتُهُمْ أَغْنِيَاءُ لَا فُقَرَاءُ . فَلَوْ كَانَ الْعَطَاءُ لِلْحَاجَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَطَاءِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لَمْ يُعْطِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَؤُلَاءِ الْأَغْنِيَاءَ السَّادَةَ الْمُطَاعِينَ فِي عَشَائِرِهِمْ وَيَدَعُ عَطَاءَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ هُمْ أَحْوَجُ مِنْهُمْ وَأَفْضَلُ . وَبِمِثْلِ هَذَا طَعَنَ الْخَوَارِجُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { وَقَالَ لَهُ أَوَّلُهُمْ : يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ فَإِنَّك لَمْ تَعْدِلْ وَقَالَ : إنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى . حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيْحُك وَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ لَقَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَعْدِلْ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا . فَقَالَ : إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ . يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . وَهَؤُلَاءِ خَرَجُوا عَلَى عَهْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَتَلَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ جَمِيعَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ صَوْمِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ . فَأُخْرِجُوا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَهُمْ قَوْمٌ لَهُمْ عِبَادَةٌ وَوَرَعٌ وَزُهْدٌ ; لَكِنْ بِغَيْرِ عِلْمٍ . فَاقْتَضَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَطَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا لِذَوِي الْحَاجَاتِ وَأَنَّ إعْطَاءَ السَّادَةِ الْمُطَاعِينَ الْأَغْنِيَاءِ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهِ بِزَعْمِهِمْ . وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ ; فَإِنَّ الْعَطَاءَ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَصْلَحَةِ دِينِ اللَّهِ . فَكُلَّمَا كَانَ لِلَّهِ أَطْوَعَ وَلِدِينِ اللَّهِ أَنْفَعَ كَانَ الْعَطَاءُ فِيهِ أَوْلَى . وَعَطَاءٌ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فِي إقَامَةِ الدِّينِ وَقَمْعِ أَعْدَائِهِ وَإِظْهَارِهِ وَإِعْلَائِهِ أَعْظَمُ مِنْ إعْطَاءِ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَحْوَجَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ أَنَّ هَذِهِ الْقُيُودَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ دُونَ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَا نَقَلَهُ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ . فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ بِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ فِي الْعَطَاءِ . وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً فَفِيهَا لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّهُ يَجِبُ قَسْمُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ إلَّا أَنْ يَسْتَطِيبَ أَنْفُسُهُمْ فَيَقِفُهَا وَذُكِرَ فِي " الْأُمِّ " أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِوَقْفِهَا مِنْ غَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ نُقِضَ حُكْمُهُ ; لَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ; لَكِنَّ جُمْهُورَ الْأَئِمَّةِ خَالَفُوا الشَّافِعِيَّ فِي ذَلِكَ وَرَأَوْا أَنَّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ جَعْلِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً فَيْئًا حَسَنٌ جَائِزٌ وَأَنَّ عُمَرَ حَبَسَهَا بِدُونِ اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِ الْغَانِمِينَ . وَلَا نِزَاعَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ فَتَحَهَا عُمَرُ بِالشَّامِ عَنْوَةً . وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا لَمْ يُقَسِّمْهَا عُمَرُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَإِنَّمَا قَسَمَ الْمَنْقُولَاتِ لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ - وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي - أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ . وَقَدْ صَنَّفَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ إمَامُ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ بِمَا نَازَعَ بِهِ الشَّافِعِيَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَكَلَّمَ عَلَى حُجَجِهِ . وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد كَالْقَوْلَيْنِ ; لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي مَذْهَبِهِ هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ ; أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ : وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ يَفْعَلُ فِيهَا مَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَسْمِهَا أَوْ حَبْسِهَا ; فَإِنْ رَأَى قَسْمَهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ فَعَلَ وَإِنْ رَأَى أَنْ يَدَعَهَا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ بِنِصْفِ خَيْبَرَ وَأَنَّهُ قَسَمَ نِصْفَهَا وَحَبَسَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ وَأَنَّهُ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ . فَعُلِمَ أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ يَجُوزُ قَسَمُهَا وَيَجُوزُ تَرْكُ قَسْمِهَا . وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا كَبِيرًا . إذَا عُرِفَ ذَلِكَ : فَمِصْرُ هِيَ مِمَّا فُتِحَ عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا عُمَرُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ : مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ; لَكِنْ تَنَقَّلَتْ أَحْوَالُهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تَنَقَّلَتْ أَحْوَالُ الْعِرَاقِ . فَإِنَّ خُلَفَاءَ بَنِي الْعَبَّاسِ نَقَلُوهُ إلَى الْمُقَاسَمَةِ بَعْدَ الْمُخَارَجَةِ وَهَذَا جَائِزٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ مِصْرُ رُفِعَ عَنْهَا الْخَرَاجُ مِنْ مُدَّةٍ لَا أَعْلَمُ ابْتِدَاءَهَا وَصَارَتْ الرَّقَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا جَائِزٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا مَذْهَبُ عُمَرَ فِي الْفَيْءِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِيهِ حَقًّا ; لَكِنَّهُ يُقَدِّمُ الْفُقَرَاءَ وَأَهْلَ الْمَنْفَعَةِ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ إنَّمَا هُوَ الرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَسَابِقَتُهُ وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ . فَكَانَ يُقَدِّمُ فِي الْعَطَاءِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَكَانَتْ سِيرَتُهُ التَّفْضِيلَ فِي الْعَطَاءِ بِالْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ . وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ إذَا اسْتَوَوْا فِي الْحَاجَةِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ فِي دِينِهِ . وَقَالَ : إنَّمَا أَسْلَمُوا لِلَّهِ وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا بَلَاغٌ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : اسْتَوَى فِيهِمْ إيمَانُهُمْ - يَعْنِي أَنَّ حَاجَتَهُمْ إلَى الدُّنْيَا وَاحِدَةٌ - فَأُعْطِيهِمْ لِذَلِكَ ; لَا لِلسَّابِقَةِ وَالْفَضِيلَةِ فِي الدِّينِ ; فَإِنَّ أَجْرَهُمْ يَبْقَى عَلَى اللَّهِ . فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي الْحَاجَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ . وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ قَالَ : لَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَجْعَلَنَّ النَّاسَ ببانا وَاحِدًا . أَيْ : ماية وَاحِدَةً . أَيْ : صِنْفًا وَاحِدًا . وَتَفْضِيلُهُ كَانَ بِالْأَسْبَابِ الْأَرْبِعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا : الرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ وَهُوَ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ . وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ . وَهُوَ الَّذِي يُغْنِي عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَصَالِحِهِمْ لِوُلَاةِ أُمُورِهِمْ وَمُعَلِّمِيهِمْ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ . وَالرَّجُلُ وَسَابِقَتُهُ . وَهُوَ مَنْ كَانَ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ ; فَإِنَّهُ كَانَ يُفَضِّلُهُمْ فِي الْعَطَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ . وَالرَّجُلُ وَفَاقَتُهُ . فَإِنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ الْفُقَرَاءَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَهَذَا ظَاهِرٌ ; فَإِنَّهُ مَعَ وُجُودِ الْمُحْتَاجِينَ كَيْفَ يُحْرِمُ بَعْضَهُمْ وَيُعْطِي لِغَنِيِّ لَا حَاجَةَ لَهُ وَلَا مَنْفَعَةَ بِهِ ; لَا سِيَّمَا إذَا ضَاقَتْ أَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ عَنْ إعْطَاءِ كُلِّ الْمُسْلِمِينَ غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْغَنِيَّ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ عَامٌّ وَيَحْرِمُ الْفَقِيرَ الْمُحْتَاجَ بَلْ الْفَقِيرُ النَّافِعُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَعْطَى مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَكَانَتْ لِلْمُهَاجِرِينَ لِفَقِيرِهِمْ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا شَيْئًا لِغِنَاهُمْ ; إلَّا أَنَّهُ أَعْطَى بَعْضَ الْأَنْصَارِ لِفَقْرِهِ } . وَفِي السُّنَنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَتَاهُ مَالٌ أَعْطَى الْآهِلَ قِسْمَيْنِ وَالْعَزَبَ قَسَمًا } فَيُفَضِّلُ الْمُتَأَهِّلَ عَلَى الْمُتَعَزِّبِ ; لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ . وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو داود وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَفْظُهُ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ مِنْ يَوْمِهِ فَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ وَأَعْطَى الْعَزَبَ حَظًّا } . وَحَدِيثُ عُمَرَ رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو داود . وَلَفْظُ أَبِي داود عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ : ذَكَرَ عُمَرُ يَوْمًا الْفَيْءَ فَقَالَ : مَا أَنَا بِأَحَقَّ بِهَذَا الْفَيْءِ مِنْكُمْ وَمَا أَحَدٌ مِنَّا بِأَحَقَّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا أَنَا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ . الرَّجُلُ وَقَدَمُهُ وَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ . وَلَفْظُ أَحْمَد قَالَ : كَانَ عُمَرُ يَحْلِفُ عَلَى أَيْمَانٍ ثَلَاثٍ : وَاَللَّهِ مَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ وَمَا أَنَا أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ ووالله مَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ إلَّا عَبْدًا مَمْلُوكًا وَلَكِنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ . فَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالرَّجُلُ وَقَدَمُهُ وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ . وَاَللَّهِ لَئِنْ بَقِيت لَهُمْ لأوتين الرَّاعِيَ بِجَبَلِ صَنْعَاءَ حَظُّهُ فِي هَذَا الْمَالِ وَهُوَ يَرْعَى مَكَانَهُ " . فَهَذَا كَلَامُ عُمَرَ الَّذِي يَذْكُرُ فِيهِ بِأَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ حَقًّا . يَذْكُرُ فِيهِ تَقْدِيمَ أَهْلِ الْحَاجَاتِ . وَلَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنَّ يُعْطِيَ الْأَغْنِيَاءَ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمْ وَيُحْرِمُ الْفُقَرَاءَ ; فَإِنَّ هَذَا مُضَادٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } فَإِذَا جَعَلَ الْفَيْءَ مُتَدَاوَلًا بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ فَهَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَأَمَّا نَقْلُ النَّاقِلِ مَذْهَبَ مَالِكٍ بِأَنَّ فِي " الْمُدَوَّنَةِ " وَجِزْيَةُ جَمَاجِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَخَرَاجُ الْأَرْضِينَ مَا كَانَ مِنْهَا عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا . فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ جِزْيَةٌ . وَالْجِزْيَةُ عِنْدَهُ فَيْءٌ . قَالَ : وَيُعْطَى هَذَا الْفَيْءُ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ افْتَتَحُوهَا عَنْوَةً أَوْ صَالَحُوا عَلَيْهَا فَيُقْسِمُ عَلَيْهِمْ وَيُفَضِّلُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ مِنْ الْفَيْءِ وَيَبْدَأُ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ حَتَّى يَغْنَوْا مِنْهُ وَلَا يَخْرُجَ إلَى غَيْرِهِمْ إلَّا أَنْ يَنْزِلَ بِقَوْمِ حَاجَةٌ فَيُنْقَلُ إلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَ أَهْلَهُ مِنْهُ مَا يُغْنِيهِمْ ; عَنْ الِاحْتِيَاجِ . وَقَالَ أَيْضًا : قَالَ مَالِكٌ : وَأَمَّا جِزْيَةُ الْأَرْضِ فَمَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ يُصْنَعُ فِيهَا إلَّا أَنَّ عُمَرَ قَدْ أَقَرَّ الْأَرْضَ فَلَمْ يَقْسِمْهَا بَيْنَ الَّذِينَ افْتَتَحُوهَا . وَأَرَى لِمَنْ يَنْزِلُ ذَلِكَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ مَنْ يَرْضَاهُ فَإِنْ وُجِدَ عَالِمًا يَسْتَفْتِيهِ وَإِلَّا اجْتَهَدَ هُوَ وَمَنْ بِحَضْرَتِهِ رَأْسًا . وَأَمَّا إحْيَاءُ الْمَوَاتِ فَجَائِزٌ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ . وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ الْعُمْرَانِ بِحَيْثُ لَا تُبَاحُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إذْنِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا قَرُبَ مِنْ الْعُمْرَانِ وَيُبَاحُ النَّاسُ فِيهِ افْتَقَرَ إلَى إذْنِهِ . لَكِنْ إنْ كَانَ الْإِحْيَاءُ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ . فَهَلْ يُمَلَّكُ بِالْأَحْيَاءِ وَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ بِيَدِهِ وَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا مَنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ فَإِنَّهُ تُرْزَقُ امْرَأَتُهُ وَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ . وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَغَيْرِهِمَا فَيُنْفَقُ عَلَى امْرَأَتِهِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَعَلَى ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَعَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَبْلُغَ . ثُمَّ يُجْعَلُ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ إنْ كَانَ يَصْلُحُ لِلْقِتَالِ ; وَإِلَّا إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَاَلَّذِينَ يُعْطُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ وَفَاضِلُ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ : أُعْطِيَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا . وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مُسْتَقِيمًا أَمْرُهُ ; بِحَيْثُ لَا يُوضَعُ مَالُهُ إلَّا فِي حَقِّهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ . فَمَنْ صَرَّفَ بَعْضَ أَعْيَانِهِ أَوْ مَنَافِعِهِ فِي جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي هِيَ مَصَارِفُ بَيْتِ الْمَالِ ; كَعِمَارَةِ طَرِيقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَقَدْ تَعَدَّى بِذَلِكَ ; إذْ وِلَايَتُهُ إلَى الْإِمَامِ ثُمَّ الْإِمَامُ يَفْعَلُ الْأَصْلَحَ فَإِنْ كَانَ نَقْضُ ذَلِكَ أَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ نَقَضَ التَّصَرُّفَ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ إقْرَارَهُ أَقَرَّهُ . وَكَذَلِكَ إنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْوَقْفِ وَالْيَتِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ النَّاظِرِ تَصَرُّفًا مِنْ جِنْسِ التَّصَرُّفِ الْمَشْرُوعِ كَأَنْ يُعَمِّرَ بِأَعْيَانِ مَالِهِ حَانُوتًا أَوْ دَارًا فِي عَرْصَةِ الْوَقْفِ أَوْ الْيَتِيمِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ أَمَرَ بَيْتَ الْمَالِ مُضْطَرِبًا . فَقَالَ الْفُقَهَاءُ : مَنْ صَرَّفَ بَعْضَ أَعْيَانِهِ أَوْ مَنَافِعِهِ فِي جِهَةِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ ; بَلْ كَانَ التَّصَرُّفُ وَاقِعًا عَلَى جِهَةِ الْمَصْلَحَةِ . فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ نَقْضُ التَّصَرُّفِ وَلَا تَضْمِينُ الْمُتَصَرِّفِ ; مَعَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ مَعْصِيَةُ الْإِمَامِ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا ; إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ . وَحُكْمُهُ أَوْ قَسْمُهُ إذَا وَافَقَ الْحَقَّ نَافِذٌ : بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا . وَأَمَّا إذَا تَصَرَّفَ الرَّجُلُ تَصَرُّفًا يُتَّهَمُ فِيهِ . مِثْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمَالَ لِنَفْسِهِ مُتَأَوِّلًا : إنَّ لِي حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَإِنِّي لَا أُعْطِي حَقِّي . فَهَذَا .