تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقُطْبُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ وَمَنْ عَمَّتْ بَرَكَاتُهُ أَهْلَ الْعِرَاقَيْنِ وَالشَّامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تيمية الحراني ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ مَتَّعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَاتِهِ كَانَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ . عَنْ رَجُلٍ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ قَالَ : أَكْلُ الْحَلَالِ مُتَعَذَّرٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ . فَقِيلَ لَهُ : لِمَ ذَلِكَ ؟ فَذَكَرَ : إنَّ وَقْعَةَ الْمَنْصُورَةِ لَمْ تُقَسَّمْ الْغَنَائِمُ فِيهَا وَاخْتَلَطَتْ الْأَمْوَالُ بِالْمُعَامَلَاتِ بِهَا . فَقِيلَ لَهُ : إنَّ الرَّجُلَ يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ وَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ حَلَالٌ . فَذَكَرَ إنَّ الدِّرْهَمَ فِي نَفْسِهِ حَرَامٌ . فَقِيلَ لَهُ : كَيْفَ قَبِلَ الدِّرْهَمُ التَّغَيُّرَ أَوَّلًا فَصَارَ حَرَامًا بِالسَّبَبِ الْمَمْنُوعِ وَلَمْ يَقْبَلْ التَّغَيُّرَ فَيَكُونُ حَلَالًا بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ ؟ ؟
1234567
فَأَجَابَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَمْدُ اللَّه . هَذَا الْقَائِلُ الَّذِي قَالَ : أَكْلُ الْحَلَالِ مُتَعَذَّرٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ غالط مُخْطِئٌ فِي قَوْلِهِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ ; فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ كَانَ يَقُولُهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ الْفَاسِدِ وَبَعْضُ أَهْلِ النُّسُكِ الْفَاسِدِ فَأَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ ذَلِكَ حَتَّى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي وَرَعِهِ الْمَشْهُورِ كَانَ يُنْكِرُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ . وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ النُّسَّاكِ فَذَكَرَ لَهُ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَقَالَ : اُنْظُرْ إلَى هَذَا الْخَبِيثِ يُحَرِّمُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ . يَقُولُ : مَنْ سَرَقَ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ ; لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمَعْصُومِ وَمِثْلُ هَذَا كَانَ يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْفَاسِدَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْأَمْوَالِ لِكَثْرَةِ الغصوب وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ الْحَلَالُ مِنْ الْحَرَامِ . وَوَقَعَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ مُصَنِّفِي الْفُقَهَاءِ فَأَفْتَوْا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مِقْدَارَ الضَّرُورَةِ وَطَائِفَةٌ لَمَّا رَأَتْ مِثْلَ هَذَا الْحَرَجِ سَدَّتْ بَابَ الْوَرَعِ . فَصَارُوا نَوْعَيْنِ : المباحية لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ; بَلْ الْحَلَالُ مَا حَلَّ بِأَيْدِيهِمْ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمُوهُ ; لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ وَهُوَ أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ طَبَّقَ الْأَرْضَ وَرَأَوْا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَصَارُوا يَتَنَاوَلُونَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَمْكَنَ . فَلْيَنْظُرْ الْعَاقِلُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْوَرَعِ الْفَاسِدِ كَيْفَ أَوْرَثَ الِانْحِلَالَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهَؤُلَاءِ يَحْكُونَ فِي الْوَرَعِ الْفَاسِدِ حِكَايَاتٍ بَعْضُهَا كَذِبٌ مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ وَبَعْضُهَا غَلَطٌ . كَمَا يَحْكُونَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد : أَنَّ ابْنَهُ صَالِحًا لَمَّا تَوَلَّى الْقَضَاءَ لَمْ يَكُنْ يَخْبِزُ فِي دَارِهِ وَأَنَّ أَهْلَهُ خَبَزُوا فِي تَنُّورِهِ فَلَمْ يَأْكُلْ الْخُبْزَ فَأَلْقَوْهُ فِي دِجْلَةَ فَلَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ مِنْ صَيْدِ دِجْلَةَ . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ وَالْفِرْيَةِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِمَامِ وَلَا يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا إلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ أَوْ أَعْظَمِهِمْ مَكْرًا بِالنَّاسِ وَاحْتِيَالًا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَقَدْ نَزَّهَهُ اللَّهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا . وَكُلُّ عَالِمٍ يَعْلَمُ أَنَّ ابْنَهُ لَمْ يَتَوَلَّ الْقَضَاءَ فِي حَيَاتِهِ وَإِنَّمَا تَوَلَّاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ; وَلَكِنْ كَانَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ قَدْ أَجَازَ أَوْلَادَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ جَوَائِزَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَأَمَرَهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ لَا يَقْبَلُوا جَوَائِزَ السُّلْطَانِ فَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ بِالْحَاجَةِ فَقَبِلَهَا مَنْ قَبِلَهَا مِنْهُمْ فَتَرَكَ الْأَكْلَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَالِانْتِفَاعَ بِنِيرَانِهِمْ فِي خُبْزٍ أَوْ مَاءٍ ; لِكَوْنِهِمْ قَبِلُوا جَوَائِزَ السُّلْطَانِ . وَسَأَلُوهُ عَنْ هَذَا الْمَالِ : أَحَرَامٌ هُوَ ؟ فَقَالَ : لَا . فَقَالُوا أَنَحُجُّ مِنْهُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ مِنْهُ لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى أَنْ يُدَاخِلَ الْخَلِيفَةَ فِيمَا يُرِيدُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذْ الْعَطَاءَ مَا كَانَ عَطَاءً فَإِذَا كَانَ عِوَضًا عَنْ دِينِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَأْخُذْهُ } وَلَوْ أُلْقِيَ فِي دِجْلَةَ الدَّمُ وَالْمَيْتَةُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَكُلُّ حَرَامٍ فِي الْوُجُودِ لَمْ يَحْرُمْ صَيْدُهَا وَلَمْ تَحْرُمْ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ آلَ بِهِ الْإِفْرَاطُ فِي الْوَرَعِ إلَى أَمْرٍ اجْتَهَدَ فِيهِ فَيُثَابُ عَلَى حُسْنِ قَصْدِهِ ; وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوعُ خِلَافَ مَا فَعَلَهُ . مِثْلَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ مَا فِي الْأَسْوَاقِ وَلَمْ يَأْكُلْ إلَّا مَا يَنْبُتُ فِي الْبَرَارِي وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ; وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْثِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فَاعِلُهُ حَسَنَ الْقَصْدِ وَلَا فِيمَا فَعَلَ تَأْوِيلٌ ; لَكِنَّ الصَّوَابَ الْمَشْرُوعَ خِلَافُ ذَلِكَ ; فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَأَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلُ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ . يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ } فَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ . كَمَا أَمَرَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِأَكْلِ وَشُرْبٍ وَلِبَاسٍ . وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ مَسْكَنٍ وَمَرْكَبٍ وَسِلَاحٍ يُقَاتِلُ بِهِ وَكُرَاعٍ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ وَكُتُبٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقُومُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ إلَّا بِهِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . فَإِذَا كَانَ الْقِيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ فَرْضًا عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ وَهِيَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ قَلِيلٌ ; بَلْ هُوَ كَثِيرٌ غَالِبٌ ; بَلْ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ . وَلَوْ كَانَ الْحَرَامُ هُوَ الْأَغْلَبَ وَالدِّينُ لَا يَقُومُ فِي الْجُمْهُورِ إلَّا بِهِ لَلَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ مِنْ أَكْثَرِ الْخَلْقِ . وَإِمَّا إبَاحَةُ الْحَرَامِ لِأَكْثَرِ الْخَلْقِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ . وَ " الْوَرَعُ " مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } { وَرَأَى تَمْرَةً سَاقِطَةً فَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتهَا } . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ أُصُولٍ : " أَحَدُهَا " : أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا اعْتَقَدَ فَقِيهٌ مُعَيَّنٌ أَنَّهُ حَرَامٌ كَانَ حَرَامًا ; إنَّمَا الْحَرَامُ مَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ قِيَاسٍ مُرَجِّحٍ لِذَلِكَ وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ رُدَّ إلَى هَذِهِ الْأُصُولِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ نَشَأَ عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ أَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا مُعَيَّنًا أَوْ سَمِعَ حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ فَيُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا غَلَطٌ وَلِهَذَا نَظَائِرُ .