وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ يَعْمَلُونَ عبيا يُدْخِلُونَ فِيهِ صُوفًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ يُسَمُّونَهُ " السَّلَّاقَةَ " فَيَخْلِطُونَهُ بِمَشَاقِّ الْكَتَّانِ تَدْلِيسًا مِنْهُمْ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ صُوفٌ جَيِّدٌ وَرُبَّمَا عَرَفَهُ التَّاجِرُ ; لَكِنَّ التَّاجِرَ يَكْتُمُ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَمَا يَجِبُ عَلَى صَانِعِهِ ؟ وَهَلْ يَتَّجِرُ فِيهِ وَيَكْتُمُهُ عَنْ مُشْتَرِيهِ ؟ وَمَا حُكْمُهُ فِي نَفْسِ عَمَلِهِ ؟ وَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ عَمِلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَمَا يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي ذَلِكَ إذَا كَانُوا يَخْلِطُونَ الْمَشَاقَّ فِي الصُّوفِ الْأَبْيَضِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَيَعُودُوا إلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ اللَّه لَيْسَ لِلصَّانِعِ أَنْ يَصْنَعَ ذَلِكَ وَلَا لِلْبَائِعِ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ فِيهِ عَيْبًا فَإِنَّ مِقْدَارَ الْغِشِّ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُشَابَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ لِلْبَيْعِ } بِخِلَافِ الشُّرْبِ فَإِذَا خُلِطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ لِلشُّرْبِ جَازَ وَأَمَّا لِلْبَيْعِ فَلَا وَلَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَخْلُوطٌ بِالْمَاءِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ الْخَلْطِ فَيَبْقَى الْبَيْعُ مَجْهُولًا وَهُوَ غَرَرٌ . وَهَكَذَا كُلَّمَا كَانَ مِنْ الْمَغْشُوشِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ قَدْرُ غِشِّهِ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ بَيْعِهِ وَعَنْ عَمَلِهِ لِمَنْ يَبِيعُهُ وَكَذَلِكَ خَلْطُ الْمُشَاقِّ بِالصُّوفِ الْأَبْيَضِ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الْغِشِّ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الْغِشِّ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ . وَقَدْ أَفْتَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا : أَنَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ هَذَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ بِتَمْزِيقِ الثَّوْبِ الَّذِي غَشَّهُ وَالتَّصَدُّقُ بِالطَّعَامِ الَّذِي غَشَّهُ كَمَا شَقَّ النَّبِيُّ ظُرُوفَ الْخَمْرِ وَكَسَرَ دِنَانَهَا وَكَمَا أَمَرَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِتَحْرِيقِ الْمَكَانِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَكَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُحَرِّقَ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَكَمَا حَرَّقَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعِجْلَ وَلَمْ يُعِدْهُ إلَى أَهْلِهِ وَكَمَا تُكْسَرُ آلَاتُ الْمَلَاهِي وَنَظَائِرُ هَذِهِ مُتَعَدِّدَةٌ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَاتِ فِي الْأَمْوَالِ تَتْبَعُ حَيْثُ جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ كَالْعُقُوبَاتِ بِالْأَبْدَانِ . وَادَّعَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَلَا حُجَّةَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ أَصْلًا فَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ إذَا قَامَ بِهِ الْفُجُورُ قَدْ يَتْلَفُ فَالْمَالُ الَّذِي قَامَ بِهِ صَنَعَةُ الْفُجُورِ - مِثْلُ الْأَصْنَامِ الْمَنْحُوتَةِ - يَجُوزُ تَكْسِيرُهَا وَتَحْرِيقُهَا كَمَا حَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَصْنَامَ كَذَلِكَ مَنْ صَنَعَ صَنْعَةً مُحَرَّمَةً مِنْ طَعَامٍ أَوْ لِبَاسٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .