تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)

التحليل الموضوعي

متن:
وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَسْلَفَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي رِطْلِ حَرِيرٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ جَاءَ الْأَجَلُ فَتَعَذَّرَ الْحَرِيرُ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الْحَرِيرِ ؟ أَوْ يَأْخُذَ عِوَضَهُ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ ؟ .
1
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد . إحْدَاهُمَا : لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ دَيْنِ السَّلَمِ بِغَيْرِهِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ } وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ مُتَأَخَّرِي أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الخرقي وَغَيْرُهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ دَيْنِ السَّلَمِ وَفِي الْمَبِيعِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَجَعَلَ دَيْنَ السَّلَمِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَبِيعَاتِ . فَإِذَا أَخَذَ عِوَضًا غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ بِقَدْرِ دَيْنِ السَّلَمِ حِينَ الِاعْتِيَاضِ لَا بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ أَوْ أَخَذَ مِنْ نَوْعِهِ بِقَدْرِهِ : مِثْلَ أَنْ يُسْلِمَ فِي حِنْطَةٍ فَيَأْخُذَ شَعِيرًا بِقَدْرِ الْحِنْطَةِ أَوْ يُسْلِمَ فِي حَرِيرٍ فَيَأْخُذَ عَنْهُ عِوَضًا مِنْ خَيْلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ - كَابْنِ أَبِي مُوسَى والسامري صَاحِبِ الْمُسْتَوْعِب - لَكِنْ [ فِي ] بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا قَالَ فِي " الْمُسْتَوْعِبِ " : وَمَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ بِحَالِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي الْأُخْرَى يَجُوزُ وَأَنْ يَأْخُذَ مَا دُونَ الْحِنْطَةِ مِنْ الْحُبُوبِ كَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِ بِمِقْدَارِ كَيْلِ الْحِنْطَةِ لَا أَكْثَرَ مِنْهَا وَلَا بِقِيمَتِهَا نَصَّ عَلَيْهِ . قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ : إذَا أَسْلَفْت فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَأَخَذْت شَعِيرًا فَلَا بَأْسَ وَهُوَ دُونَ حَقِّك وَلَا تَأْخُذْ مَكَانَ الشَّعِيرِ حِنْطَةً . وَأَمَّا الْمُطَّلِعُونَ عَلَى نُصُوصِ أَحْمَد فَذَكَرُوا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ دَيْنِ السَّلَمِ بِغَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَفْصٍ العكبري فِي مَجْمُوعِهِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بِخَطِّهِ فَإِنْ كَانَ مَا أَسْلَمَ فِيهِ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَأَخَذَ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ مِثْلَ كَيْلِهِ مِمَّا هُوَ دُونَهُ فِي الْجَوْدَةِ جَازَ . وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ قِيمَتَهُ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ كَيْفَ شَاءَ . نَقَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَحْمَد : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إذَا لَمْ يَجِدْ مَا أَسْلَمَ فِيهِ وَوَجَدَ غَيْرَهُ مِنْ جِنْسِهِ يَأْخُذُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ إذَا كَانَ دُونَ الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ [ قُلْت ] فَإِنَّمَا أَسْلَمَ فِي قَفِيزِ حِنْطَةٍ موصلي فَقَالَ : فَيَأْخُذُ مَكَانَهُ سُلْتَيْ أَوْ قَفِيزَ شَعِيرٍ بِكَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَزْدَادُ وَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ فَلَا يَأْخُذُ وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ طاوس عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : إذَا أَسْلَمْت فِي شَيْءٍ فَجَاءَ الْأَجَلُ فَلَمْ تَجِدْ الَّذِي أَسْلَمْت فَخُذْ عِوَضًا بِأَنْقَصَ مِنْهُ وَلَا تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ . وَنَقَلَ أَيْضًا أَحْمَد بْنُ أَصْرَمَ سُئِلَ أَحْمَد عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ إلَى أَجَلٍ ؟ فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ يَشْتَرِي مِنْهُ عَقَارًا أَوْ دَارًا . فَقَالَ : نَعَمْ يَشْتَرِي مِنْهُ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ . وَقَالَ حَرْبٌ الكرماني : سَأَلْت أَحْمَد قُلْت : رَجُلٌ أَسْلَفَ رَجُلًا دَرَاهِمَ فِي بُرٍّ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَقَالَ قَوْمٌ : الشَّعِيرُ بِالدَّرَاهِمِ فَخُذْ مِنْ الشَّعِيرِ . قَالَ : لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الشَّعِيرَ إلَّا مِثْلَ كَيْلِ الْبُرِّ أَوْ أَنْقَصَ . قُلْت : إذَا كَانَ الْبُرُّ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ أَيَأْخُذُ الشَّعِيرَ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَكَذَلِكَ نَقَلَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَحْمَد وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَكْثَرُ فِي نُصُوصِ أَحْمَد وَهِيَ أَشْبَهُ بِأُصُولِهِ فَإِنَّ عِلَّتَهُ فِي مَنْعِ بَيْعِ دَيْنِ السَّلَمِ كَوْنُهُ مَبِيعًا فَلَا يُبَاعُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُطْلَقًا ; بَلْ لَهُ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَأَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ وَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ مِنْ الْبَائِعِ وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ إذَا كَانَ عِوَضًا مِنْ بَائِعِهِ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ وَأَقَلَّ . وَلَا يَجُوزُ بِأَكْثَرَ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الطَّعَامِ . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا أَسْلَفْت فِي شَيْءٍ فَحَلَّ الْأَجَلُ فَإِنْ وَجَدْت مَا أَسْلَفْت فِيهِ وَإِلَّا فَخُذْ عِوَضًا بِأَنْقَصَ مِنْهُ . وَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ } قَالَ : وَلَا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي " مُغْنِيهِ " . لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ الخرقي : وَبَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ بَائِعِهِ أَوْ غَيْرِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَاسِدٌ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : بَيْعُ الْمُسْلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يُعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ خِلَافٌ . فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ ; وَإِلَّا فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَسْلِفِ كَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ سَائِرِ الدُّيُونِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَهَذَا أَيْضًا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَد نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ كَمَا نَصَّ عَلَى بَيْعِ دَيْنِ السَّلَمِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَكِلَاهُمَا مَنْصُوصٌ عَنْ أَحْمَد فِي أَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَجْوِبَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ فِي كُتُبِ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد ; وَذَلِكَ لِأَنَّ دَيْنَ السَّلَمِ مَبِيعٌ وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ وَفِي ضَمَانِ ذَلِكَ فَالشَّافِعِيُّ يَمْنَعُهُ مُطْلَقًا وَيَقُولُ : هُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَهُوَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُهُ إلَّا فِي الْعَقَارِ وَيَقُولُ : هُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ . وَهَؤُلَاءِ يُعَلِّلُونَ الْمَنْعَ بِتَوَالِي الضمانين . وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرُهُمَا فَيَقُولُونَ : مَا تَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهِ وَهُوَ الْمُتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ - كَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي . عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ وَنِزَاعِ فِي بَعْضِ الْمُتَعَيِّنَاتِ ; لِمَا رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي " فَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد : أَنَّ النَّاقِلَ لِلضَّمَانِ إلَى الْمُشْتَرِي هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْقَبْضِ ; لَا نَفْسُ الْقَبْضِ . فَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِيهِ لَيْسَ مُلَازِمًا لِلضَّمَانِ وَلَا مَبْنِيًّا عَلَيْهِ ; بَلْ قَدْ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ حَيْثُ يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ كَمَا ذَكَرَ فِي الثَّمَرَةِ وَمَنَافِعِ الْإِجَارَةِ وَبِالْعَكْسِ كَمَا فِي الصُّبْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ الخرقي فِي " مُخْتَصَرِهِ " هَذَا وَهَذَا فَقَالَ : إذَا اشْتَرَى الثَّمَرَةَ دُونَ الْأَصْلِ فَتَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ مِنْ السَّمَاءِ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ . وَقَالَ الْأَصْحَابُ : لَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ التَّصَرُّفِ تَمَامُ الْقَبْضِ بِدَلِيلِ الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ ثُمَّ قَالَ الخرقي : وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ فَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَهُوَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ مَا بِيعَ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْعَدَدِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ . ثُمَّ قَالَ الخرقي : وَمَنْ اشْتَرَى مَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ . فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبْضِ وَمَا لَا يَحْتَاجُ فَمَا لَا يَحْتَاجُ يَكْفِي فِيهِ التَّمَكُّنُ كَالْمُودَعِ . ثُمَّ قَالَ : وَمَنْ اشْتَرَى صُبْرَةَ طَعَامٍ لَمْ يَبِعْهَا حَتَّى يَنْقُلَهَا فَالصُّبْرَةُ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالتَّمَكُّنِ وَالتَّخْلِيَةِ فَلَا يَبِيعُهَا حَتَّى يَنْقُلَهَا ؟ وَهَذَا كُلُّهُ مَنْصُوصُ أَحْمَد لَكِنْ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْأَصْحَابِ وَرِوَايَاتٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد قَدْ يَكُونُ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ كَالثَّمَرِ إذَا بِيعَ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ فَإِنَّهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَهُوَ قَوْلٌ مُعَلَّقٌ لِلشَّافِعِيِّ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ } . وَمَعَ هَذَا فَيَجُوزُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَ هَذَا الثَّمَرَ مَعَ أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَهَذَا كَمَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَ مَا اسْتَأْجَرَهُ بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ بِلَا نِزَاعٍ . وَإِنْ كَانَتْ الْمَنَافِعُ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ . وَلَكِنْ إذَا أَجَّرَهَا بِزِيَادَةٍ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ زِيَادَةٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : " إحْدَاهُمَا " يَجُوزُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . " وَالثَّانِيَةُ " لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَطَّلَ الْمَكَانَ الَّذِي اكْتَرَاهُ . وَقَبَضَهُ لَتَلِفَتْ مَنَافِعُهُ مِنْ ضَمَانِهِ وَلَكِنْ لَوْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ لَتَلِفَتْ مِنْ مَالِ الْمُؤَجِّرِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِهَا . وَالْمَقْصُودُ هُنَا . أَنَّ أَصْلَ أَحْمَد وَمَالِكٍ جَوَازُ التَّصَرُّفِ وَأَنَّهُ يُوَسَّعُ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ انْتِقَالِ الضَّمَانِ إلَى الْمُشْتَرِي ; بِخِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِمَا إلَّا إذَا انْتَقَلَ الضَّمَانُ إلَى الْمُشْتَرِي وَصَارَ الْمَبِيعُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ قَالُوا : لِئَلَّا يَتَوَالَى الضمانان ; فَإِنَّ الْمَبِيعَ يَكُونُ مَضْمُونًا قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ ; فَإِذَا بِيعَ قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَهُ الْمُشْتَرِي صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَيَتَوَالَى عَلَيْهِ الضمانان . وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد الْمَشْهُورِ عَنْهُ : هَذَا مَأْخَذٌ ضَعِيفٌ لَا مَحْذُورَ فِيهِ ; فَإِنَّ الْمَبِيعَ إذَا تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ . كَانَ عَلَى الْبَائِعِ أَدَاءُ الثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي فَالْوَاجِبُ بِضَمَانِ هَذَا غَيْرُ الْوَاجِبِ بِضَمَانِ هَذَا . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا : فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ دَيْنِ السَّلَمِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُسْلِفُ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَلَا يَبِيعُ مَا لَمْ يُضْمَنْ . وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ : يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ; وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ بِرِبْحِ ; بَلْ لَا يُبَاعُ إلَّا بِالْقِيمَةِ ; لِئَلَّا يَرْبَحَ الْمُسْلِفُ فِيمَا لَا يُضْمَنُ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ } . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الثَّمَنَ يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ ابْنُ عُمَرَ : كُنَّا نَبِيعُ الْإِبِلَ بِالنَّقِيعِ - وَالنَّقِيعُ بِالنُّونِ : هُوَ سُوقُ الْمَدِينَةِ . وَالْبَقِيعُ بِالْبَاءِ هُوَ مَقْبَرَتُهَا . قَالَ : - كُنَّا نَبِيعُ بِالذَّهَبِ وَنَقْضِي الْوَرِقَ وَنَبِيعُ بِالْوَرِقِ وَنَقْضِي الذَّهَبَ . فَسَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا بَأْسَ إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ إذَا تَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ } . فَقَدْ جَوَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يعتاضوا عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ بِغَيْرِهِ مَعَ أَنَّ الثَّمَنَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى ضَمَانِ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ الْمَبِيعُ الَّذِي هُوَ دَيْنُ السَّلَمِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى ضَمَانِ الْمُشْتَرِي . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا جَوَّزَ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ ; لِئَلَّا يَرْبَحَ فِيمَا لَمْ يُضْمَنْ . وَهَكَذَا قَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ إنَّمَا يَعْتَاضُ عَنْهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ ; لِئَلَّا يَكُونَ رِبْحًا فِيمَا لَا يُضْمَنُ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَجَابَ فِي السَّلَمِ أَنْ قَالَ إذَا أَسْلَمْت فِي شَيْءٍ فَجَاءَ الْأَجَلُ وَلَمْ تَجِدْ الَّذِي أَسْلَمْت فِيهِ فَخُذْ عِوَضًا بِأَنْقَصَ مِنْهُ وَلَا تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ . وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يُجَوِّزُ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَمَا أَجَابَ بِهِ أَحْمَد وَنَقَلَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَمَالِكٌ اسْتَثْنَى الطَّعَامَ ; لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ بَيْعَ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَجُوزُ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد وَأَحْمَد فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ بِمَكِيلِ وَمَوْزُونٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ : مِثْلَ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ بِخَيْلٍ أَوْ بَقَرٍ فَإِنَّهُ جَوَّزَ هَذَا كَمَا جَوَّزَهُ مَالِكٌ وَقَبْلَهُمَا ابْنُ عَبَّاسٍ . إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِ . وَأَمَّا إذَا اعْتَاضَ عَنْهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مِثْلَ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ الْحِنْطَةِ بِشَعِيرٍ كَرِهَهُ ; إلَّا إذَا كَانَ بِقَدْرِهِ ; فَإِنَّ بَيْعَ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ ; يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحُلُولُ وَالتَّقَابُضُ . وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ إلَّا يَدًا بِيَدِ وَلَا بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ إلَّا يَدًا بِيَدِ . وَالْمُسْلِمُ لَمْ يَقْبِضْ دَيْنَ الْمُسْلَمِ فَكَرِهَ هَذَا كَمَا يَكْرَهُ هُوَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : بَيْعَ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا عَلَى أَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يَضْمَنْهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْبُوضٌ لِلْمَدِينِ ; لَكِنْ إنْ بَاعَهُ بِمَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً اشْتَرَطَ فِيهِ الْحُلُولَ وَالْقَبْضَ ; لِئَلَّا يَكُونَ رِبًا . وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ بِمَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ . وَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يُشْتَرَطُ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي غَيْرِهِمَا . وَالثَّانِي يُشْتَرَطُ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ نَسِيئَةٌ كَبَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَمَالِكٌ لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ إذَا كَانَ طَعَامًا ; لِأَنَّهُ بَيْعٌ . وَأَحْمَد جَوَّزَ بَيْعَهُ وَإِنْ كَانَ طَعَامًا أَوْ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مِنْ بَائِعِهِ إذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ هُوَ فِي الطَّعَامِ الْمُعَيَّنِ وَأَمَّا مَا فِي الذِّمَّةِ فَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِيفَاءِ . وَفَائِدَتُهُ سُقُوطُ مَا فِي ذِمَّتِهِ عَنْهُ لَا حُدُوثُ مِلْكٍ لَهُ فَلَا يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا . فَإِنَّ الْبَيْعَ الْمَعْرُوفَ هُوَ أَنْ يَمْلِكَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ وَهُنَا لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا : بَلْ سَقَطَ الدَّيْنُ مِنْ ذِمَّتِهِ . وَهَذَا لَوْ وَفَّاهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ بَاعَهُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بَلْ يُقَالُ : وَفَّاهُ حَقَّهُ ; بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةً بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ ; فَإِنَّهُ بَيْعٌ فَلَمَّا كَانَ فِي الْأَعْيَانِ إذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا فَكَذَلِكَ إذَا أَوْفَاهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا . بَلْ هُوَ إيفَاءٌ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ . وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ فِي غَد فَأَعْطَاهُ عِوَضًا بَرَّ فِي يَمِينِهِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ فَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ يُرِيدُ بِهِ بَيْعَهُ مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ فِيهِ نِزَاعٌ . وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَلَّلَهُ بِتَوَالِي الضَّمَانِ يَطْرُدُ النَّهْيَ وَأَمَّا مَنْ عَلَّلَ النَّهْيَ بِتَمَامِ الِاسْتِيفَاءِ وَانْقِطَاعٍ عَلَّقَ الْبَائِعَ حَتَّى لَا يَطْمَعَ فِي الْفَسْخِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِقْبَاضِ إذَا رَأَى الْمُشْتَرِيَ قَدْ رَبِحَ فِيهِ فَهُوَ يُعَلِّلُ بِذَلِكَ فِي الصُّبْرَةِ قَبْلَ نَقْلِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَقْبُوضَةً وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي بَيْعِهِ مِنْ الْبَائِعِ . وَأَيْضًا فَبَيْعُهُ مِنْ الْبَائِعِ يُشْبِهُ الْإِقَالَةَ وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ تَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ . وَالْإِقَالَةُ هَلْ هِيَ فَسْخٌ أَوْ بَيْعٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد فَإِذَا قُلْنَا : هِيَ فَسْخٌ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِمِثْلِ الثَّمَنِ . وَإِذَا قُلْنَا هِيَ بَيْعٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ وَدَيْنُ السَّلَمِ تَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِيهِ بِلَا نِزَاعٍ . فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي دَيْنِ السَّلَمِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ : حَيْثُ كَانَ الْأَكْثَرُونَ لَا يُجَوِّزُونَ بَيْعَ الْمَبِيعِ لِبَائِعِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ وَيُجَوِّزُونَ الْإِقَالَةَ فِي دَيْنِ السَّلَمِ . وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ يَجُوزُ كَمَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ ; لَكِنْ إنَّمَا يَكُونُ إقَالَةً إذَا أَخَذَ رَأْسَ مَالِهِ أَوْ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ زِيَادَةٍ أَمَّا إذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ إقَالَةً بَلْ هُوَ اسْتِيفَاءٌ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ لِمَا لَمْ يُقْبَضْ . وَأَحْمَد جَوَّزَ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ مِنْ الْمُسْتَسْلِفِ ; اتِّبَاعًا لِابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ } وَلَا أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ فَابْنُ عَبَّاسٍ لَا يُجَوِّزُ الْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَجَوَّزَ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَرْبَحْ وَلَمْ يُفَرِّقْ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِمَا ; لِأَنَّ الْبَيْعَ هُنَا مِنْ الْبَائِعِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبِضُهُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ; بَلْ لَيْسَ هُنَا قَبْضٌ ; لَكِنْ يَسْقُطُ عَنْهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ ثُمَّ إعَادَتُهُ إلَيْهِ وَهَذَا مِنْ فِقْهِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَمَالِكٌ جَعَلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَمَنَعَ بَيْعَ الطَّعَامِ الْمُسْلَفِ فِيهِ مِنْ الْمُسْتَلِفِ وَأَحْمَد لَمْ يَجْعَلْهُ كَبَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا قَالَ مَالِكٌ ; بَلْ جَوَّزَهُ بِغَيْرِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ كَمَا أَجَازَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَأَمَّا بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَكَرِهَهُ لِئَلَّا يُشْبِهَ بَيْعَ الْمَكِيل بِالْمَكِيلِ مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ إذَا كَانَ لَمْ تُوجَدْ حَقِيقَةُ التَّقَابُضِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ . وَأَمَّا إذَا أَخَذَ عَنْهُ مِنْ جِنْسِهِ بِقَدْرِ مَكِيلِهِ مَا هُوَ دُونَهُ فَجَوَّزَهُ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْجِنْسِ ; لَا مِنْ بَابِ الْبَيْعِ كَمَا يَسْتَوْفِي عَنْ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ . وَالْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ قَدْ يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ; وَلِهَذَا فِي جَوَازِ بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا رِوَايَتَانِ : ( إحْدَاهُمَا : الْمَنْعُ كَقَوْلِ مَالِكٍ . وَ ( الثَّانِيَةُ : الْجَوَازُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ مِنْ أَحْمَد فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ ; قَدْ يُقَالُ هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْزِيهِ . أَوْ يَكُونُ إذَا أَخَّرَ الْقَبْضَ . وَهَذَا الثَّانِي أَشْبَهُ بِأُصُولِ أَحْمَد وَنُصُوصِهِ وَهُوَ مُوجِبُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ الْمَكِيل بِمَكِيلٍ أَوْ الْمَوْزُونَ بِمَوْزُونٍ اشْتَرَطَ فِيهِ الْحُلُولَ وَالتَّقَابُضَ فَإِنْ بَاعَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ . وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ هِيَ التَّمَاثُلُ وَهُوَ مَكِيلُ جِنْسٍ أَوْ مَوْزُونُ جِنْسٍ . فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ . وَالشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ بَعْضُهُ بِبَعْضِ نَسَاءً لَا يَجُوزُ . فَمَنْ جَعَلَ الْعِلَّةَ التَّمَاثُلَ - وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ أَوْ الطَّعْمُ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا - حَرَّمَ النَّسَاءَ فِيمَا جَمَعَهُمَا عِلَّةً وَاحِدَةً . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَد . فَالتَّمَاثُلُ وَهُوَ مَكِيلُ جِنْسٍ أَوْ مَوْزُونُ جِنْسٍ : هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالطَّعْمُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَمَجْمُوعُهُمَا قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ . وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَهُوَ الْقُوتُ وَمَا يُصْلِحُهُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَدَيْنُ السَّلَمِ وَغَيْرُهُ مِنْ الدُّيُونِ إذَا عُوِّضَ عَنْهُ بِمَكِيلٍ وَجَبَ قَبْضُهُ فِي مَجْلِسِ التَّعْوِيضِ . وَكَذَلِكَ الْمَوْزُونُ إذَا عُوِّضَ عَنْهُ بِمَوْزُونِ : مِثْلَ أَنْ يُعَوَّضَ عَنْ الْحَرِيرِ بِقُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ . فَإِذَا بِيعَ الْمَكِيلُ بِالْمَكِيلِ بَيْعًا مُطْلَقًا بِحَيْثُ لَا يُقْبَضُ الْعِوَضُ فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَجُزْ ; بِخِلَافِ مَا إذَا بِيعَ بِحَيَوَانٍ أَوْ عَقَارٍ ; فَإِنَّ هَذَا لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فَكَلَامُ أَحْمَد يَخْرُجُ عَلَى هَذَا . وَنَهْيُهُ عَنْ الْبَيْعِ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا . وَلِهَذَا قَالَ : إذَا حَلَّ الْأَجَلُ يَشْتَرِي مِنْهُ مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ . فَأَطْلَقَ الْإِذْنَ فِي ذَلِكَ ; بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّهُ لَا يَشْتَرِي مُطْلَقًا ; بَلْ يَقْبِضُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا إذَا بِيعَ بِعَيْنِ . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَحْمَد اتَّبَعَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ . وَابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا أَسْلَمْت فِي شَيْءٍ فَجَاءَ الْأَجَلُ وَلَمْ تَجِدْ الَّذِي أَسْلَمْت فِيهِ فَخُذْ عِوَضًا بِأَنْقَصَ وَلَا تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ . فَإِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ الرِّبْحِ فِيهِ : بِأَنْ يَبِيعَهُ دَيْنَ السَّلَمِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُسَاوِي وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ ; وَلِهَذَا أَحْمَد مَنَعَ إذَا اسْتَوْفَى عَنْهُ مَكِيلًا - كَالشَّعِيرِ - أَنْ يَكُونَ بِزِيَادَةِ . وَلَمْ يُفَرِّقْ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ بِغَيْرِهِمَا . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ رِبَا الْفَضْلِ فَيُقَالُ : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُجِيزُ رِبَا الْفَضْلِ ; بَلْ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ إلَى أَجَلٍ حَرَامٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ إلَى أَجَلٍ . وَهَذَا قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ; فَإِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْبُوضٌ فَإِذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا وَبَاعَهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ وَلَمْ يَقْبِضْهُ فَقَدْ بَاعَ مَكِيلًا بِمَكِيلٍ وَلَمْ يَقْبِضْهُ وَأَمَّا إذَا قَبَضَهُ فَهَذَا جَائِزٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ إذَا بَاعَ بِذَهَبِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ وَرِقًا وَإِذَا بَاعَ بِوَرِقٍ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ ذَهَبًا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَهَذَا أَخَذَ عَنْ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ . فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي الثَّمَنِ جَازَ فِي الْمُثَمَّنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : هَذَا مَبِيعٌ لَمْ يُقْبَضْ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ . وَقَدْ ظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْمَأْخَذِ فِي السَّلَمِ . وَابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي مَنَعَ هَذَا جَوَّزَ هَذَا وَأَنَّ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ مِنْ بَائِعِهِ لَيْسَ فِيهِ مَحْذُورٌ أَصْلًا كَمَا فِي بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ ; لَا بِتَوَالِي الضَّمَانِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ مَنَعَ بَيْعَ دَيْنِ السَّلَمِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ } فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ . وَالثَّانِي : الْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يَجْعَلَ السَّلَفَ سَلَمًا فِي شَيْءٍ آخَرَ . فَيَكُونُ مَعْنَاهُ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِهِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ إلَى أَجَلٍ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ . وَلِهَذَا قَالَ : { لَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ } أَيْ لَا يَصْرِفُ الْمُسْلَمَ فِيهِ إلَى مُسْلَمٍ فِيهِ آخَرَ . وَمَنْ اعْتَاضَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ قَابِضًا لِلْعِوَضِ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَعَلَهُ سَلَمًا فِي غَيْرِهِ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْجَوَابُ . لَكِنَّ الرُّخْصَةَ فِي هَذَا الْبَابِ ثَابِتَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَأَحْمَد رَخَّصَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ مَالِكٍ . وَمَا ذَكَرَهُ الخرقي وَغَيْرُهُ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد . وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ لَا دَلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .