وَسُئِلَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي تُقْبَضُ بِطَرِيقِ المناهب الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ الْأَعْرَابِ إذَا كَانَ فِيهَا حَيَوَانٌ تَنَاسَلَ وَعَيْنٌ حَصَلَ فِيهَا رِبْحٌ أَوْ شَجَرٌ أَثْمَرَ . هَلْ النَّسْلُ وَالرِّبْحُ لِلْغَاصِبِ ; لِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يَرْعَى الْحَيَوَانَ وَيَتَّجِرُ فِي الْعَيْنِ وَيَسْقِي الشَّجَرَ ؟ أَمْ لِلْمَالِكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ؟ وَالْأَمْوَالُ الَّتِي بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ . هَلْ تُزَكَّى ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا تَابَ الْغَاصِبُ وَقَدْ جَهِلَ الْمَالِكُ ؟ مَا حُكْمُهُ ؟ هَلْ يَتَصَدَّقُ بِالْجَمِيعِ أَوْ الْبَعْضِ ؟ وَهَلْ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ وَفِي أَقْوَامٍ مِنْ الْأَحْمَدِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَحْضُرُ سَمَاعَ الْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي وَيُمْسِكُونَ الْحَيَّاتِ وَيَدْخُلُونَ النَّارَ وَلَا يَحْتَرِقُونَ . وَإِذَا لَمْ يُعْطُوا مِنْ الزَّكَاةِ غَضِبُوا وَتَوَجَّهُوا عَلَى الْمَانِعِ لَهُمْ وَيَقُولُونَ : هَذِهِ فِي إبِلِك هَذِهِ فِي غَنَمِك فِي كَذَا . . . وَيَمُوتُ بَعْضُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ فَيَقُولُونَ : هَذِهِ بِخَوَاطِرِنَا . فَهَلْ يَجُوزُ إعْطَاءُ هَؤُلَاءِ مِنْ الزَّكَاةِ خَوْفًا مِنْهُمْ ؟ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ ؟ .
فَصْلٌ وَالْأَمْوَالُ الَّتِي بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ المتناهبين إذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّنٌ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ زَكَاتَهَا فَإِنَّهَا إنْ كَانَتْ مِلْكًا لِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ كَانَتْ زَكَاتُهَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لَهُ وَمَالِكُهَا مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا كُلِّهَا فَإِذَا تَصَدَّقَ بِقَدْرِ زَكَاتِهَا كَانَ خَيْرًا مِنْ أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ بِشَيْءِ مِنْهَا . فَإِخْرَاجُ قَدْرِ الزَّكَاةِ مِنْهَا أَحْسَنُ مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ . وَإِذَا كَانَ يَنْهَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِنْ كَانَ النَّهْبُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مَعْرُوفَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ قَدْرَ مَا أَخَذَتْهُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ الْأُخْرَى فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً تَقَاضَيَا وَأَقَرَّ كُلَّ قَوْمٍ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عَيْنُ الْمَنْهُوبِ مِنْهُ . كَمَا لَوْ تَقَاتَلُوا قِتَالَ جَاهِلِيَّةٍ وَقَتَلَ هَؤُلَاءِ بَعْضَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بَعْضَ هَؤُلَاءِ وَأَتْلَفَ هَؤُلَاءِ بَعْضَ أَمْوَالِ هَؤُلَاءِ ; فَإِنَّ الْوَاجِبَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ . فَتَقَابُلُ النُّفُوسِ بِالنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ بِالْأَمْوَالِ فَإِنَّ فَضَلَ لِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى شَيْءٌ طَالَبَتْهَا بِذَلِكَ . وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْعَرَبِ كَانَ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُقَاصَّ مِنْ الْقَتْلَى : الْحُرُّ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْحُرِّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى . ثُمَّ قَالَ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } . يَقُولُ : إنْ فَضَلَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ شَيْءٌ فَلْيُؤَدِّهِ إلَيْهِمْ بِمَعْرُوفِ والتتبعة الْأُخْرَى أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِهِ بِإِحْسَانِ وَالِاتِّبَاعُ هُوَ الْمُطَالَبَةُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } . وَهَذَا لِأَنَّ الطَّوَائِفَ الْمُمْتَنِعَةَ الَّتِي يُعِينُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الْقِتَالِ ثُمَّ يَكُونُ الضَّمَانُ فِيهَا عَلَى الَّذِي يُبَاشِرُ الْقِتَالَ وَالْأَخْذَ وَالْإِتْلَافَ وَعَلَى الرَّدْءِ الَّذِي يُعِينُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَلِهَذَا كَانَ فِي مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ يُقْتَلُ مِنْهُمْ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ رَبِيئَةَ الْمُحَارِبِينَ وَهُوَ النَّاظِرُ الَّذِي يَنْظُرُ لَهُمْ الطَّرِيقَ . فالمتعاونون عَلَى الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْعُقُوبَةُ بِالضَّمَانِ وَغَيْرِهِ وَلِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إنَّ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْن عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَرِيَاسَةٍ تَضْمَنُ كُلُّ طَائِفَةٍ مَا أَتْلَفَتْ لِلْأُخْرَى مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ . فَأَوْجَبُوا الضَّمَانَ عَلَى مَجْمُوعِ الطَّائِفَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عَيْنُ الْمُتْلِفِ . وَإِنْ كَانَ قَدْرُ الْمَنْهُوبِ مَجْهُولًا لَا يُعْرَفُ مَا نَهَبَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا قَدْرُ مَا نَهَبَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى التَّسَاوِي ; كَمَنْ اخْتَلَطَ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ وَلَمْ يَعْرِفْ أَيَّهمَا أَكْثَرُ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ نِصْفَ مَالِهِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لَهُ حَلَالٌ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالْعُمَّالِ عَلَى الْأَمْوَالِ ; فَإِنَّهُ شَاطَرَهُمْ . فَأَخَذَ نِصْفَ أَمْوَالِ عُمَّالِهِ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقَ . فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّهُ اخْتَلَطَ بِأَمْوَالِهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَعْرِفْ لَا أَعْيَانَ الْمَمْلُوكِ وَلَا مِقْدَارَ مَا أَخَذَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ ; بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْوَاحِدِ أَقَلُّ مِنْ حَقِّهِ وَأَكْثَرُ فَفِي مِثْلِ هَذَا يُقَرُّ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مَا فِي يَدِهِ إذَا تَابَ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَإِنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ بِهِ وَيُزَكِّي ذَلِكَ الْمَالَ كَمَا يُزَكِّيهِ الْمَالِكُ . وَإِنْ عَرَفَ أَنَّ فِي مَالِهِ حَلَالًا مَمْلُوكًا وَحَرَامًا لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ وَعَرَفَ قَدْرَهُ فَإِنَّهُ يَقْسِمُ الْمَالَ عَلَى قَدْرِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَيَأْخُذُ قَدْرَ الْحَلَالِ وَأَمَّا الْحَرَامُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْ أَصْحَابِهِ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ عِنْدِهِ أَمْوَالٌ مَجْهُولَةُ الْمُلَّاكِ : مِنْ غصوب وَعَوَارِيَّ وَوَدَائِعَ ; فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا . وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مِقْدَارَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْمَالَ نِصْفَيْنِ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ نِصْفَهُ وَالنِّصْفُ الثَّانِي يُوَصِّلُهُ إلَى أَصْحَابِهِ إنْ عَرَفَهُمْ وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهِ . وَمَا تَصَدَّقَ بِهِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ : فَيُعْطَى مِنْهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ وَيُقْرَى مِنْهُ الضَّيْفُ وَيُعَانُ فِيهِ الْحَاجُّ وَيُنْفَقُ فِي الْجِهَادِ وَفِي أَبْوَابِ الْبِرِّ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا يُفْعَلُ بِسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمَجْهُولَةِ وَهَكَذَا يَفْعَلُ مَنْ تَابَ مِنْ الْحَرَامِ وَبِيَدِهِ الْحَرَامُ لَا يَعْرِفُ مَالِكَهُ .