وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا وَشَرَطَ فِيهِ شُرُوطًا عَلَى جَمَاعَةِ قُرَّاءٍ وَأَنَّهُمْ يَحْضُرُونَ كُلَّ يَوْمٍ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَقْرَءُونَ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَتَدَاوَلُونَ النَّهَارَ بَيْنَهُمْ يَوْمًا مَثْنَى مَثْنَى وَيَجْتَمِعُونَ أَيْضًا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ يَقْرَأُ كُلٌّ مِنْهُمْ حِزْبَيْنِ وَيَجْتَمِعُونَ أَيْضًا فِي كُلِّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ . جُمْلَةُ اجْتِمَاعِهِمْ فِي الشَّهْرِ سَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ مَرَّةً عَلَى هَذَا النَّحْوِ عِنْدَ قَبْرِهِ بِالتُّرْبَةِ ; وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنْ يَبِيتُوا كُلَّ لَيْلَةٍ بِالتُّرْبَةِ الْمَذْكُورَةِ وَجَعَلَ لِكُلِّ مِنْهُمْ سَكَنًا يَلِيقُ بِهِ وَشَرَطَ لَهُمْ جَارِيًا مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ يَتَنَاوَلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَفِي كُلِّ شَهْرٍ . فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ الْحُضُورُ عَلَى شَرْطِهِ عَلَيْهِمْ ؟ أَمْ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَتَّصِفُوا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فِي أَيِّ مَكَانٍ أَمْكَنَ إقَامَتُهُمْ بِوَظِيفَةِ الْقِرَاءَةِ أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ الْمَكَانُ وَلَا الزَّمَانُ ؟ وَهَلْ يَلْزَمُهُمْ أَيْضًا أَنْ يَبِيتُوا بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ قِيلَ بِاللُّزُومِ فَاسْتَخْلَفَ أَحَدُهُمْ مَنْ يَقْرَأُ عَنْهُ وَظِيفَتَهُ فِي الْوَقْفِ وَالْمَكَانِ وَالْوَاقِفُ شَرَطَ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ أَنْ يستنيبوا فِي أَوْقَاتِ الضَّرُورَاتِ فَمَا هِيَ الضَّرُورَةُ الَّتِي تُبِيحُ النِّيَابَةَ ؟ وَأَيْضًا إنْ نَقَصَهُمْ النَّاظِرُ مِنْ مَعْلُومِهِمْ الشَّاهِدُ بِهِ كِتَابُ الْوَقْفِ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصُوا مِمَّا شَرَطَ عَلَيْهِمْ ؟ وَسَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ ضَرُورَةٍ . أَوْ مِنْ اجْتِهَادِ النَّاظِرِ أَوْ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادِهِ وَلْيَشْفِ سَيِّدُنَا بِالْجَوَابِ مُسْتَوْعِبًا بِالْأَدِلَّةِ وَيَجْلِي بِهِ عَنْ الْقُلُوبِ كُلَّ عُسْرٍ مُثَابًا فِي ذَلِكَ .
وَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُونَ فَرْضُ تَمَامِ الْوُجُودِ . وَاَللَّهُ يُسَهِّلُ لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُعِينُهُمْ عَلَى خَيْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . فَمِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَبِيتَ الشَّخْصِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ دَائِمًا لَيْسَ قُرْبَةً وَلَا طَاعَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إذَا كَانَ فِي التَّعْيِينِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ : مِثْلُ الْمَبِيتِ فِي لَيَالِي مِنًى ; وَمِثْلَ مَبِيتِ الْإِنْسَانِ فِي الثَّغْرِ لِلرِّبَاطِ . أَوْ مَبِيتِهِ فِي الْحَرَسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . أَوْ عِنْدَ عَالِمٍ أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ يَنْتَفِعُ بِهِ . وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَأَمَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَابِطَ دَائِمًا بِبُقْعَةِ بِاللَّيْلِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ الدِّينِ . بَلْ لَوْ كَانَ الْمَبِيتُ عَارِضًا وَكَانَ يَشْرَعُ فِيهَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَيْضًا مِنْ الدِّينِ . وَمَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَوَقَفَ عَلَيْهِ الْمَالَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَلَا رَيْبَ فِي بُطْلَانِ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ وَسُقُوطِهِ . بَلْ تَعْيِينُ مَكَانٍ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ إهْدَائِهِ غَيْرَ مَا عَيَّنَهُ الشَّارِعُ لَيْسَ أَيْضًا مَشْرُوعًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . حَتَّى لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ يَقْرَأَ أَوْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ . وَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ ; لَكِنْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِفَوَاتِ التَّعْيِينِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي وُصُولِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ : كَالْقِرَاءَةِ ; وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ إلَى الْمَيِّتِ قَوْلَانِ : أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَصِلُ ; لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالتَّفَاضُلِ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ . وَلَا قَالَ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ : إنَّ الصَّلَاةَ أَوْ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَفْضَلُ مِنْهَا عِنْدَ غَيْرِهِ ; بَلْ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَتِهَا فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ . وَمَالِكٌ وَالْإِمَامِ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَطَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ . وَرَخَّصَ فِيهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَلَيْسَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ نَصٌّ نَعْرِفُهُ . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَفْضَلُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ عِنْدَ الْقَبْرِ يَنْتَفِعُ الْمَيِّتُ بِسَمَاعِهَا دُونَ مَا إذَا بَعُدَ الْقَارِئُ : فَقَوْلُهُ هَذَا بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ مُخَالِفَةٌ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ . وَالْمَيِّتُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَنْتَفِعُ بِأَعْمَالِ يَعْمَلُهَا هُوَ بَعْدُ بَاطِلَةٌ : لَا مِنْ اسْتِمَاعٍ وَلَا قِرَاءَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِآثَارِ مَا عَمِلَهُ فِي حَيَاتِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } . وَيُنْتَفَعُ أَيْضًا بِمَا يُهْدَى إلَيْهِ مِنْ ثَوَابِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ : كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ ; بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمْ . وَإِلْزَامُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَعْمَلُوا وَلَا يَتَصَدَّقُوا إلَّا فِي بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ كَنَائِسِ النَّصَارَى بَاطِلٌ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَالِاسْتِخْلَافُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوطَة جَائِزٌ وَكَوْنُهَا عَنْ الْوَاقِفِ إذَا كَانَ النَّائِبُ مِثْلَ الْمُسْتَنِيبِ فَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْأَعْمَالِ الْمَشْرُوطَة فِي الْإِجَارَةِ عَلَى عَمَلٍ فِي الذِّمَّةِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ . فَشَرْطٌ بَاطِلٌ . وَمَتَى نَقَصُوا مِنْ الْمَشْرُوطِ لَهُمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُنْقِصُوا مِنْ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .