وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ جَلِيلِ الْقَدْرِ لَهُ تَعَلُّقَاتٌ كَثِيرَةٌ مَعَ النَّاسِ وَأَوْصَى بِأُمُورِ : فَجَاءَ رَجُلٌ إلَى وَصِيِّهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي ; وَقَالَ : يَا فُلَانُ : جِئْتُك فِي حَيَاةِ فُلَانٍ الْمُوصِي بِمَالِ فَلِي عِنْدَهُ كَذَا وَكَذَا . فَذَكَرَ الْوَصِيُّ ذَلِكَ لِلْمُوصِي : فَقَالَ الْمُوصِي مَنْ ادَّعَى بَعْدَ مَوْتِي عَلَيَّ شَيْئًا فَحَلَّفَهُ وَأَعْطَاهُ بِلَا بَيِّنَةٍ : فَهَلْ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ فِعْلُ ذَلِكَ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي .
فَأَجَابَ . نَعَمْ : يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ تَسْلِيمُ مَا ادَّعَاهُ هَذَا الْمُدَّعِي إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَا ; أَمَّا إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ أَسْوَأَ الْأَحْوَالِ ; كَمَا يَكُونُ هَذَا الْمُوصِي مُتَبَرِّعًا بِهَذَا الْإِعْطَاءِ . وَلَوْ وَصَّى لِمُعَيَّنِ إذَا فَعَلَ فِعْلًا أَوْ وَصَّى لِمُطَلِّقِ مَوْصُوفٍ : فَكُلٌّ مِنْ الْوَصِيَّتَيْنِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُنَازِعُونَ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُولِ ; وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ ; وَلِهَذَا لَا يَقَعُ شُبْهَةٌ لِأَحَدِ فِي أَنَّهُ إذَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ وَجَبَ تَسْلِيمُهُ وَإِنَّمَا قَدْ تَقَعُ الشُّبْهَةُ فِيمَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ . وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ يَجِبُ تَسْلِيمُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ; لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصَايَا فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَفْهُومُهُ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْأَمْرُ بِتَسْلِيمِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ . لَكِنْ رَدُّ الْيَمِينِ هَلْ هُوَ كَالْإِقْرَارِ ؟ أَوْ كَالْبَيِّنَةِ ؟ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ . فَإِذَا قِيلَ : هُوَ كَالْإِقْرَارِ صَارَ هَذَا إقْرَارًا لِهَذَا الْمُدَّعِي ; غَايَتُهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَوْصُوفِ أَوْ بِمَجْهُولِ ; وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ إقْرَارٌ يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ; مَعَ أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ لَيْسَ الْإِقْرَارُ لَهُ إقْرَارًا بِمَجْهُولِ ; فَإِنَّهُ هُوَ سَبَبُ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَسَبَبُ اللَّفْظِ الْعَامِّ مُرَادٌ فِيهِ قَطْعًا كَأَنَّهُ قَالَ : هَذَا الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ إنْ حَلَفَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَأَعْطَوْهُ إيَّاهُ . وَمِثْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَاجِبٌ تَنْفِيذُهَا . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ الرَّدَّ كَالْبَيِّنَةِ صَارَ حَلِفُ الْمُدَّعِي مَعَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً وَيَصِيرُ الْمُدَّعِي قَدْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَمِثْلُ هَذَا يَجِبُ تَسْلِيمُ مَا ادَّعَاهُ إلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ هَذَا عَلَى أَصْلِ مَنْ لَا يَقْضِي بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد . وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَقْضِي بِالنُّكُولِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَالْأَمْرُ عِنْدَهُ أَوْكَدُ ; فَإِنَّهُ إذَا رَضِيَ الْخَصْمَانِ فَحَلَفَ الْمُدَّعِي كَانَ جَائِزًا عِنْدَهُمْ ; وَكَانَ مِنْ النُّكُولِ أَيْضًا فَالرَّجُلُ الَّذِي قَدْ عَلِمَ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ مُعَامَلَاتٍ مُتَعَدِّدَةً مِنْهَا مَا هُوَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ; وَعَلَيْهِ حُقُوقٌ قَدْ لَا يَعْلَمُ أَرْبَابَهَا وَلَا مِقْدَارَهَا . لَا تَكُونُ مِثْلَ هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْهُ تَبَرُّعًا ; بَلْ تَكُونُ وَصِيَّةً بِوَاجِبِ وَالْوَصِيَّةُ بِوَاجِبِ لِآدَمِيٍّ تَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ حَقًّا وَشَكَّ فِي أَدَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ ; بَلْ إذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ فَقَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ لَا يَعْلَمُ عَيْنَ صَاحِبِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا وَكَمَنَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ لَا يَعْلَمُ عَيْنَ الْمُسْتَحِقِّ ; فَإِذَا قَالَ : مَنْ حَلَفَ مِنْكُمَا فَهُوَ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ بِأَمْرِ لَا يَعْلَمُ ثُبُوتَهُ وَلَا انْتِفَاءَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى نَفْيِهِ يَمِينَ بَتٍّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ حَلَفَ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ ; بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ ; وَإِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ يُصَدِّقُهُ بِأَمْرِ بُنِيَ عَلَيْهِ وَإِذَا رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْحَالِ عَلَيْهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ لَوْ نَهَاهُمْ عَنْ إعْطَائِهِ قَدْ يَكُونُ ظَالِمًا مَانِعًا الْمُسْتَحِقَّ ; وَإِنْ أَمَرَ بِإِعْطَاءِ كُلِّ مُدَّعٍ أَفْضَى إلَى أَنْ يَدَّعِيَ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ وَذَلِكَ تَبَرُّعٌ ; فَإِذَا أَمَرَ بِتَحْلِيفِهِ وَإِعْطَائِهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَيْثُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ أَخْرَجَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ .