وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ رَجُلٍ وَكَّلَ ذِمِّيًّا فِي قَبُولِ نِكَاحِ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ : هَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ ; فَإِنَّ الْوَكِيلَ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُهُ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ فِي الْجُمْلَةِ . فَلَوْ وَكَّلَ امْرَأَةً أَوْ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا غَيْرَ مُمَيِّزٍ لَمْ يَجُزْ ; وَلَكِنْ إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ النِّكَاحِ بِإِذْنِ وَلَيِّهِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقَبُولُ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ : فَوُكِّلَ فِي ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُوَكِّلَ عَبْدًا فِي قَبُولِ النِّكَاحِ بِلَا إذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ يُوَكِّلَ سَفِيهًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِدُونِ [ إذْنِ ] وَلِيِّهِ أَوْ يُوَكِّلَ صَبِيًّا مُمَيِّزًا بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ : فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ إذْنٍ ; لَكِنْ فِي الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يَجُوزُ لِمَانِعِ فِيهِ : مِثْلَ أَنْ يُوَكِّلَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُهَا صَحَّتْ الْوَكَالَةُ . وَأَمَّا " تَوَكُّلُ الذِّمِّيِّ " فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَهُ فَهُوَ يُشْبِهُ تَزْوِيجَ الذِّمِّيِّ ابْنَتَهُ الذِّمِّيَّةَ مِنْ مُسْلِمٍ وَلَوْ زَوَّجَهَا مِنْ ذِمِّيٍّ جَازَ ; وَلَكِنْ إذَا زَوَّجَهَا مِنْ مُسْلِمٍ : فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَجُوزُ . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ ; بَلْ يُوَكِّلُ مُسْلِمًا . وَقِيلَ : لَا يُزَوِّجُهَا إلَّا الْحَاكِمُ بِإِذْنِهِ . وَكَوْنُهُ وَلِيًّا فِي تَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ مِثْلَ كَوْنِهِ وَكِيلًا فِي تَزْوِيجِ الْمَسْأَلَةِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزٌ قَالَ : إنَّ الْمِلْكَ فِي النِّكَاحِ يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ ; لَا لِلْوَكِيلِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ; بِخِلَافِ الْمِلْكِ فِي غَيْرِهِ ; فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ . تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ وَالْمِلْكُ يَحْصُلُ لَهُ : فَلَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ لَمْ يَجُزْ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ وَهُوَ الْمُوَكِّلُ لِلْمُسْلِمِ : فَتَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ بِمَنْزِلَةِ تَوَكُّلِهِ فِي تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ بَعْضَ مَحَارِمِهَا كَخَالِهَا ; فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَوَكُّلُهُ فِي قَبُولِ نِكَاحِهَا لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُهَا كَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا تَوَكَّلَ فِي نِكَاحِ مُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُ الْمُسْلِمَةِ ; لَكِنَّ الْأَحْوَطَ أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ ; لِمَا فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ ; وَلِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهِ شَوْبُ الْعِبَادَاتِ . وَيُسْتَحَبُّ " عَقْدُهُ فِي الْمَسَاجِدِ " وَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ : " مَنْ شَهِدَ إمْلَاكَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّمَا شَهِدَ فَتْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ " . وَلِهَذَا وَجَبَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَنْ يُعْقَدَ بِالْعَرَبِيَّةِ كَالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ مُتَوَلِّيًا نِكَاحَ مُسْلِمٍ ; وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى بُطْلَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ ; وَالْكَافِرُ يَصِحُّ مِنْهُ النِّكَاحُ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .