تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ : هَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا ؟
12
وَالْيَمِينُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ " نَوْعَانِ " : نَوْعٌ مُحْتَرَمٌ مُنْعَقِدٌ مُكَفِّرٌ كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ . وَنَوْعٌ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ ; وَلَا مُنْعَقِدٍ وَلَا مُكَفِّرٍ وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ . فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ . وَهِيَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ مِنْ الثَّانِي . وَأَمَّا إثْبَاتُ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ ; غَيْرِ مُكَفِّرَةٍ فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَتَقْسِيمُ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ إلَى يَمِينٍ مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ كَتَقْسِيمِ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ إلَى خَمْرٍ وَغَيْرِ خَمْرٍ . وَتَقْسِيمِ السَّفَرِ إلَى طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ . وَتَقْسِيمِ الْمُيَسَّرِ إلَى مُحَرَّمٍ وَغَيْرِ مُحَرَّمٍ ; بَلْ الْأُصُولُ تَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ . وَبَسْطُ الْكَلَامِ لَهُ مَوْضُوعٌ آخَرُ لَكِنَّ هَذَا " الْقَوْلَ الثَّالِثَ " وَهُوَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْكَفَّارَةِ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لَا تَتَنَاقَضُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَابِرِ التَّابِعِينَ : إمَّا فِي جَمِيعِ الْأَيْمَانِ . وَإِمَّا فِي بَعْضِهَا . وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَمِينٌ . وَالتَّعْلِيلُ بِذَلِكَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ . وَالصِّيَغُ ثَلَاثَةٌ " صِيغَةُ تَنْجِيزٍ " كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ فَهَذِهِ لَيْسَتْ يَمِينًا وَلَا كَفَّارَةَ فِي هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ " وَالثَّانِي " صِيغَةُ قَسَمٍ كَمَا إذَا قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهَذِهِ يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفُقَهَاءِ . " وَالثَّالِثُ " صِيغَةُ تَعْلِيقٍ . فَهَذِهِ إنْ قَصَدَ بِهَا الْيَمِينَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الثَّانِي بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا إنْ قَصَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّرْطِ : مِثْلَ أَنْ يَخْتَارَ طَلَاقَهَا إذَا أَعْطَتْهُ الْعِوَضَ فَيَقُولُ : إنْ أَعْطَيْتِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ . وَيَخْتَارُ طَلَاقَهَا إذَا أَتَتْ كَبِيرَةً فَيَقُولُ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ زَنَيْت أَوْ سَرَقْت . وَقَصْدُهُ الْإِيقَاعَ عِنْدَ الصِّفَةِ ; لَا الْحَلِفِ : فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ ; فَإِنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ رُوِيَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ : كَعَلِيِّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ وَكَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا نَقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالصِّفَةِ لَا يَقَعُ وَإِنَّمَا عُلِمَ النِّزَاعُ فِيهِ عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ وَعَنْ ابْنِ حَزْمٍ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ . وَهَؤُلَاءِ الشِّيعَةُ بَلَغَتْهُمْ فَتَاوَى عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْبَيْتِ فِيمَنْ قَصْدُهُ الْحَلِفُ : فَظَنُّوا أَنَّ كُلَّ تَعْلِيقٍ كَذَلِكَ كَمَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْجُمْهُورِ بَلَغَتْهُمْ فَتَاوَى عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيمَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِصِفَةِ أَنَّهُ يَقَعُ عِنْدَهَا : فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَمِينٌ . وَجَعَلُوا كُلَّ تَعْلِيقٍ يَمِينًا كَمَنْ قَصْدُهُ الْيَمِينَ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ ; كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ أُولَئِكَ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِ الطَّلَاقِ . وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَفْتَى فِي الْيَمِينِ بِلُزُومِ الطَّلَاقِ . كَمَا لَمْ أَعْلَمِ أَحَدًا مِنْهُمْ أَفْتَى فِي التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ حَتَّى قَالَ بِهِ داود وَأَصْحَابُهُ . فَفَرَّقُوا بَيْنَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ وَغَيْرِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ; فَإِنَّ الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَإِنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ كَقَوْلِ الْمُسْلِمِ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ : فَهُوَ يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَإِنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ ; إنَّمَا الْتِزَامُهُ لِئَلَّا يُلْزِمَ وَلِيَمْتَنِعَ بِهِ مِنْ الشَّرْطِ ; لَا لِقَصْدِ وُجُودِهِ عِنْدَ الصِّفَةِ . وَهَكَذَا الْحَلِفُ بِالْإِسْلَامِ لَوْ قَالَ الذِّمِّيُّ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ . وَالْحَالِفُ بِالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ إذَا قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَنِسَائِي طَوَالِقُ وَمَالِي صَدَقَةٌ فَهُوَ يَكْرَهُ هَذِهِ اللَّوَازِمَ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَإِنَّمَا عَلَّقَهَا لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الشَّرْطِ ; لَا لِقَصْدِ وُقُوعِهَا وَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَالتَّعْلِيقُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ مِنْ بَابِ الْإِيقَاعِ وَاَلَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ مِنْ بَابِ الْيَمِينِ . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَحْكَامَ الطَّلَاقِ وَأَحْكَامَ الْإِيمَانِ . وَإِذَا قَالَ : إنْ سَرَقْت إنْ زَنَيْت : فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَهَذَا قَدْ يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقَامُهَا مَعَ هَذَا الْفِعْلِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهَا ; وَإِنَّمَا قَصْدُهُ زَجْرُهَا وَتَخْوِيفُهَا لِئَلَّا تَفْعَلُ : فَهَذَا حَلِفٌ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِرَاقُهَا أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ الْمُقَامِ مَعَهَا مَعَ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ إذَا فَعَلَتْهُ أَنْ تَطْلُقَ مِنْهُ : فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .