تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ " النُّصُوحِ " هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ ؟ وَهْم يَقُولُونَ : إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَعْمَلُهُ . " وَصُورَتُهُ " أَنْ يَأْخُذَ ثَلَاثِينَ رِطْلًا مِنْ مَاءِ عِنَبٍ وَيَغْلِي حَتَّى يَبْقَى ثُلُثُهُ ; فَهَلْ هَذِهِ صُورَتُهُ ؟ وَقَدْ نَقَلَ مَنْ فَعَلَ بَعْضَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْكِرُ ; وَهُوَ الْيَوْمَ جِهَارًا فِي الإسكندرية وَمِصْرَ ; وَنَقُولُ لَهُمْ : هُوَ حَرَامٌ ; فَيَقُولُونَ : كَانَ عَلَى زَمَنِ عُمَرَ ; وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَنَهَى عَنْهُ ؟
1
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ وَجَعَلَهُ خَمْرًا كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } وَفِي لَفْظٍ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَرَابِ الْعَسَلِ يُسَمَّى الْبِتْعَ وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ; فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ - مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ; وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ . وَهُوَ فِي السُّنَنِ مُسْنَدٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَقَدْ صَحَّحَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ . وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . فَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ ; وَمِصْرَ ; وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ ; وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ : أَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حِرَامٌ ; وَهُوَ خَمْرٌ عِنْدَهُمْ مِنْ أَيِّ مَادَّةٍ كَانَتْ : مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعِنَبِ أَوْ التَّمْرِ ; أَوْ الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ أَوْ لَبَنِ الْخَيْلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَسَوَاءٌ كَانَ نَيْئًا أَوْ مَطْبُوخًا وَسَوَاءٌ ذَهَبَ ثُلُثَاهُ أَوْ ثُلُثُهُ ; أَوْ نِصْفُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ . فَمَتَى كَانَ كَثِيرُهُ مُسْكِرًا حَرُمَ قَلِيلُهُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَهُمْ . وَمَعَ هَذَا فَهُمْ يَقُولُونَ بِمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ ; فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وَأَرَادَ أَنْ يَطْبُخَ لِلْمُسْلِمِينَ شَرَابًا لَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ طَبَخَ الْعَصِيرَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَصَارَ مِثْلَ الرُّبِّ فَأَدْخَلَ فِيهِ أُصْبُعَهُ فَوَجَدَهُ غَلِيظًا فَقَالَ : كَأَنَّهُ الطَّلَا . يَعْنِي الطَّلَا الَّذِي يُطْلَى بِهِ الْإِبِلُ فَسَمَّوْا ذَلِكَ " الطَّلَا " . فَهَذَا الَّذِي أَبَاحَهُ عُمَرُ لَمْ يَكُنْ يُسْكِرُ وَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ صَاحِبُ الْخَلَّالِ : أَنَّهُ مُبَاحٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْكِرُ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ إنَّهُ يُبَاحُ مَعَ كَوْنِهِ مُسْكِرًا وَلَكِنْ نَشَأَتْ " شُبْهَةٌ " مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا الْمَطْبُوخَ قَدْ يُسْكِرُ ; لِأَشْيَاءَ إمَّا لِأَنَّ طَبْخَهُ لَمْ يَكُنْ تَامًّا ; فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا صِفَةَ طَبْخِهِ أَنَّهُ يَغْلِي عَلَيْهِ أَوَّلًا حَتَّى يَذْهَبَ وَسَخُهُ ثُمَّ يَغْلِي عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَالْوَسَخُ فِيهِ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ ; لِأَنَّ الْوَسَخَ يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِ الذَّاهِبِ . وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يُضَافُ إلَى الْمَطْبُوخِ مِنْ الْأَفَاوِيهِ وَغَيْرِهَا مَا يُقَوِّيهِ وَيَشُدُّهُ حَتَّى يَصِيرَ مُسْكِرًا فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ الْخَلِيطَيْنِ وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ } لِتَقْوِيَةِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ كَمَا نَهَى عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَعَنْ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلِلْعُلَمَاءِ نِزَاعٌ فِي " الْخَلِيطَيْنِ " إذَا لَمْ يُسْكِرْ كَمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي نَبِيذِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي لَا يَشْتَدُّ مَا فِيهَا بِالْغَلَيَانِ وَكَمَا تَنَازَعُوا فِي الْعَصِيرِ وَالنَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ . وَأَمَّا إذَا صَارَ الْخَلِيطَانِ مِنْ الْمُسْكِرِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ . فَاَلَّذِي أَبَاحَهُ عُمَرُ مِنْ الْمَطْبُوخِ كَانَ صِرْفًا فَإِذَا خَلَطَهُ بِمَا قَوَّاهُ وَذَهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَا أَبَاحَهُ عُمَرُ . وَرُبَّمَا يَكُونُ لِبَعْضِ الْبِلَادِ طَبِيعَةٌ يُسْكِرُ فِيهَا مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَيَحْرُمُ إذَا أَسْكَرَ ; فَإِنَّ مَنَاطَ التَّحْرِيمِ هُوَ السُّكْرُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَمَنْ قَالَ . إنَّ عُمَرَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَبَاحَ مُسْكِرًا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ .