تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ طَائِفَتَيْنِ تَزْعُمَانِ أَنَّهُمَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَدَاعَيَانِ بِدَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ : كَأَسَدِ وَهِلَالٍ وَثَعْلَبَةَ وَحَرَامٍ وَغَيْرِ ذَلِك . وَبَيْنَهُمْ أَحْقَادٌ وَدِمَاءٌ ; فَإِذَا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ سَعَى الْمُؤْمِنُونَ بَيْنَهُمْ لِقَصْدِ التَّأْلِيفِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ; فَيَقُولُ أُولَئِكَ الْبَاغُونَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَلَبَ الثَّأْرِ بِقَوْلِهِ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } ثُمَّ إنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُعَرِّفُونَهُمْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يُفْضِي إلَى الْكُفْرِ : مِنْ قَتْلِ النَّفُوسِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ . فَيَقُولُونَ : نَحْنُ لَنَا عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ فَلَا نُفَارِقُ حَتَّى نَأْخُذَ ثَأْرَنَا بِسُيُوفِنَا ثُمَّ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِمْ فَمَنْ انْتَصَرَ مِنْهُمْ بَغَى وَتَعَدَّى وَقَتَلَ النَّفْسَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ : فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ وَقَتْلُهَا بَعْدَ أَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ ؟ أَوْ مَاذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ بِهَذِهِ الطَّائِفَةِ الْبَاغِيَةِ ؟
123
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْنَا طَلَبَ الثَّأْرِ . فَهُوَ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى مَنْ لَهُ عِنْدَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ مَظْلِمَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ ; بَلْ لَمْ يَذْكُرْ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا نَدَبَ فِيهَا إلَى الْعَفْوِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } فَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَإِنْ كَانَ حُكْمُنَا كَحُكْمِهِمْ مِمَّا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ الشَّرَائِعِ : فَالْمُرَادُ بِذَلِك التَّسْوِيَةُ فِي الدِّمَاءِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ } . { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ رَئِيسًا مُطَاعًا مِنْ قَبِيلَةٍ شَرِيفَةٍ وَالْمَقْتُولُ سُوقِيٍّ طَارِفٌ وَكَذَلِك إنْ كَانَ كَبِيرًا وَهَذَا صَغِيرًا أَوْ هَذَا غَنِيًّا وَهَذَا فَقِيرًا وَهَذَا عَرَبِيًّا وَهَذَا عَجَمِيًّا أَوْ هَذَا هَاشِمِيًّا وَهَذَا قُرَشِيًّا . وَهَذَا رَدٌّ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ كَبِيرٌ مِنْ الْقَبِيلَةِ قَتَلُوا بِهِ عَدَدًا مِنْ الْقَبِيلَةِ الْأُخْرَى [ غَيْرَ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ ] وَإِذَا قُتِلَ ضَعِيفٌ مِنْ قَبِيلَةٍ لَمْ يَقْتُلُوا قَاتِلَهُ إذَا كَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } فَالْمَكْتُوبُ عَلَيْهِمْ هُوَ الْعَدْلُ وَهُوَ كَوْنُ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ ; إذْ الظُّلْمُ حَرَامٌ . وَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ فَهُوَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } أَيْ لَا يَقْتُلْ غَيْرَ قَاتِلِهِ . وَأَمَّا إذَا طَلَبَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَتْ الْأُخْرَى نَحْنُ نَأْخُذُ حَقَّنَا بِأَيْدِينَا فِي هَذَا الْوَقْتِ : فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ الْمُوجِبَةِ عُقُوبَةَ هَذَا الْقَاتِلِ الظَّالِمِ الْفَاجِرِ وَإِذَا امْتَنَعُوا عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَهُمْ شَوْكَةٌ وَجَبَ عَلَى الْأَمِيرِ قِتَالُهُمْ ; وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَوْكَةٌ : عَرَفَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَلْزَمَ بِالْعَدْلِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : لَنَا عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ مِنْ سِنِينَ مُتَقَادِمَةٍ . فَيُقَالُ لَهُمْ نَحْنُ نَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِي الْحُقُوقِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَأْتِي عَلَى هَذَا .