مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ مَا ذَكَرَهُ حَنْبَلٌ قَالَ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : يُقَالُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ كَانَ عِنْدَهُ قَضَاءٌ وَكَانَ يَتْبَعُ قَضَاءَ عُمَرَ وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيّ . قَالَ : الِاخْتِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ : مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيّ وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَقَدْ أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ رَآهُمَا جَمِيعًا الزُّبَيْدِيّ وَسَعِيدَ بْنَ أَبِي حَمْزَةَ . وَرَأَيْته لِلزُّبَيْدِيِّ أَكْثَرَ تَعْظِيمًا وَهُمَا صَاحِبَا الزُّهْرِيّ بِالرَّصَافَةِ مِنْ قِبَلِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ : مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيّ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَلَى نَفَقَاتِ هِشَامٍ . وَعَنْ بَقِيَّةَ قَالَ قَالَ لَنَا الأوزاعي : مَا فَعَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيّ ؟ قَالَ قُلْت : وَلِيَ بَيْتَ الْمَالِ . قَالَ إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ الذهلي مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عفير أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ : أَنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَنْحَرَ ابْنَهَا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي أَمْرٍ إنْ فَعَلَتْهُ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَقَدِمَتْ الْمَدِينَةَ تَسْتَفْتِي عَنْ نَذْرِهَا فَجَاءَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ : لَا أَعْلَمُ اللَّهُ أَمَرَ فِي النَّذْرِ إلَّا بِالْوَفَاءِ قَالَتْ الْمَرْأَةُ : فَأَنْحَرُ ابْنِي ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : قَدْ نَهَاكُمْ اللَّهُ أَنْ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ لَمْ يَزِدْهَا ابْنُ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ . فَجَاءَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَاسْتَفْتَتْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ وَنَهَاكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ . وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ نَذَرَ إنْ تَوَافَى لَهُ عَشَرَةُ رَهْطٍ أَنْ يَنْحَرَ أَحَدَهُمْ فَلَمَّا تَوَافَى لَهُ عَشَرَةٌ وَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ أَيَّهمْ يَنْحَرُ فَصَارَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ أَحَبَّ النَّاسِ إلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ . اللَّهُمَّ أَهُوَ أَوْ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; وَصَارَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى نَحْرِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلْمَرْأَةِ فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَنْحَرِي مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ مَكَانَ ابْنِك . فَبَلَغَ الْحَدِيثُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فَقَالَ : مَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ أَصَابَا الْفُتْيَا " إنَّهُ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ " اسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ وَاعْمَلِي مَا اسْتَطَعْت مِنْ الْخَيْرِ فَأَمَّا أَنْ تَنْحَرِي ابْنَك فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاك عَنْ ذَلِكَ . قَالَ : فَسُرَّ النَّاسُ بِذَلِكَ وَأَعْجَبَهُمْ قَوْلُ مَرْوَانَ وَرَأَوْا أَنْ قَدْ أَصَابَ الْفَتْوَى فَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ يُفْتُونَ بِأَنْ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ . قُلْت ابْنُ عُمَرَ كَانَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَنْ النَّذْرِ لِلْمَعْصِيَةِ لَا يَأْمُرُ فِيهِ لَا بِوَفَاءِ وَلَا تَرْكٍ كَمَا سُئِلَ عَنْ مَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ فَقَالَ : أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ : الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ . وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِوَفَاءِ النَّذْرِ مُقَيَّدٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ ; وَلِهَذَا نَقَلَ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بَعْدَهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ; وَمَنْ نَدَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ بِلَفْظِ النَّذْرِ مُطْلَقًا ; إذْ قَوْلُهُ { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } خَبَرٌ وَثَنَاءٌ وَقَوْلُهُ : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } خَاصٌّ ; لَكِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ وَالنَّذْرُ مِنْ ذَلِكَ . فَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِهِمَا : أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ . وَهَذِهِ حَالُ مَنْ يَجْعَلُ الْعُهُودَ وَالْعُقُودَ مُقْتَضِيَةً لِلْوَفَاءِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ . وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ أَهْلِ الْوَرَعِ كَمَا عَرَضَ لِابْنِ عُمَرَ حَتَّى إنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ نَقْضِ كَثِيرٍ مِنْ الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرِيعَةِ وَهُمْ يَتَوَرَّعُونَ أَيْضًا عَنْ مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ فَيَبْقَوْنَ فِي الْحَيْرَةِ وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَعَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا هَذَا . وَالْأُخْرَى عَلَيْهِ ذَبْحُ كَبْشٍ ; وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ الشَّرِيعَةَ ; دُونَ الِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ أَصْلًا إلَّا إذَا أَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ لَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ احْتَجَّ بِهِ لِكَوْنِ الدِّيَةِ أَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ وَهِيَ بَدَلُ النَّفْسِ فَرَأَى هَذَا الْبَدَلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فِي الِافْتِدَاءِ ثُمَّ جَعَلَ الِافْتِدَاءَ بِالْكَبْشِ اتِّبَاعًا لِقِصَّةِ إبْرَاهِيمَ وَهُوَ الْأَنْسَبُ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَسَائِرِ نُذُورِ الْمَعْصِيَةِ . وَاَلَّذِي أَفْتَى بِهِ مَرْوَانُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ وَكُلُّ مَنْ يَقُولُ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ لَا شَيْءَ فِيهِ . وَهَذَا النَّذْرُ ظَاهِرُهُ نَذْرُ يَمِينٍ ; لَكِنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ نَذْرَ تَبَرُّرٍ كَنَذْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ; وَلَكِنْ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَرَوَوْا الْقِصَّةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي عِنْدَهُمْ .