سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْعَبْدِ : هَلْ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ الطَّاعَةَ إذَا أَرَادَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ الْمَعْصِيَةَ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَرْكِهَا أَمْ لَا ؟ وَإِذَا فَعَلَ الْخَيْرَ نَسَبَهُ إلَى اللَّهِ وَإِذَا فَعَلَ الشَّرَّ نَسَبَهُ إلَى نَفْسِهِ ؟ .
وَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ عَمَلَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَمِنْ نِعْمَتِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ } وَقَالَ : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } . وَكَذَلِكَ إضَافَةُ السَّيِّئَاتِ إلَى نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ مَوْجُودٍ : مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ . كَمَا قَالَ آدَمَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَالَ مُوسَى : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَقَالَ الْخَلِيلُ : { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } وَقَالَ لِخَاتَمِ الرُّسُلِ : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : - فِي حَقِّ مَنْ عَذَّبَهُمْ - { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إلَّا أَنْ قَالُوا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ قَالَ : يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا ; فَلَا تظالموا يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ ; فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ ; لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْبَحْرُ إذْ يُغْمَسُ فِيهِ الْمِخْيَطُ غمسة وَاحِدَةً . يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا ; فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } . فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ مَنْ وَجَدَ خَيْرًا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ بِذَلِكَ وَإِنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ : إمَّا شَرًّا لَهُ عِقَابٌ وَإِمَّا عَبَثًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي ظَلَمَ نَفْسَهُ وَكُلُّ حَادِثٍ فَبِقُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَكَذَلِكَ فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ; أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي ; فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ; وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } . قَوْلُهُ { أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ } يَتَنَاوَلُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَغَيْرِهَا وَقَوْلُهُ وَ { أَبُوءُ بِذَنْبِي } اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِذَنْبِهِ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ طَرِيقَةُ الْمُؤْمِنِينَ . وَمَنْ عَدَاهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : فَإِنَّ الْقِسْمَةَ رُبَاعِيَّةٌ . ( قِسْمٌ يَجْعَلُونَ أَنْفُسَهُمْ هِيَ الْخَالِقَةَ الْمُحْدِثَةَ لِلْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ الدِّينِيَّةَ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ سَوَاءٌ وَأَنَّهُ لَمْ يُعْطِ الْعَبْدَ إلَّا قُدْرَةً وَاحِدَةً تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ وَلَيْسَ بِيَدِ اللَّهِ هِدَايَةٌ خَصَّ بِهَا الْمُؤْمِنَ ; أَوْ تُطْلَبُ مِنْهُ بِقَوْلِ الْعَبْدِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ ضَالٍّ وَلَا إضْلَالِ مُهْتَدٍ ; فَهَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ . وَ ( قِسْمٌ يَسْلُبُونَ الْعَبْدَ اخْتِيَارَهُ وَقُدْرَتَهُ ; وَيَجْعَلُونَهُ مَجْبُورًا عَلَى حَرَكَاتِهِ مِنْ جِنْسِ حَرَكَاتِ الْجَمَادَاتِ ; وَيَجْعَلُونَ أَفْعَالَهُ الِاخْتِيَارِيَّةَ والاضطرارية مِنْ نَمَطٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ : إنَّ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يُطِيقُهُ ; فَيَسْلُبُونَهُ الْقُدْرَةَ مُطْلَقًا ; إذْ لَا يَثْبُتُونَ لَهُ إلَّا قُدْرَةً وَاحِدَةً مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ . وَلَا يَجْعَلُونَ لِلْعَاصِي قُدْرَةً أَصْلًا . فَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ " مَقَالَاتِ الْجَبْرِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ " الَّذِينَ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ - كَمَا أَنْكَرُوا قَوْلَ الْأَوَّلِينَ - أَئِمَّةَ الْهُدَى : مِثْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو الأوزاعي وَسُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ . فَإِنْ ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ إقَامَةَ الْعُذْرِ لِلْعُصَاةِ بِالْقَدَرِ وَقَالُوا : إنَّهُمْ مَعْذُورُونَ لِذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّونَ اللَّوْمَ وَالْعَذَابَ أَوْ جَعَلُوا عُقُوبَتَهُمْ ظُلْمًا فَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ كَمَا أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ عِلْمَ اللَّهِ الْقَدِيمَ مِنْ غُلَاةِ الْقَدَرِيَّةِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَإِنْ جَعَلُوا ثُبُوتَ الْقَدَرِ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَفِعْلِ المباحية فَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا ; { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ } { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَسْتَلْزِمُ طَيَّ بِسَاطِ كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْمُعَادِ . وَأَمَّا ( الْقِسْمُ الرَّابِعُ : فَهُوَ شَرُّ الْأَقْسَامِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَأَنْتَ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاكَ تَمَذْهَبْتَ بِهِ - فَهَؤُلَاءِ شَرُّ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَبًا لِطَائِفَةِ مَعْرُوفَةٍ وَلَكِنْ هُوَ حَالُ عَامَّةِ الْمَحْلُولِينَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إنْ فَعَلَ طَاعَةً أَخَذَ يُضِيفُهَا إلَى نَفْسِهِ وَيُعْجَبُ حَتَّى يُحْبِطَ عَمَلَهُ وَإِنْ فَعَلَ مَعْصِيَةً أَخَذَ يَعْتَذِرُ بِالْقَدَرِ وَيَحْتَجُّ بِالْقَضَاءِ وَتِلْكَ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ وَعُذْرٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ . وَتَرَاهُ إذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ بِفِعْلِ الْعِبَادِ أَوْ غَيْرِهِمْ لَا يَسْتَسْلِمُ لِلْقَدَرِ وَتَرَاهُ إذَا ظَلَمَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ وَيَقُولُ : الْعَبْدُ مِسْكِينٌ لَا قَادِرٌ وَلَا مَعْذُورٌ وَيَقُولُ : أَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ إيَّاكَ إيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْمَاءِ وَإِنْ ظَلَمَهُ غَيْرُهُ ظُلْمًا دُونَ ذَلِكَ أَوْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ ظَلَمَهُ أَحَدٌ سَعَى فِي الِانْتِقَامِ مِنْ ذَلِكَ بِأَضْعَافِ ذَلِكَ وَلَا يَعْذُرُ غَيْرَهُ بِمِثْلِ مَا عَذَرَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الْقَدَرِ وَهُمَا سَوَاءٌ فَهَذِهِ الْجُمَلُ يَجِبُ اعْتِقَادُهَا . وَأَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمُوجِبَةِ لِإِضَافَةِ الذُّنُوبِ إلَى الْعَبْدِ مَعَ عُمُومِ الْخَلْقِ وَفِي سَرْدِ وُقُوعِ هَذِهِ الشُّرُورِ - فِي الْقَدَرِ وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُضَفْ إلَى اللَّهِ فِي كِتَابِهِ إلَّا عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا عَلَى ( طَرِيقِ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } . وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إلَى السَّبَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } . وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ الْفَاعِلُ كَقَوْلِ الْجِنِّ : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } . وَالْكَلَامُ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى لَا بُدَّ أَنْ تَتَضَمَّنَ إضَافَةَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ دَاخِلٌ فِي مَفْعُولَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } وَقَوْلِهِ : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَتَحْرِيرُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي هِيَ شَرَفُ الْأَوَّلِينَ والآخرين يَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ وَإِطْنَابٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .