سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ الْعَلَّامَةُ الرَّبَّانِيُّ وَالْحُجَّةُ النُّورَانِيُّ أَوْحَدُ عَصْرِهِ وَفَرِيدُ دَهْرِهِ حِلْيَةُ الطَّالِبِينَ وَنُخْبَةُ الرَّاسِخِينَ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تيمية الحراني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَثَابَهُ الْجَنَّةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ فَقِيلَ : - يَا أَيُّهَا الْحَبْرُ الَّذِي عِلْمُهُ وَفَضْلُهُ فِي النَّاسِ مَذْكُورُ كَيْفَ اخْتِيَارُ الْعَبْدِ أَفْعَالَهُ وَالْعَبْدُ فِي الْأَفْعَالِ مَجْبُورُ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا : أَنَّهُ عَلَى الْإِرَادَاتِ لَمَقْسُورُ وَلَمْ يَكُنْ فَاعِلَ أَفْعَالِهِ حَقِيقَةً وَالْحُكْمُ مَشْهُورُ وَمِنْ هُنَا لَمْ يَكُنْ لِلْفِعْلِ فِي مَا يَلْحَقُ الْفَاعِلَ تَأْثِيرُ ( وَمَا تَشَاءُونَ دَلِيلٌ لَهُ فِي صِحَّةِ الْمَحْكِيِّ تَقْرِيرُ وَ ( كُلُّ شَيْءٍ ثُمَّ لَوْ سَلَّمْت لَمْ يَكُ لِلْخَالِقِ تَقْدِيرُ أَوْ كَانَ فَاللَّازِمُ مِنْ كَوْنِهِ حُدُوثَهُ وَالْقَوْلُ مَهْجُورُ وَلَا يُقَالُ : عِلْمُ اللَّهِ مَا يُخْتَارُ فَالْمُخْتَارُ مَسْطُورُ وَالْجَبْرُ - إنْ صَحَّ - يَكُنْ مُكْرَهًا وَعِنْدَكَ الْمُكْرَهُ مَعْذُورُ نِعْمَ ذَلِكَ الْجَبْرُ كُنْتَ امْرَأً لَهُ إلَى نَحْوِكَ تَشْمِيرُ أَسْقَمَنِي الشَّوْقُ وَلَكِنَّنِي تُقْعِدُنِي عَنْكَ الْمَقَادِيرُ
فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ : لِأَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا أَنَّهُ عَلَى الْإِرَادَاتِ لَمَقْسُورُ وَلَمْ يَكُنْ فَاعِلٌ أَفْعَالَهُ حَقِيقَةً وَالْحُكْمُ مَشْهُورٌ فَيُقَالُ لَهُ : الْمُصَرِّحُ بِأَنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ حَقِيقَةً هُمْ الجهمية : أَتْبَاعُ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ : لَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ بَلْ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَاتَّبَعُوا السَّلَفَ فِي هَذَا الْأَصْلِ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ - وَكُتُبُهُمْ مَشْحُونَةٌ بِذَلِكَ . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ فَاعِلٌ مَجَازًا ; وَقَالُوا : إنَّ الْفِعْلَ لَا يَقُومُ بِالْفَاعِلِ بَلْ الْفِعْلُ هُوَ الْمَفْعُولُ فَهَؤُلَاءِ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَاعِلٌ لَا الرَّبُّ وَلَا الْعَبْدُ أَمَّا الْعَبْدُ . فَإِنَّهَا وَإِنْ قَامَتْ بِهِ الْأَفْعَالُ فَإِنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ لَهَا عِنْدَهُمْ . وَأَمَّا الرَّبُّ فَعِنْدَهُمْ لَمْ يَقُمْ بِهِ فِعْلٌ لَا هَذِهِ وَلَا غَيْرُهَا وَالْفَاعِلُ الْمَعْقُولُ مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الْمَعْقُولَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَالْمُرِيدُ الْمَعْقُولُ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وَالْحَيُّ وَالْعَالِمُ وَالْقَادِرُ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْمُتَحَرِّكُ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ ; فَإِثْبَاتُ هَؤُلَاءِ فَاعِلًا لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ كَإِثْبَاتِ مُتَقَدِّمِيهِمْ مِنْ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ مُتَكَلِّمًا لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ ; وَمُرِيدًا لَا تَقُومُ بِهِ إرَادَةٌ وَعَالِمًا لَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ ; وَقَادِرًا لَا تَقُومُ بِهِ قُدْرَةٌ ; وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ كَمَا قَرَّرُوهُ فِي مَسْأَلَةِ " كَلَامِ اللَّهِ " ; وَإِثْبَاتِ " صِفَاتِهِ " كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . فَإِنَّ الْأَصْلَ الَّذِي وَافَقُوا بِهِ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ هُوَ : أَنَّ الْمَعْنَى إذَا قَامَ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ ; وَاشْتُقَّ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ مِنْهُ اسْمٌ ; وَلَمْ يُشْتَقَّ لِغَيْرِهِ مِنْهُ اسْمٌ وَعَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ ; وَلَمْ يَعُدْ عَلَى غَيْرِهِ ; كَمَا أَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسَّوَادَ وَالْبَيَاضَ وَالْحَرَارَةَ وَالْبُرُودَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ كَانَ هُوَ الْمُتَحَرِّكَ الْأَسْوَدَ الْأَبْيَضَ الْحَارَّ الْبَارِدَ دُونَ غَيْرِهِ . قَالُوا : فَكَذَلِكَ الْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ إذَا قَامَا بِمَحَلِّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ الْمُرِيدَ دُونَ غَيْرِهِ . قَالُوا : فَلَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ مُتَكَلِّمًا إلَّا بِكَلَامِ يَقُومُ بِهِ ; وَلَا مُرِيدًا إلَّا بِإِرَادَةِ تَقُومُ بِهِ ; وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا بِحَيَاةِ وَعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ تَقُومُ بِهِ ; وَطَرْدُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَاعِلًا إلَّا بِفِعْلِ يَقُومُ بِهِ . وَلِهَذَا { اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ وَذَاتِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ; وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ; وَبِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ } . وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَئِمَّةُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ ; قَالُوا : لِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِهِ وَلَا يُسْتَعَاذُ بِمَخْلُوقِ .