تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ عَنْ " الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ " مَا حَقِيقَتُهُمَا ؟ هَلْ هُمَا مَعْنًى وَاحِدٌ أَوْ مَعْنَيَانِ ؟ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الْحَمْدُ ؟ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الشُّكْرُ ؟ .
123
بَحْثٌ ثَانٍ [ وَهُوَ ] أَنَّ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ . فَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهِ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا ; فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْإِحْسَانِ . وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ مَا بِهِ يَقَعُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ . وَالْحَمْدُ يَكُونُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالِاعْتِقَادِ . أَوْرَدَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ زَيْنُ الدِّينِ ابْنُ المنجا الْحَنْبَلِيُّ : أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلَّقِ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ لِأَنَّ كَوْنَهُ يَقَعُ عَلَى كَذَا وَيَقَعُ بِكَذَا خَارِجٌ عَنْ ذَاتِهِ فَلَا يَكُونُ فَرْقًا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْحُدُودِ إنَّمَا يَتَعَرَّضُ فِيهَا لِصِفَاتِ الذَّاتِ لَا لِمَا خَرَجَ عَنْهَا . فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تيمية : - الْمَعَانِي عَلَى قِسْمَيْنِ : مُفْرَدَةٍ وَمُضَافَةٍ . فَالْمَعَانِي الْمُفْرَدَةُ : حُدُودُهَا لَا تُوجَدُ فِيهَا بِتَعَلُّقَاتِهَا . وَأَمَّا الْمَعَانِي الْإِضَافِيَّةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِي حُدُودِهَا تِلْكَ الْإِضَافَاتُ . فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا . وَلَا يُمْكِنُ تَصَوُّرُهَا إلَّا بِتَصَوُّرِ تِلْكَ الْمُتَعَلِّقَاتِ فَتَكُونُ الْمُتَعَلِّقَاتُ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَتِهَا فَتَعَيَّنَ ذِكْرُهَا فِي الْحُدُودِ . وَالْحَمْدُ وَالشُّكْرُ مُعَلَّقَانِ بِالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ وَالْمَشْكُورِ عَلَيْهِ . فَلَا يَتِمُّ ذِكْرُ حَقِيقَتِهِمَا إلَّا بِذِكْرِ مُتَعَلَّقِهِمَا . فَيَكُونُ مُتَعَلَّقُهُمَا دَاخِلًا فِي حَقِيقَتِهِمَا . فَاعْتَرَضَ الصَّدْرُ ابْنُ الْمُرَحَّلِ : بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُتَعَلِّقِ مِنْ الْمُتَعَلَّقِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ . فَلَا يَكُونُ لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ مِنْ مُتَعَلَّقِهِمَا صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ . فَإِنَّ الْمُتَعَلَّقَ صِفَةٌ نِسْبِيَّةٌ . وَالنِّسَبَ أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ . وَإِذَا لَمْ تَكُنْ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي الْحَقِيقَةِ . لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَكُونُ جُزْءًا مِنْ الْوُجُودِ . فَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : قَوْلُك : لَيْسَ لِلْمُتَعَلِّقِ مِنْ الْمُتَعَلَّقِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ . لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ . بَلْ قَدْ يَكُونُ لِلْمُتَعَلِّقِ مِنْ الْمُتَعَلَّقِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ . وَإِنَّمَا الَّذِي يَقُولُهُ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ : لَيْسَ لِمُتَعَلِّقِ الْقَوْلِ مِنْ الْقَوْلِ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ . ثُمَّ الصِّفَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : إضَافَةٌ مَحْضَةٌ . مِثْلُ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالتَّحْتِيَّةِ وَنَحْوِهَا . فَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا : هِيَ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ . وَالنِّسَبُ أُمُورٌ عَدَمِيَّةٌ . وَالثَّانِي صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ مُضَافَةٌ إلَى غَيْرِهَا كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ فَإِنَّ الْحُبَّ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَحْبُوبِ . فَالْحُبُّ مَعْرُوضٌ لِلْإِضَافَةِ بِمَعْنَى أَنَّ الْإِضَافَةَ صِفَةٌ عَرَضَتْ لَهُ ; لَا أَنَّ نَفْسَ الْحُبِّ هُوَ الْإِضَافَةُ . فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا هُوَ إضَافَةٌ وَبَيْنَ مَا هُوَ صِفَةٌ مُضَافَةٌ . فَالْإِضَافَةُ يُقَالُ فِيهَا : إنَّهَا عَدَمِيَّةٌ . قَالَ : وَأَمَّا الصِّفَةُ الْمُضَافَةُ فَقَدْ تَكُونُ ثُبُوتِيَّةً كَالْحُبِّ . قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ : الْحُبُّ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ . لِأَنَّ الْحُبَّ نِسْبَةٌ وَالنِّسَبَ عَدَمِيَّةٌ . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : كَوْنُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ أَمْرًا عَدَمِيًّا بَاطِلٌ . بِالضَّرُورَةِ . وَهُوَ خِلَافُ إجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ . ثُمَّ هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إرَادَةِ اللَّهِ . فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهَا صِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ . بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُسْتَكْرَهٍ . وَأَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ . وَأَمَّا إرَادَةُ الْمَخْلُوقِ وَحُبُّهُ وَبُغْضُهُ فَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الْعُقَلَاءِ قَالَ : إنَّهُ عَدَمِيٌّ . فَأَصَرَّ ابْنُ الْمُرَحَّلِ عَلَى أَنَّ الْحُبَّ - الَّذِي هُوَ مَيْلُ الْقَلْبِ إلَى الْمَحْبُوبِ - أَمْرٌ عَدَمِيٌّ . وَقَالَ : الْمَحَبَّةُ : أَمْرٌ وُجُودِيٌّ . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : - الْمَحَبَّةُ هِيَ الْحَبُّ . فَإِنَّهُ يُقَالُ : أَحَبَّهُ وَحَبَّهُ حُبًّا وَمَحَبَّةً . وَلَا فَرْقَ . وَكِلَاهُمَا مَصْدَرٌ . قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ : وَأَنَا أَقُولُ : إنَّهُمَا إذَا كَانَا مَصْدَرَيْنِ فَهُمَا أَمْرٌ عَدَمِيٌّ . قَالَ لَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : الْكَلَامُ إذَا انْتَهَى إلَى الْمُقَدِّمَاتِ الضَّرُورِيَّةِ فَقَدْ انْتَهَى وَتَمَّ . وَكَوْنُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ أَمْرًا وُجُودِيًّا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ ; فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَيَّ إنْ كَانَ خَالِيًا عَنْ الْحُبِّ كَانَ هَذَا الْخُلُوُّ صِفَةً عَدَمِيَّةً . فَإِذَا صَارَ مُحِبًّا فَقَدْ تَغَيَّرَ الْمَوْصُوفُ وَصَارَ لَهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْحُبُّ . وَمَنْ يُحِسُّ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ يَجِدُهُ كَمَا يَجِدُ شَهْوَتَهُ وَنُفْرَتَهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ وَلَذَّتَهُ وَأَلَمَهُ . وَدَلِيلُ ذَلِكَ : أَنَّك تَقُولُ : أَحَبُّ يُحِبُّ مَحَبَّةً . وَنَقِيضُ أَحَبَّ : لَمْ يُحِبَّ . وَلَمْ يُحِبَّ صِفَةٌ عَدَمِيَّةٌ وَنَقِيضُ الْعَدَمِ الْإِثْبَاتُ . قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ : هَذَا يَنْتَقِضُ بِقَوْلِهِمْ : امْتَنَعَ يَمْتَنِعُ ; فَإِنَّ نَقِيضَ الِامْتِنَاعِ : لَا امْتِنَاعَ . وَامْتِنَاعُ صِفَةٌ عَدَمِيَّةٌ . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : الِامْتِنَاعُ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ عَقْلِيٌّ ; فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ خَارِجِيٌّ . حَتَّى تَقُومَ بِهِ صِفَةٌ . وَإِنَّمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ . وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَعْلُومًا لَهُ ثُبُوتٌ عِلْمِيٌّ وَسَلْبُ هَذَا الثُّبُوتِ الْعِلْمِيِّ : عَدَمُ هَذَا الثُّبُوتِ ; فَلَمْ يَنْقُضْ هَذَا قَوْلَنَا : نَقِيضُ الْعَدَمِ ثُبُوتٌ وَأَمَّا الْحُبُّ فَإِنَّهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْمُحِبِّ . فَإِنَّك تُشِيرُ إلَى عَيْنٍ خَارِجَةٍ وَتَقُولُ : هَذَا الْحَيُّ صَارَ مُحِبًّا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُحِبًّا . فَتُخْبِرُ عَنْ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ . فَإِذَا كَانَ نَقِيضُهَا عَدَمًا خَارِجِيًّا كَانَتْ وُجُودًا خَارِجِيًّا . وَفِي الْجُمْلَةِ : فَكَوْنُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ صِفَةً ثُبُوتِيَّةً وُجُودِيَّةً مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ . فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ نِزَاعٌ وَلَا يُنَاظِرُ صَاحِبَهُ إلَّا مُنَاظَرَةَ السوفسطائية . قُلْت : وَإِذَا كَانَ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الصِّفَاتِ الْمُضَافَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْغَيْرِ : صِفَاتٌ وُجُودِيَّةٌ . ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ إضَافَةٌ وَنِسْبَةٌ . وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مُضَافَةٌ مَنْسُوبَةٌ . فَالْحَمْدُ وَالشُّكْرُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي ; فَإِنَّ الْحَمْدَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ الشُّكْرُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشْكُورِ عَلَيْهِ . فَلَا يَتِمُّ فَهْمُ حَقِيقَتِهِمَا إلَّا بِفَهْمِ الصِّفَةِ الثُّبُوتِيَّةِ لَهُمَا الَّتِي هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْغَيْرِ . وَتِلْكَ الصِّفَةُ دَاخِلَةٌ فِي حَقِيقَتِهِمَا . فَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقُ أَحَدِهِمَا أَكْبَرَ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْآخَرِ وَذَلِكَ التَّعَلُّقُ إنَّمَا هُوَ عَارِضٌ لِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ لَهُمَا . وَجَبَ ذِكْرُ تِلْكَ الصِّفَةِ الثُّبُوتِيَّةِ فِي ذِكْرِ حَقِيقَتِهِمَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا : أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْإِحْسَانَ امْتَنَعَ أَنْ يَفْهَمَ الشُّكْرَ فَعُلِمَ أَنَّ تَصَوُّرَ مُتَعَلَّقِ الشُّكْرِ دَاخِلٌ فِي تَصَوُّرِ الشُّكْرِ . قُلْت : وَلَوْ قِيلَ : إنَّهُ لَيْسَ هَذَا إلَّا أَمْرًا عَدَمِيًّا . فَالْحَقِيقَةُ إنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ وُجُودٍ وَعَدَمٍ وَجَبَ ذِكْرُهُمَا فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ . كَمَا أَنَّ مِنْ عُرْفِ الْأَبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَبٌ . فَإِنَّ تَصَوُّرَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى تَصَوُّرِ الْأُبُوَّةِ الَّتِي هِيَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ . وَإِنْ كَانَ الْأَبُ أَمْرًا وُجُودِيًّا . فَالْحَمْدُ وَالشُّكْرُ مُتَعَلِّقَانِ بِالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ وَالْمَشْكُورِ عَلَيْهِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمُتَعَلِّقُ عَارِضًا لِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ . فَلَا يُفْهَمُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ إلَّا بِفَهْمِ هَذَا الْمُتَعَلَّقِ . كَمَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَى الْأَبِ إلَّا بِفَهْمِ مَعْنَى الْأُبُوَّةِ الَّذِي هُوَ التَّعَلُّقُ . وَكَذَلِكَ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ أَمْرَانِ مُتَعَلِّقَانِ بِالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ وَالْمَشْكُورِ عَلَيْهِ . وَهَذَا التَّعَلُّقُ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْمُسَمَّى . بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةَ لَمْ يَفْهَمْ الْحَمْدَ . وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ الْإِحْسَانَ لَمْ يَفْهَمْ الشُّكْرَ . فَإِذَا كَانَ فَهْمُهَا مَوْقُوفًا عَلَى فَهْمِ مُتَعَلِّقِهِمَا فَوُقُوفُهُ عَلَى فَهْمِ التَّعَلُّقِ أَوْلَى . فَإِنَّ التَّعَلُّقَ فَرْعٌ عَلَى الْمُتَعَلَّقِ . وَتَبَعٌ لَهُ . فَإِذَا تَوَقَّفَ فَهْمُهُمَا عَلَى فَهْمِ الْمُتَعَلَّقِ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ عَنْهُمَا مِنْ التَّعَلُّقِ . فَتَوَقُّفُهُ عَلَى فَهْمِ التَّعَلُّقِ أَوْلَى . وَإِنْ كَانَ التَّعَلُّقُ أَمْرًا عَدَمِيًّا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ لَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تيمية : - قَوْلُهُ : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } قَدْ أُتْبِعَ بِقَوْلِهِ { وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَعَامَّةُ أَنْوَاعِ الرِّبَا يُسَمَّى بَيْعًا . وَالرِّبَا - وَإِنْ كَانَ اسْمًا مُجْمَلًا - فَهُوَ مَجْهُولٌ . وَاسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ مِنْ الْمَعْلُومِ يُوجِبُ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى فَيَبْقَى الْمُرَادُ إحْلَالُ الْبَيْعِ الَّذِي لَيْسَ بِرِبَا . فَمَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْفَرْدَ الْمُعَيَّنَ لَيْسَ بِرِبَا لَمْ يَصِحَّ إدْخَالُهُ فِي الْبَيْعِ الْحَلَالِ . وَهَذَا يَمْنَعُ دَعْوَى الْعُمُومِ . وَإِنْ كَانَ الرِّبَا اسْمًا عَامًّا فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْبَيْعِ أَيْضًا . فَيَبْقَى الْبَيْعُ لَفْظًا مَخْصُوصًا . فَلَا يَصِحُّ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ . قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ : - هَذَا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ . وَهُنَا عمومان تَعَارَضَا وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ . فَإِنَّ صِيَغَ الِاسْتِثْنَاءِ مَعْلُومَةٌ . وَإِذَا كَانَ هَذَا تَخْصِيصًا لَمْ يَمْنَعْ ادِّعَاءَ الْعُمُومِ فِيهِ . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : - هَذَا كَلَامٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضِ وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْمُتَّصِلِ . وَتُسَمِّيه الْفُقَهَاءُ اسْتِثْنَاءً كَقَوْلِهِ : لَهُ هَذِهِ الدَّارُ وَلِي مِنْهَا هَذَا الْبَيْتُ . فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : إلَّا هَذَا الْبَيْتُ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَكْرِمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ وَلَا تُكْرِمْ فُلَانًا وَهُوَ مِنْهُمْ . كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : إلَّا فُلَانًا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ إلَّا مَا كَانَ مِنْهُ رِبًا . فَمَنْ ادَّعَى بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى بَيْعًا فَهُوَ مُخْطِئٌ . قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ : - أَنَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ إنَّمَا هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ بَيْعٍ لَا يُسَمَّى رِبًا . قَالَ لَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : - وَهَذَا كَانَ الْمَقْصُودَ . وَلَكِنْ بَطَلَ بِهَذَا دَعْوَى عُمُومِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ; فَإِنَّ دَعْوَى الْعُمُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يُنَافِي دَعْوَى الْعُمُومِ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ دُونَ بَعْضٍ . وَهَذَا كَلَامٌ بَيِّنٌ . وَادَّعَى مُدَّعٍ . أَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عُمُومٌ مُرَادٌ . فَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : - فَإِنَّ دَعْوَى أَنَّهُ عُمُومٌ مُرَادٌ : بَاطِلٌ قَطْعًا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَفْرَادِ الْبَيْعِ حَرَامٌ . فَاعْتَرَضَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ : بِأَنَّ تِلْكَ الْأَفْرَادَ حَرُمَتْ بَعْدَمَا أُحِلَّتْ . فَيَكُونُ نَسْخًا . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : - فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا نُحَرِّمَ شَيْئًا مِنْ الْبُيُوعِ بِخَبَرِ وَاحِدٍ وَلَا بِقِيَاسِ . فَإِنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ بِذَلِكَ . وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِهِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ . قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ : - رَجَعْت عَنْ هَذَا السُّؤَالِ ; لَكِنْ أَقُولُ هُوَ عُمُومٌ مُرَادٌ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى بَيْعًا فِي الشَّرْعِ . فَإِنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ إلَى كُلِّ بَيْعٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : - الْبَيْعُ لَيْسَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ ; فَإِنَّ مُسَمَّاهُ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ هُوَ الْمُسَمَّى اللُّغَوِيُّ ; لَكِنَّ الشَّارِعَ اشْتَرَطَ لِحِلِّهِ وَصِحَّتِهِ شُرُوطًا . كَمَا قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَهُمْ شُرُوطٌ أَيْضًا بِحَسَبِ اصْطِلَاحِهِمْ . وَهَكَذَا سَائِرُ أَسْمَاءِ الْعُقُودِ مِثْلِ الْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ وَالنِّكَاحِ . إذَا أُرِيدَ بِهِ الْعَقْدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ - : هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا . وَالنَّقْلُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا أَحْدَثَ الشَّارِعُ مَعَانِيَ لَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَعْرِفُهَا . مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالتَّيَمُّمِ . فَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إلَى النَّقْلِ . وَمَعَانِي هَذِهِ الْعُقُودِ مَا زَالَتْ مَعْرُوفَةً . قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ : - أَصْحَابِي قَدْ قَالُوا : إنَّهَا مَنْقُولَةٌ . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : - لَوْ كَانَ لَفْظُ الْبَيْعِ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهِ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الشَّرْعِيُّ لَكَانَ التَّقْدِيرُ : أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ الشَّرْعِيَّ . أَوْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ حَلَالٌ . وَهَذَا - مَعَ أَنَّهُ مُكَرَّرٌ - فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ . فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ دُخُولَ بَيْعٍ مِنْ الْبُيُوعِ فِي الْآيَةِ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ . وَمَتَى عَلِمْنَا ذَلِكَ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ . قَالَ ابْنُ الْمُرَحَّلِ : - مَتَى ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْفَرْدَ يُسَمَّى بَيْعًا فِي اللُّغَةِ قُلْت : هُوَ بَيْعٌ فِي الشَّرْعِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّقْلِ وَإِذَا كَانَ بَيْعًا فِي الشَّرْعِ دَخَلَ فِي الْآيَةِ . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ لَمْ يُثْبِتْ أَنَّ الِاسْمَ مَنْقُولٌ أَمَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَنْقُولٌ . لَمْ يَصِحَّ إدْخَالُ فَرْدٍ فِيهِ . حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّ الِاسْمَ الْمَنْقُولَ وَاقِعٌ عَلَيْهِ . وَإِلَّا فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا سُمِّيَ فِي اللُّغَةِ صَلَاةً وَزَكَاةً وَتَيَمُّمًا وَصَوْمًا وَبَيْعًا وَإِجَارَةً وَرَهْنًا : أَنَّهُ يَجُوزُ إدْخَالُهُ فِي الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ : فَلَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ وَغَيْرِهَا . وَإِنَّمَا يُقَالُ : الْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ . بَلْ مَتَى ثَبَتَ النَّقْلُ فَالْأَصْلُ عَدَمُ دُخُولِ هَذَا الْفَرْدِ فِي الِاسْمِ الْمَنْقُولِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ بَعْدَ النَّقْلِ .