تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنْ قَوْمٍ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشَايِخِ : يتوبونهم عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَالسَّرِقَةِ ; وَأَلْزَمُوهُمْ بِالصَّلَاةِ ; لَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ عَادَةِ الْبَادِيَةِ فَهَلْ يَجِبُ إقَامَةُ حُدُودِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا ؟ وَمَعَ هَذَا شِعَارُهُمْ الرَّفْضُ وَكَشْفُ الرُّءُوسِ وَتَفْتِيلُ الشَّعَرِ وَحَمْلُ الْحَيَّاتِ . ثُمَّ غَلَبَ عَلَى قُلُوبِهِمْ حُبُّ الشُّيُوخِ . حَتَّى كُلَّمَا عَثَرَ أَحَدُهُمْ أَوْ هَمَّهُ أَمْرٌ اسْتَغَاثَ بِشَيْخِهِ وَيَسْجُدُونَ لَهُمْ مَرَّةً فِي غَيْبَتِهِمْ وَمَرَّةً فِي حُضُورِهِمْ فَتَارَةً يُصَادِفُ السُّجُودَ إلَى الْقِبْلَةِ وَتَارَةً إلَى غَيْرِهَا - حَيْثُ كَانَ شَيْخُهُ - وَيَزْعُمُونَ هَذَا لِلَّهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ أَوْلَادَ النَّاسِ حِوَارَاتٍ بِرِضَى الْوَالِدَيْنِ وَبِغَيْرِ رِضَاهُمْ وَرُبَّمَا كَانَ وَلَدُ الرَّجُلِ مُعِينًا لِوَالِدَيْهِ عَلَى السَّعْيِ فِي الْحَلَالِ فَيَأْخُذُهُ وَيُعَلِّمُهُ الدروزة وَيُنْذِرُ لِلْمَوْتَى . وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَاخِي النسوان فَإِذَا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ قَالَ : لَوْ حَصَلَ لِي أُمِّك وَأُخْتِك وَأُخْتَيْهِمَا فَإِذَا قِيلَ : لَا تَنْظُرُ أَجْنَبِيَّةً . قَالَ : أَنْظُرُ عِشْرِينَ نَظْرَةً وَيَحْلِفُونَ بِالْمَشَايِخِ . وَإِذَا نُهُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : أَنْتَ شَرْعِيٌّ . فَهَلْ الْمُنْكَرُ عَلَيْهِمْ مَأْجُورٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ اتِّخَاذُ الْخِرْقَةِ عَلَى الْمَشَايِخِ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ انْتِسَابُ كُلِّ طَائِفَةٍ إلَى شَيْخٍ مُعَيَّنٍ يُثَابُ عَلَيْهِ . أَمْ لَا ؟ وَهَلْ التَّارِكُ لَهُ آثِمٌ أَمْ لَا ؟ وَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لِرِضَا الْمَشَايِخِ وَيَغْضَبُ بِغَضَبِهِمْ وَيَسْتَنِدُونَ إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ } وَ { أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ } فَهَلْ ذَلِكَ دَلِيلٌ لَهُمْ أَمْ هُوَ شَيْءٌ آخَرُ ؟ وَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ هَلْ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ ؟ ؟
123456789101112
فَصْلٌ وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ غُلُوِّهِمْ فِي الشُّيُوخِ : فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشُّيُوخَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ هُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِطَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ كَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ - وَطَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ دَعْوَةُ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَاتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَتَكُونُ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } . وَالرُّسُلُ أَمَرُوا الْخَلْقَ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ وَأَنْ يُخْلِصُوا لَهُ الدِّينَ فَلَا يَخَافُونَ غَيْرَهُ وَلَا يَرْجُونَ سِوَاهُ وَلَا يَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين خُرُوجٌ عَنْ طَاعَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بَهْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ . وَخَيْرُ الشُّيُوخِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ : أَتْبَعُهُمْ لَهُ وَأَقْرَبُهُمْ وَأَعْرَفُهُمْ بِدِينِهِ وَأَطْوَعُهُمْ لِأَمْرِهِ : كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ . وَسَائِرِ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانِ وَأَمَّا الْحَسَبُ فَلِلَّهِ وَحْدَهُ وَلِهَذَا قَالُوا : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَلَمْ يَقُولُوا وَرَسُولُهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ : أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . فَهُوَ وَحْدُهُ يَكْفِيهِمْ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ كَافٍ عَبْدَهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ } الْآيَةَ . { وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَبُّنَا قَرِيبٌ فَنُنَاجِيه ؟ أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيه ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ رَحِيمٌ وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ الْعِبَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ وَيَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ وَيَرْحَمُهُمْ رَحْمَةً لَا يَرْحَمُهُمْ بِهَا غَيْرُهُ . وَالشُّيُوخُ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ يَدُلُّونَ عَلَيْهِ وَيُرْشِدُونَ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَئِمَّةِ فِي الصَّلَاةِ يُصَلُّونَ وَيُصَلِّي النَّاسُ خَلْفَهُمْ وَبِمَنْزِلَةِ الدَّلِيلِ الَّذِي لِلْحَاجِّ هُوَ يَدُلُّهُمْ عَلَى الْبَيْتِ وَهُوَ وَهُمْ جَمِيعًا يَحُجُّونَ إلَيْهِ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ نَصِيبٌ ; بَلْ مَنْ جَعَلَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ النَّصَارَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَدْ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ } وَهَكَذَا أَمَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ . فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَدْعُوَ شَيْخًا مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا ; بَلْ وَلَا يَدْعُو مَيِّتًا وَلَا غَائِبًا : لَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ : يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَنَا فِي حَسْبِك أَوْ فِي جِوَارِك وَلَا يَقُولُ : بِك أَسْتَغِيثُ وَبِك أَسْتَجِيرُ وَلَا يَقُولُ : إذَا عَثَرَ : يَا فُلَانُ وَلَا يَقُولُ : مُحَمَّدُ وَعَلِيُّ وَلَا السِّتُّ نَفِيسَةُ وَلَا سَيِّدِي الشَّيْخُ أَحْمَد وَلَا الشَّيْخُ عَدِيُّ وَلَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَلَا نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ دُعَاءُ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ وَمَسْأَلَتُهُ وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِ وَالِاسْتِنْصَارُ بِهِ بَلْ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُشْرِكِينَ وَعِبَادَاتِ الضَّالِّينَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ سَيِّدَ الْخَلْقِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ النَّاسَ لَمَّا أَجْدَبُوا اسْتَسْقَى عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ . وَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا . وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ } فَكَانُوا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لَهُمْ كَمَا يَتَوَسَّلُ بِهِ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَسْتَشْفِعُونَ بِهِ إلَى رَبِّهِمْ فَيَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ فَيَشْفَعُ لَهُمْ . أَلَا تَرَى اللَّهَ يَقُولُ { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْهَا شَيْءٌ فِي الْمُلْكِ وَلَا لَهُ شَرِيكَ فِيهِ وَلَا لَهُ ظَهِيرَ أَيْ : مُعِينٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا تَعَاوَنَ الْمُلُوكُ وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ عِنْدَهُ لَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ . { وَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَجِيءُ النَّاسُ إلَى آدَمَ ثُمَّ نُوحٍ ثُمَّ إبْرَاهِيمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ عِيسَى فَيَطْلُبُونَ الشَّفَاعَةَ مِنْهُمْ فَلَا يَشْفَعُ لَهُمْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ سَادَةُ الْخَلْقِ حَتَّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَيَأْتِي رَبَّهُ فَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ وَيَسْجُدُ لَهُ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ شَفَعَ لَهُمْ } . فَهَذِهِ حَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ ; فَكَيْفَ غَيْرُهُمْ ؟ فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُونُوا يَدَعُونَهُ وَلَا يَسْتَغِيثُونَ بِهِ وَلَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ شَيْئًا لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا بَعِيدًا مِنْ قَبْرِهِ ; بَلْ وَلَا يُصَلُّونَ عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا قَبْرِ غَيْرِهِ لَكِنْ يُصَلُّونَ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيُطِيعُونَ أَمْرَهُ وَيَتَّبِعُونَ شَرِيعَتَهُ وَيَقُومُونَ بِمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ . فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا : عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } وَقَالَ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } وَقَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا . وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } وَقَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا } { وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت فَقَالَ : أَجَعَلْتِنِي لِلَّهِ نِدًّا ؟ قُلْ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ } وَقَالَ : { لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ } . وَفِي الْمُسْنَدِ { أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ سَجَدَ لَهُ . فَقَالَ : مَا هَذَا يَا مُعَاذُ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ فَقَالَ : يَا مُعَاذُ لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا } وَقَالَ : { يَا مُعَاذُ أَرَأَيْت لَوْ مَرَرْت بِقَبْرِي أَكُنْت سَاجِدًا لِقَبْرِي قَالَ : لَا قَالَ : فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ } أَوْ كَمَا قَالَ . فَإِذَا كَانَ السُّجُودُ لَا يَجُوزُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا وَلَا لِقَبْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ السُّجُودُ لِغَيْرِهِ ؟ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } فَقَدْ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا كَمَا نَهَى عَنْ اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ وَلِهَذَا لَمَّا أَدْخَلُوا حُجْرَتَهُ فِي الْمَسْجِدِ لَمَّا وَسَّعُوهُ جَعَلُوا مُؤَخَّرَهَا مُسَنَّمًا مُنْحَرِفًا عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ لِئَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ إلَى الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ فَمَا الظَّنُّ بِالسُّجُودِ إلَى جِهَةِ غَيْرِهِ . كَائِنًا مَنْ كَانَ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : هَذَا السُّجُودُ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ فَكَفَى بِالْكَذِبِ خِزْيًا وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فَإِنَّ السُّجُودَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ السُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ وَسُجُودُ السَّهْوِ وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ وَسُجُودُ الشُّكْرِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا السُّجُودُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ بِلَا سَبَبٍ فَقَدْ كَرِهَهُ الْعُلَمَاءُ وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ بَلَغَهُمْ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الَّذِي فِي ( الْوَظَائِفِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ } فَفَعَلُوا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَى ذَلِكَ } فَسُمِّيَتْ الرَّكْعَتَانِ سَجْدَتَيْنِ . كَمَا فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ . فَهَذَا هُوَ أَصْلُ ذَلِكَ . وَالْكَلَامُ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا السَّجْدَتَانِ فَلَا أَصْلَ لَهُمَا وَلَا لِلسُّجُودِ الْمُجَرَّدِ بِلَا سَبَبٍ وَقَالُوا هُوَ بِدْعَةٌ فَكَيْفَ بِالسُّجُودِ إلَى جِهَةِ مَخْلُوقٍ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَهَذَا يُشَابِهُ مَنْ يَسْجُدُ لِلشَّرْقِ فِي الْكَنِيسَةِ مَعَ النَّصَارَى وَيَقُولُ : لِلَّهِ أَوْ يَسْجُدُ مَعَ الْيَهُودِ إلَى الصَّخْرَةِ وَيَقُولُ : لِلَّهِ ; بَلْ سُجُودُ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ إلَى غَيْرِ قِبْلَةِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ . بَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَسْجُدُ لِلشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَيَسْجُدُ لِبَعْضِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَيَقُولُونَ : لِلَّهِ .