سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ " السَّمَاعِ "
فَأَجَابَ : " السَّمَاعُ " الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَمَشَايِخُ الطَّرِيقِ : هُوَ سَمَاعُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَسَمَاعُ الْعَالَمِينَ وَسَمَاعُ الْعَارِفِينَ وَسَمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَكَمَا أَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى هَذَا السَّمَاعِ فَقَدْ ذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ كَمَا قَالَ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } وَقَالَ : { إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ يَمْدَحُونَ مَنْ يُقْبِلُ عَلَى هَذَا السَّمَاعِ وَيُحِبُّهُ وَيَرْغَبُ فِيهِ وَيَذُمُّونَ مَنْ يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُبْغِضُهُ ; وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاتِهِمْ وَلَطَسَّهُمْ شَرَعَ سَمَاعَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخَرِ . وَأَعْظَمُ سَمَاعٍ فِي الصَّلَوَاتِ سَمَاعُ الْفَجْرِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ إذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لَهُمْ خَارِجَ الصَّلَوَاتِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ وَفِيهِمْ وَاحِدٌ يَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ فَجَلَسَ مَعَهُمْ } " . وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ { وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي مُوسَى وَهُوَ يَقْرَأُ : فَجَعَلَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ وَقَالَ : لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ داود وَقَالَ : يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك فَقَالَ : لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِي لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا } أَيْ : حَسَّنْته لَك تَحْسِينًا . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ . } { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } " وَقَالَ : " { لَلَّهُ أَشَدُّ أُذُنًا لِلرَّجُلِ حَسَنِ الصَّوْتِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ } " وَقَوْلِهِ : " مَا أَذِنَ اللَّهُ إذْنًا " أَيْ سَمِعَ سَمْعًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } أَيْ سَمِعَتْ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ . وَهَذَا سَمَاعٌ لَهُ آثَارٌ إيمَانِيَّةٌ مِنْ الْمَعَارِفِ الْقُدْسِيَّةِ . وَالْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ يَطُولُ شَرْحُهَا وَوَصْفُهَا . وَلَهُ فِي الْجَسَدِ آثَارٌ مَحْمُودَةٌ . مِنْ خُشُوعِ الْقَلْبِ وَدُمُوعِ الْعَيْنِ وَاقْشِعْرَارِ الْجِلْدِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ فِي الْقُرْآنِ . وَكَانَتْ مَوْجُودَةً فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَوُجِدَ بَعْدَهُمْ فِي التَّابِعِينَ آثَارٌ ثَلَاثَةٌ : الِاضْطِرَابُ وَالِاخْتِلَاجُ وَالْإِغْمَاءُ - أَوْ الْمَوْتُ وَالْهُيَامُ ; فَأَنْكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ ذَلِكَ - إمَّا لِبِدْعَتِهِمْ وَإِمَّا لِحُبِّهِمْ . وَأَمَّا جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ فَلَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ ; فَإِنَّ السَّبَبَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا كَانَ صَاحِبُهُ فِيمَا تَوَلَّدَ عَنْهُ مَعْذُورًا . لَكِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ قُوَّةُ الْوَارِدِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَضَعْفُ قُلُوبِهِمْ عَنْ حَمْلِهِ فَلَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ السَّمَاعُ لِقَسْوَتِهِمْ كَانُوا مَذْمُومِينَ كَمَا ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } وَقَالَ : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } وَلَوْ أَثَّرَ فِيهِمْ آثَارًا مَحْمُودَةً لَمْ يَجْذِبْهُمْ عَنْ حَدِّ الْعَقْلِ . لَكَانُوا كَمَنْ أَخْرَجَهُمْ إلَى حَدِّ الْغَلَبَةِ كَانُوا مَحْمُودِينَ أَيْضًا وَمَعْذُورِينَ .