تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ هَلْ نَفْسُ الْمُصْحَفِ هُوَ نَفْسُ الْقُرْآنِ أَمْ كِتَابَتُهُ ؟ وَمَا فِي صُدُورِ الْقُرَّاءِ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْقُرْآنِ أَوْ حِفْظُهُ ؟ .
123
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَأَمَّا " الْحُرُوفُ " هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ؟ فَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْخَلَفِ مَشْهُورٌ فَأَمَّا السَّلَفُ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ وَأَلْفَاظَهُ وَتِلَاوَتَهُ مَخْلُوقَةٌ وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّ أَلْفَاظَنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ . وَقَالُوا : هُوَ جهمي . وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَّرَهُ وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ وَلَفْظِ بَعْضِهِمْ الْحُرُوفُ . وَمِمَّنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو الْوَلِيدِ الْجَارُودِيَّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ راهويه والحميدي وَمُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطوسي وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَأَحْمَد بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ . وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى نُصُوصِ كَلَامِهِمْ فَلْيُطَالِعْ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي السُّنَّةِ ; مِثْلَ " الرَّدِّ عَلَى الجهمية " لِلْإِمَامِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَكِتَابِ " الشَّرِيعَةِ " للآجري وَ " الْإِبَانَةِ " لِابْنِ بَطَّةَ وَ " السُّنَّةِ " للالكائي وَ " السُّنَّةِ " للطبراني وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ الْكَثِيرَةِ وَلَمْ يُنْسَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ إلَّا بَعْضُ أَهْلِ الْغَرَضِ نَسَبَ الْبُخَارِيَّ إلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَرَضِيِّ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَالَ عَنِّي أَنِّي قُلْت لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَذَبَ . وَتَرَاجِمُهُ فِي آخِرِ صَحِيحِهِ تُبَيِّنُ ذَلِكَ . وَهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : " أَحَدُهَا " حُرُوفُ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ لَفْظُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهَا جِبْرِيلُ وَبَعْدَ مَا نَزَلَ بِهَا فَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ مَخْلُوقَةٌ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا إلَّا الَّذِينَ قَالُوا . إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَإِنَّ أُولَئِكَ قَالُوا بِالْخَلْقِ لِلْأَلْفَاظِ ; أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِثُبُوتِهِ لَا مَخْلُوقًا وَلَا غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَقَدْ اعْتَرَفَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ فُحُولِ أَهْلِ الْكَلَامِ بِهَذَا : مِنْهُمْ عَبْدُ الْكَرِيمِ الشهرستاني مَعَ خِبْرَتِهِ بِالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ السَّلَفَ مُطْلَقًا ذَهَبُوا إلَى أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَقَالَ : ظُهُورُ الْقَوْلِ بِحُدُوثِ الْقُرْآنِ مُحْدَثٌ وَقَرَّرَ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِ " نِهَايَةِ الْكَلَامِ " . الثَّانِي أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَهِيَ حَرَكَاتُهُمْ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَيْهَا التِّلَاوَةُ . فَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوفَةٌ ; وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّهُ بَدَّعَ أَكْثَرَهُمْ مَنْ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُهُ . الثَّالِثُ التِّلَاوَةُ الظَّاهِرَةُ مِنْ الْعَبْدِ عَقِيبَ حَرَكَةِ الْآيَةِ فَهَذِهِ مِنْهُمْ مَنْ يَصِفُهَا بِالْخَلْقِ وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ - فِيمَا بَلَغَنَا - حُسَيْنٌ الكرابيسي وَتِلْمِيذُهُ داود الأصبهاني وَطَائِفَةٌ ; فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَالُوا فِيهِمْ كَلَامًا غَلِيظًا وَجُمْهُورُهُمْ - وَهُمْ اللَّفْظِيَّةُ عِنْدَ السَّلَفِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ الْقُرْآنُ بِأَلْفَاظِنَا مَخْلُوقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَعَارَضَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرُونَ فَقَالُوا : لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَطَبَقَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَنَّ مَنْ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُطْلَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَمَا عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَجُمْهُورُ السَّلَفِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِطْلَاقَيْنِ يَقْتَضِي إيهَامًا لِخَطَأِ ; فَإِنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ مُحْدَثَةٌ بِلَا شَكٍّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَنْ نَصَرَ السُّنَّةَ يَنْفِي الْخَلْقَ عَنْ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يَكُونُ مِنْ الْقُرْآنِ الْمُبَلَّغِ . فَإِنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَعَابُوهُ جَرْيًا عَلَى مِنْهَاجِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } . وَأَمَّا التِّلَاوَةُ فِي نَفْسِهَا الَّتِي هِيَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَأَلْفَاظُهُ فَهِيَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَالْعَبْدُ إنَّمَا يَقْرَأُ كَلَامَ اللَّهِ بِصَوْتِهِ كَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } فَهَذَا الْكَلَامُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ إنَّمَا هُوَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَدْ بَلَّغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ كَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى ; لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ فِيهِ إلَّا تَبْلِيغُهُ وَتَأْدِيَتُهُ وَصَوْتُهُ وَمَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ الْفَرْقُ بَيْنَ التِّلَاوَةِ فِي نَفْسِهَا ; قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا الْخَلْقُ وَبَعْدَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهَا وَبَيْنَ مَا لِلْعَبْدِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مِنْ عَمَلٍ وَكَسْبٍ وَإِنَّمَا غَلِطَ بَعْضُ الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ فَجَعَلُوا الْبَابَيْنِ بَابًا وَاحِدًا وَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى نَفْسِ حُدُوثِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ بِمَا دَلَّ عَلَى حُدُوثِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَمَا تَوَلَّدَ عَنْهَا وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْغَلَطِ وَلَيْسَ فِي الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَا السَّمْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ نَفْسِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى حُدُوثِ مَعَانِيهِ . وَالْجَوَابُ عَنْ الْحُجَجِ مِثْلُ الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ لِمَنْ اسْتَهْدَى اللَّهَ فَهَدَاهُ . وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا : فَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِر الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ الْإِقْرَارُ وَالْإِمْرَارُ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الخطابي وَأَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ : مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ إجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا . وَقَالَا فِي ذَلِكَ : إنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوَهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالَهُ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ ذَاتِهِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ : فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ صِفَاتِهِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ فَلَا نَقُولُ : إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ وَلَا إنَّ مَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ هَذَا كَلَامُهُمَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا قَالَ لَك الجهمي : كَيْفَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ؟ فَقُلْ لَهُ : كَيْفَ هُوَ فِي نَفْسِهِ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ . فَقُلْ : وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفَاتِهِ وَكَيْفَ نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفَةٍ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ مَوْصُوفِهَا . وَمَنْ فَهِمَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُدُوثِ مُجَانِسٌ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ فَقَدْ شَبَّهَ وَعَطَّلَ ; بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُوصَفَ اللَّهُ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ لَا نَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ . وَأَنْ نَعْلَمَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي أَوْصَافِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَأَنَّ الْخَلْقَ لَا تُطِيقُ عُقُولُهُمْ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ وَلَا تَقْدِرُ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى بُلُوغِ صِفَتِهِ { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } { وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } { وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .