وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَفَقِّرَةِ يَدَّعُونَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ بَاطِنًا وَأَنَّ لِذَلِكَ الْبَاطِنِ بَاطِنًا إلَى سَبْعَةِ أَبْطُنٍ وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لِلْقُرْآنِ بَاطِنٌ وَلِلْبَاطِنِ بَاطِنٌ إلَى سَبْعَةِ أَبْطُنٍ } وَيُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ : لَوْ شِئْت لأوقرت مِنْ تَفْسِيرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ كَذَا وَكَذَا حِمْلَ جَمَلٍ وَيَقُولُونَ : إنَّمَا هُوَ مِنْ عِلْمِنَا إذْ هُوَ اللدني . وَيَقُولُونَ كَلَامًا مَعْنَاهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا يَصْلُحُ لَهُمْ فَإِنَّهُ أَمَرَ قَوْمًا بِالْإِمْسَاكِ وَقَوْمًا بِالْإِنْفَاقِ وَقَوْمًا بِالْكَسْبِ وَقَوْمًا بِتَرْكِ الْكَسْبِ . وَيَقُولُونَ : إنَّ هَذَا ذَكَرَتْهُ أَشْيَاخُنَا فِي " الْعَوَارِفِ " وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْمُحَقِّقِينَ وَرُبَّمَا ذَكَرُوا أَنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ يَعْلَمُ أَسْمَاءَ الْمُنَافِقِينَ خَصَّهُ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { حَفِظْت جِرَابَيْنِ } . وَيَرْوُونَ كَلَامًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ أَنَّهُ قَالَ : لِلْعَارِفِينَ خَزَائِنُ أَوْدَعُوهَا عُلُومًا غَرِيبَةً يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِلِسَانِ الْأَبَدِيَّةِ يُخْبِرُونَ عَنْهَا بِلِسَانِ الْأَزَلِيَّةِ وَيَقُولُونَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَخْزُونِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ فَإِذَا نَطَقُوا بِهِ لَمْ يُنْكِرْهُ إلَّا أَهِلُ الْغِرَّةِ بِاَللَّهِ } . فَهَلْ مَا ادَّعَوْهُ صَحِيحًا أَمْ لَا ؟ . فَسَيِّدِي يُبَيِّنُ لَنَا مَقَالَاتِهِمْ ; فَإِنَّ الْمَمْلُوكَ وَقَفَ عَلَى كَلَامٍ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الْوَاحِدِيَّ قَالَ : أَلَّفَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي كِتَابًا سَمَّاهُ " حَقَائِقُ التَّفْسِيرِ " إنْ صَحَّ عَنْهُ فَقَدْ كَفَرَ وَوَقَفْت عَلَى هَذَا الْكِتَابِ فَوَجَدْت كَلَامَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْهُ أَوْ مَا شَابَهَهُ فَمَا رَأْيُ سَيِّدِي فِي ذَلِكَ ؟ وَهَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِلْقُرْآنِ بَاطِنٌ } الْحَدِيثُ يُفَسِّرُونَهُ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ الْمَرْدُودَةِ شَرْعًا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ وَأَمْثَالِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا يَذْكُرُهُ أَبُو طَالِبٍ فِي كِتَابِهِ وَغَيْرُهُ وَكَلَامُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ يَقُولُ بِبَاطِنِ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَمَا يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ أَوْ غَيْرِهِ . فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يُقَالَ : مَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ فَهُوَ نَقْلُ مُصَدِّقٍ عَنْ قَائِلٍ مَعْصُومٍ وَمَا عَارَضَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَقْلًا عَنْ غَيْرِ مُصَدِّقٍ أَوْ قَوْلًا لِغَيْرِ مَعْصُومٍ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّا يُنْقَلُ عَنْ هَؤُلَاءِ كَذِبٌ عَلَيْهِمْ وَالصِّدْقُ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ مَا أَصَابُوا فِيهِ تَارَةً وَأَخْطَئُوا فِيهِ أُخْرَى وَأَكْثَرُ عِبَارَاتِهِمْ الثَّابِتَةِ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ مُتَشَابِهَةٌ لَوْ كَانَتْ مِنْ أَلْفَاظِ الْمَعْصُومِ لَمْ تُعَارِضْ الْحُكْمَ الْمَعْلُومَ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ مِنْ قَوْلِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ . وَقَدْ جَمَعَ أَبُو الْفَضْلِ الْفَلَكِيُّ كِتَابًا مِنْ كَلَامِ أَبِي يَزِيدَ البسطامي سَمَّاهُ " النُّور مِنْ كَلَامِ طيفور " فِيهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا رَيْبَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى أَبِي يَزِيدَ البسطامي وَفِيهِ أَشْيَاءُ مِنْ غَلَطِ أَبِي يَزِيدَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَفِيهِ أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ مِنْ كَلَامِ أَبِي يَزِيدَ وَكُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَنْ قِيلَ لَهُ عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ : أَنَّهُ قَالَ لِمُرِيدِيهِ إنْ تَرَكْتُمْ أَحَدًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَنَا مِنْكُمْ بَرِيءٌ فَعَارَضَهُ الْآخَرُ وَقَالَ : قُلْت لِمُرِيدِيَّ إنْ تَرَكْتُمْ أَحَدًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَنَا مِنْكُمْ بَرِيءٌ ; فَصَدَّقَ هَذَا النَّقْلَ عَنْهُ ثُمَّ جَعَلَ هَذَا الْمُصَدِّقُ لِهَذَا عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَوْ غَيْرِهِ يَسْتَحْسِنُهُ وَيَسْتَعْظِمُ حَالَهُ فَقَدْ دَلَّ عَلَى عَظِيمِ جَهْلِهِ أَوْ نِفَاقِهِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ دُخُولِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يُشَفَّعُ فِيهِمْ بَعْدَ أَنْ تُطْلَبَ الشَّفَاعَةُ مِنْ الرُّسُلِ الْكِبَارِ : كَنُوحِ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فَيَمْتَنِعُونَ وَيَعْتَذِرُونَ . ثُمَّ صَدَّقَ أَنَّ مُرِيدِي أَبِي يَزِيدَ أَوْ غَيْرِهِ يَمْنَعُونَ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ أَوْ يُخْرِجُونَ هُمْ كُلَّ مَنْ دَخَلَهَا كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ بِحِكَايَةِ مَنْقُولَةٍ كَذَبَ نَاقِلُهَا أَوْ أَخْطَأَ قَائِلُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ كَانَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ . فَعَلَى الْمُسْلِمِ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَعْرِفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَمَرَ بِهِ عِلْمًا يَقِينِيًّا ; وَحِينَئِذٍ فَلَا يَدَعُ الْمُحْكَمَ الْمَعْلُومَ لِلْمُشْتَبِهِ الْمَجْهُولِ فَإِنَّ مِثَالَ ذَلِكَ مِثْلُ مَنْ كَانَ سَائِرًا إلَى مَكَّةَ فِي طَرِيقٍ مَعْرُوفَةٍ لَا شَكَّ أَنَّهَا تُوَصِّلُهُ إلَى مَكَّةَ إذَا سَلَكَهَا فَعَدَلَ عَنْهَا إلَى طَرِيقٍ مَجْهُولَةٍ لَا يَعْرِفُهَا وَلَا يَعْرِفُ مُنْتَهَاهَا وَهَذَا مِثَالُ مَنْ عَدَلَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَى كَلَامِ مَنْ لَا يَدْرِي هَلْ يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ يُخَالِفُ ذَلِكَ . وَأَمَّا مَنْ عَارَضَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ يَسِيرُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمَعْرُوفَةِ إلَى مَكَّةَ فَذَهَبَ إلَى طَرِيقِ قُبْرُصَ يَطْلُبُ الْوُصُولَ مِنْهَا إلَى مَكَّةَ فَإِنَّ هَذَا حَالُ مَنْ تَرَكَ الْمَعْلُومَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو كَائِنًا مَنْ كَانَ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَأَيْت فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ عَجَائِبِ الْأُمُورِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا الْعَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ : { إنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ فَإِذَا ذَكَرُوهُ لَمْ يُنْكِرْهُ إلَّا أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاَللَّهِ } فَهَذَا قَدْ رَوَاهُ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْفَارُوقُ بَيْنَ الْمُثْبِتَةِ وَالْمُعَطِّلَةِ " وَذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ صَحِيحَهَا وَغَرِيبَهَا وَمُسْنَدَهَا وَمُرْسَلَهَا وَمَوْقُوفَهَا . وَذَكَرَهُ أَيْضًا أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كُتُبِهِ . ثُمَّ هَذَا يُفَسِّرُهُ بِمَا يُنَاسِبُ أَقْوَالَهُ الَّتِي يَمِيلُ فِيهَا إلَى مَا يُشْبِهُ أَقْوَالَ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ شَيْخِهِ يَحْيَى بْنِ عَمَّارٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ الصِّفَاتِ ; فَكَانَ يُفَسِّرُ ذَلِكَ بِمَا يُنَاقِضُ قَوْلَ أَبِي حَامِدٍ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ . وَالْحَدِيثُ لَيْسَ إسْنَادُهُ ثَابِتًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يُرْوَ فِي أُمَّهَاتِ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِهِ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فَهُوَ كَلَامٌ مُجْمَلٌ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينٌ لِقَوْلِ مُعَيَّنٍ فَحِينَئِذٍ فَمَا مِنْ مُدَّعٍ يَدَّعِي أَنَّ الْمُرَادَ قَوْلُهُ إلَّا كَانَ لِخَصْمِهِ أَنْ يَقُولَ نَظِيرَ ذَلِكَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ يَحْيَى بْنِ عَمَّارٍ وَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ النفاة إنَّ هَذَا الْعِلْمَ هُوَ مِنْ عِلْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاتِّفَاقِ وَعِلْمِ الصَّحَابَةِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَوْلَ النفاة لَا يَنْقُلُهُ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابِهِ لَا بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ بِخِلَافِ مَذْهَبِ الْمُثْبِتَةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْآثَارَ عَنْ الصَّحَابَةِ مَمْلُوءَةٌ بِهِ فَكَيْفَ يُحْمَلُ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عِلْمٍ لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُ أَحَدٌ وَيُتْرَكُ حَمْلُهُ عَلَى الْعِلْمِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } قَدْ حَمَلَهُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ الْفَيْلَسُوفُ وَأَمْثَالُهُ عَلَى عُلُومِ الْبَاطِنِيَّةِ الْفَلَاسِفَةِ نفاة الصِّفَاتِ وَهَذَا تَحْرِيفٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ : أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالُ النفاة مِنْ الْفَلَاسِفَةِ والجهمية وَالْقَرَامِطَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لَمْ يَنْقُلْ فِيهَا مُسْلِمٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا فَكَيْفَ يُكَذَّبُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي شَيْءٍ لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؟ بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ مِنْ أَحَادِيثِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَمَلَائِكَتِهِ وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ فَإِنَّ هَذَا كَثِيرٌ مَشْهُورٌ قَدْ لَا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُ بَعْضِ النَّاسِ فَإِذَا حَدَّثَ بِهِ خِيفَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : " مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ " وَابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا يَقُولُ ذَاكِرًا أَوْ آمِرًا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ إثْبَاتًا لِلصِّفَاتِ وَأَرْوَاهُمْ لِأَحَادِيثِهَا وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَجَلِّ التَّابِعِينَ وَأَبْلَغِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ أَعْلَمَ كَانَ إثْبَاتُهُ وَإِثْبَاتُ أَصْحَابِهِ أَبْلَغَ فَعُلِمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يُبْطِنُونَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ وَلَا يُظْهِرُونَ الْإِثْبَاتَ وَيُبْطِنُونَ النَّفْيَ وَلَا يُظْهِرُونَ الْأَمْرَ وَيُبْطِنُونَ امْتِنَاعَهُ ; بَلْ هُمْ أَقْوَمُ النَّاسِ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ دَخَلَ فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِتَفْصِيلِهِ وَلَكِنْ نَعْلَمُ جِمَاعَ الْأَمْرِ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ فَظَاهِرُ الْقَوْلِ لَفْظُ اللِّسَانِ وَبَاطِنُهُ مَا يَقُومُ مِنْ حَقَائِقِهِ وَمَعَانِيهِ بِالْجَنَانِ وَظَاهِرُ الْعَمَلِ حَرَكَاتُ الْأَبْدَانِ وَبَاطِنُهُ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ حَقَائِقِهِ وَمَقَاصِدِ الْإِنْسَانِ . فَالْمُنَافِقُ لَمَّا أَتَى بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ دُونَ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْخُسْرَانِ ; بَلْ كَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } الْآيَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ تَعَالَى : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } السُّورَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ } الْآيَةَ . وَالْمَلَاحِدَةُ يُظْهِرُونَ مُوَافَقَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيُبْطِنُونَ خِلَافَ ذَلِكَ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ وَلَا يَدَّعِي أَنَّ الْبَاطِنَ الَّذِي يُبْطِنُهُ مِنْ الْكُفْرِ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَالْمَلَاحِدَةُ تَدَّعِي أَنَّ مَا تُبْطِنُهُ مِنْ الْكُفْرِ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ هُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ يُبْطِنُونَ مَا يُبْطِنُونَهُ مِمَّا هُوَ كُفْرٌ وَتَعْطِيلٌ فَهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ إبْطَانِ الْكُفْرِ وَبَيْنَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْبَاطِنَ هُوَ الْإِيمَانُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِرْفَانِ فَلَا يُظْهِرُونَ لِلْمُسْتَجِيبِ لَهُمْ أَنَّ بَاطِنَهُ طَعْنٌ فِي الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَتَكْذِيبٌ لَهُ ; بَلْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ الرَّسُولِ وَتَمَامِ حَالِهِ وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْكَمَالِ وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا أَكْمَلُ الرِّجَالِ مِنْ سِيَاسَةِ النَّاسِ عَلَى السِّيرَةِ الْعَادِلَةِ وَعِمَارَةِ الْعَالَمِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْفَاضِلَةِ وَهَذَا قَدْ يَظُنُّهُ طَوَائِفُ حَقًّا بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَيَئُولُ أَمْرُهُمْ إلَى أَنْ يَكُونَ النِّفَاقُ عِنْدَهُمْ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَقَدْ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النِّفَاقَ ضِدُّ الْإِيمَانِ . وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمُ الْأَبْوَابِ الَّتِي يَدْخُلُونَ مِنْهَا بَابَ التَّشَيُّعِ وَالرَّفْضِ ; لِأَنَّ الرَّافِضَةَ هُمْ أَجْهَلُ الطَّوَائِفِ وَأَكْذَبُهَا وَأَبْعَدُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ التَّقِيَّةَ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ وَيَكْذِبُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ كَذِبًا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ حَتَّى يَرْوُوا عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ قَالَ التَّقِيَّةُ دِينِي وَدِينُ آبَائِي . و " التَّقِيَّةُ " هِيَ شِعَارُ النِّفَاقِ ; فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَهَذَا حَقِيقَةُ النِّفَاقِ . ثُمَّ إذَا كَانَ هَذَا مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ صَارَ كُلُّ مَا يَنْقُلُهُ النَّاقِلُونَ عَنْ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِمَّا فِيهِ مُوَافَقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَقُولُونَ : هَذَا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ ثُمَّ فَتَحُوا بَابَ النِّفَاقِ لِلْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ الإسماعيلية والنصيرية وَنَحْوِهِمْ ; فَجَعَلُوا مَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَظْهَرَ بِهِ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ وَأَسَرَّ بِهِ خِلَافَ مَا أَعْلَنَ فَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ إمَامُ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الْمُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نَزَلَ إلَيْهِمْ الْمُبَلِّغُ لِرِسَالَةِ رَبِّهِ الْمُخَاطِبُ لَهُمْ بِلِسَانِ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَتْ الرُّسُلُ { رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } { وَمَا عَلَيْنَا إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } . فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَلِّغُوا الْبَلَاغَ الْمُبِينَ يُقَالُ : بَانَ الشَّيْءُ وَأَبَانَ وَاسْتَبَانَ وَتَبَيَّنَ وَبَيَّنَ كُلُّهَا أَفْعَالٌ لَازِمَةٌ . وَقَدْ يُقَالُ : أَبَانَ غَيْرُهُ وَبَيَّنَهُ وَتَبَيَّنَهُ وَاسْتَبَانَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرُّسُلَ فَعَلُوا مَا عَلَيْهِمْ ; بَلْ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الْمِيثَاقَ بِأَنْ يُبَيِّنُوا الْعِلْمَ وَلَا يَكْتُمُوهُ وَذَمَّ كَاتِمِيهِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } فَقَدْ لَعَنَ كَاتِمَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ قَدْ كَتَمَ الْحَقَّ وَأَخْفَاهُ وَأَظْهَرَ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ ؟ فَلَوْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ الْحَقِّ كَانَ كَاتِمًا وَمَنْ نَسَبَ الْأَنْبِيَاءَ إلَى الْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ مَعَ كَوْنِهِ يَقُولُ إنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ فَهُوَ مِنْ أَشَرِّ الْمُنَافِقِينَ وَأَخْبَثِهِمْ وَأَبْيَنِهِمْ تَنَاقُضًا . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النُّسُكِ وَالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ وَالنَّظَرِ مِمَّنْ سَلَكَ طَرِيقَ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ يَسْلُكُ مَسْلَكَ الْبَاطِنِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ لَا فِي جَمِيعِهَا حَتَّى يَرَى بَعْضُهُمْ سُقُوطَ الصَّلَاةِ عَنْ بَعْضِ الْخَوَاصِّ أَوْ حِلَّ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ لَهُمْ أَوْ أَنَّ لِبَعْضِهِمْ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ .