مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
( وَمَسْأَلَةُ تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَتَرْكِيبُهَا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ قَدْ اضْطَرَبَ فِيهَا جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْكَلَامِ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُ بِهَذَا تَارَةً وَبِهَذَا تَارَةً . وَأَكْثَرُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَالْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْأَجْسَامَ لَيْسَتْ مُتَمَاثِلَةً وَلَا مُرَكَّبَةً لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْتَدِعَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ قَوْلَهُ : إنَّ اللَّهَ جِسْمٌ وَيُنَاظِرُ عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بَلْ يَكْفِيهِ إثْبَاتُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْعِبَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ وَأَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْتَدِعَ النَّفْيَ بِهَذَا الِاسْمِ وَيُنَاظِرَ عَلَى مَعْنَاهُ الَّذِي اعْتَقَدَهُ بِعَقْلِهِ ; بَلْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومُ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ يُمْكِنُ إظْهَارُهُ بِعِبَارَةٍ لَا إجْمَالَ فِيهَا وَلَا تَلْبِيسَ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ يَدَّعِي كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ هَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ أَكْثَرُ أَجْزَاءً مِنْهُ . وَيَقُولُونَ : هَذَا جَسِيمٌ أَيْ كَثِيرُ الْأَجْزَاءِ . قَالَ : وَالتَّفْضِيلُ بِصِيغَةِ أَفْعَلَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ فَإِذَا قِيلَ : هَذَا أَعْلَمُ وَأَحْلَمُ كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى الْفَضِيلَةِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ فَلَمَّا قَالُوا : أَجْسَمَ لِمَا كَانَ أَكْثَرَ أَجْزَاءً دَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْجِسْمِ عِنْدَهُمْ الْمُرَادُ بِهِ الْمُرَكَّبُ فَمَنْ قَالَ جِسْمٌ وَلَيْسَ بِمُرَكَّبِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ لُغَةِ الْعَرَبِ . قَالُوا : وَهَذِهِ تخليطة فِي اللَّفْظِ وَإِنْ كُنَّا لَا نُكَفِّرُهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ خَصَائِصُ الْجِسْمِ مِنْ التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ وَقَدْ نَازَعَهُمْ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا وَقَالُوا : لَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي زَيْدٍ فَيُقَالُ لَهُ : لَا رَيْبَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ هَذَا جَسِيمٌ أَيْ عَظِيمُ الْجُثَّةِ . وَهَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا أَيْ أَعْظَمُ جُثَّةً لَكِنَّ كَوْنَ الْعَرَبِ تَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي هِيَ الْجَوَاهِرُ الْفَرْدَةُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ قَاطِبَةً يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ وَالْجَوْهَرُ الْفَرْدُ هُوَ شَيْءٌ قَدْ بَلَغَ مِنْ الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ يَمِينُهُ مِنْ يَسَارِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ لَا يَتَصَوَّرُ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَاَلَّذِينَ يَتَصَوَّرُونَهُ أَكْثَرُهُمْ لَا يُثْبِتُونَهُ وَاَلَّذِينَ أَثْبَتُوهُ إنَّمَا يُثْبِتُونَهُ بِطُرُقٍ خَفِيَّةٍ طَوِيلَةٍ بَعِيدَةٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الشَّائِعُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي يَنْطِقُ بِهَا خَوَاصُّهَا وَعَوَامُّهَا أَرَادُوا بِهِ هَذَا . وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ لَمْ يَنْطِقُ بِإِثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَلَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ بَلْ وَلَا الْعَرَبُ قَبْلَهُمْ وَلَا سَائِرُ الْأُمَمِ الْبَاقِينَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَلَا أَتْبَاعُ الرُّسُلِ فَكَيْفَ يُدَعَّى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا لَفْظَ جِسْمٍ إلَّا لِمَا كَانَ مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا وَلَوْ قُلْت لِمَنْ شِئْت مِنْ الْعَرَبِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالسَّمَاءُ مُرَكَّبٌ عِنْدَك مِنْ أَجْزَاءٍ صِغَارٍ كُلٌّ مِنْهَا لَا يَقْبَلُ التجزي أَوْ الْجِبَالُ أَوْ الْهَوَاءُ أَوْ الْحَيَوَانُ أَوْ النَّبَاتُ لَمْ يَتَصَوَّرْ هَذَا الْمَعْنَى إلَّا بَعْدَ كُلْفَةٍ ثُمَّ إذَا تَصَوَّرَهُ قَدْ يُكَذِّبُهُ بِفِطْرَتِهِ وَيَقُولُ : كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ جَانِبٌ عَنْ جَانِبٍ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ يُنْكِرُونَ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ فَالْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً تُنْكِرُهُ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ . وَلِهَذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقِينَ عَلَى اسْتِحَالَةِ بَعْضِ الْأَجْسَامِ إلَى بَعْضٍ كَاسْتِحَالَةِ الْعَذِرَةِ رَمَادًا وَالْخِنْزِيرِ مِلْحًا . ثُمَّ تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ الِاسْتِحَالَةِ هَلْ تَطْهُرُ أَمْ لَا تَطْهُرُ ؟ وَالْقَائِلُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ لَا تَسْتَحِيلُ الذَّوَاتُ عِنْدَهُمْ بَلْ تِلْكَ الْجَوَاهِرُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْأَوَّلِ هِيَ بِعَيْنِهَا فِي الثَّانِي وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ التَّرْكِيب وَلِهَذَا يَتَكَلَّمُ بِلَفْظِ التَّرْكِيبِ فِي الْمَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ هَذَا التَّرْكِيبَ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَيَقُولُ : إنَّ الْمَاءَ يُفَارِقُ غَيْرَهُ فِي التَّرْكِيبِ فَقَطْ . وَكَذَلِكَ الْقَائِلُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ عِنْدَهُمْ إنَّا لَمْ نُشَاهِدْ قَطُّ إحْدَاثَ اللَّهِ تَعَالَى لِشَيْءٍ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا . وَأَنَّ جَمِيعَ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ وَالثِّمَارِ وَالْمَطَرِ وَالسَّحَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ جَمْعُ الْجَوَاهِرِ وَتَفْرِيقُهَا وَتَغْيِيرُ صِفَاتِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ لَا أَنَّهُ يُبْدِعُ شَيْئًا مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا وَهَذَا الْقَوْلُ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُنْكِرُهُ وَيَقُولُ : هُوَ مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُسْتَلْزِمًا لِهَذَا الْمَعْنَى . ثُمَّ الْجِسْمُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْغِلَظُ نَفْسُهُ وَهُوَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الشَّيْءُ الْغَلِيظُ وَهُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ . فَنَقُولُ : هَذَا الثَّوْبُ لَهُ جِسْمٌ : أَيْ غِلَظٌ وَقَوْلُهُ : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ قَرَنَ الْجِسْمَ بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ . فَنَقُولُ الْمَعْنَى زَادَهُ بَسْطَةً فِي قَدْرِهِ فَجَعَلَ قَدْرَ بَدَنِهِ أَكْبَرَ مِنْ بَدَنِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ الْجِسْمُ هُوَ الْقَدْرُ نَفْسُهُ لَا نَفْسَ الْمُقَدَّرِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } أَيْ صُوَرُهُمْ الْقَائِمَةُ بِأَبْدَانِهِمْ كَمَا تَقُولُ : أَعْجَبَنِي حُسْنُهُ وَجَمَالُهُ وَلَوْنُهُ وَبَهَاؤُهُ فَقَدْ يُرَادُ صِفَةُ الْأَبْدَانِ وَقَدْ يُرَادُ نَفْسُ الْأَبْدَانِ وَهُمْ إذَا قَالُوا : هَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا أَرَادُوا أَنَّهُ أَغْلَظُ وَأَعْظَمُ مِنْهُ أَمَّا كَوْنُهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْعِظَمَ وَالْغِلَظَ كَانَ لِزِيَادَةِ الْأَجْزَاءِ فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ إلَّا مَنْ أَخَذَ ذَلِكَ عَمَّنْ اعْتَقَدَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ الَّذِي أُحْدِثَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِ التَّابِعِينَ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ إلَّا فِي أَوَاخِرَ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ لَمَّا ظَهَرَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَالْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ ثُمَّ ظَهَرَ فِي الْمُعْتَزِلَةِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ قَالَ : الْجِسْمُ هُوَ الْمُؤَلَّفُ الْمُرَكَّبُ وَاعْتَقَدَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ فَقَدْ ادَّعَى مَعْنًى عَقْلِيًّا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ وَافَقَهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ جَعَلَ لَفْظَ الْجِسْمِ فِي اصْطِلَاحِهِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي اللُّغَةِ فَقَدْ غَيَّرَ مَعْنَى اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ وَادَّعَى مَعْنًى عَقْلِيًّا فِيهِ نِزَاعٌ طَوِيلٌ وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ الشَّرْعِ مَا يُوَافِقُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ مَعْنَى اللَّفْظِ وَلَا مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْمَعْنَى الْعَقْلِيِّ فَاللُّغَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا قَالَ وَالشَّرْعُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَ وَالْعَقْلُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مُسَمَّيَاتِ الْأَلْفَاظِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ وَذَلِكَ فِيهِ نِزَاعٌ طَوِيلٌ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ لَا يَحْتَاجُ نَفْيُهُ إلَى مَا أَحْدَثَهُ هَذَا مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَلَا مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْمَعْنَى الْعَقْلِيِّ بَلْ الَّذِينَ جَعَلُوا هَذَا عُمْدَتَهُمْ فِي تَنْزِيهِ الرَّبِّ عَلَى نَفْيِ مُسَمَّى الْجِسْمِ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُنَزِّهُوهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ النَّقَائِصِ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا : هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ فَكُلُّ مَا أَثْبَتُوهُ هُوَ أَيْضًا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ مِثْلُ كَوْنِهِ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا بَلْ كَوْنِهِ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ هَذَا فِي الشَّاهِدِ إلَّا جِسْمًا فَإِذَا قَالَ الْمُنَازِعُ : أَنَا أَقُولُ فِيمَا نَفَيْتُمُوهُ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ فِيمَا أَثْبَتُّمُوهُ انْقَطَعُوا . ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّبِّ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ عِنْدَهُمْ هَلْ عُلِمَ بِالْإِجْمَاعِ فَقَطْ أَوْ عُلِمَ بِالْعَقْلِ أَيْضًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . فَمَنْ قَالَ إنَّ ذَلِكَ لَمْ يُعْلَمْ بِالْعَقْلِ كَأَبِي الْمَعَالِي والرازي وَغَيْرِهِمَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ يُنَزِّهُونَ بِهِ الرَّبَّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّقَائِصِ هَذَا إذَا لَمْ يَنْفِ إلَّا مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ مِثْلُ نَفْيِهِ لِلنَّقَائِصِ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا وَيَنْفِي عَنْهُ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لَهُ وَهَذَانِ النَّوْعَانِ يَجْمَعَانِ التَّنْزِيهَ الْوَاجِبَ لِلَّهِ و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } دَلَّتْ عَلَى النَّوْعَيْنِ . فَقَوْلُهُ : أَحَدٌ مَعَ قَوْلِهِ : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } يَنْفِي الْمُمَاثَلَةَ وَالْمُشَارَكَةَ وَقَوْلُهُ الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَالنَّقَائِصُ جِنْسُهَا مَنْفِيٌّ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا اخْتَصَّ بِهِ الْمَخْلُوقُ فَهُوَ مِنْ النَّقَائِصِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا بِخِلَافِ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ . وَيُوصَفُ الْعَبْدُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ : مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ نَقَائِصَ بَلْ مَا ثَبَتَ لِلَّهِ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلَّهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَارِبُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ فِيهِ بَلْ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ لَا يُمَاثِلُ مَا خَلَقَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ اتَّفَقَا فِي الِاسْمِ وَكِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ . قَالَ : ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَبَنًا وَخَمْرًا وَعَسَلًا وَمَاءً وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَتِلْكَ الْحَقَائِقُ لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ وَكِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ . فَالْخَالِقُ تَعَالَى أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَخْلُوقِ إلَى الْمَخْلُوقِ . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ عَلِيمًا حَلِيمًا رَءُوفًا رَحِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا عَزِيزًا مَلِكًا جَبَّارًا مُتَكَبِّرًا . مُؤْمِنًا عَظِيمًا كَرِيمًا غَنِيًّا شَكُورًا . كَبِيرًا حَفِيظًا شَهِيدًا حَقًّا وَكِيلًا وَلَّيَا وَسَمَّى أَيْضًا بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَسَمَّى الْإِنْسَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا وَسَمَّى نَبِيَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ مَلِكًا وَبَعْضَهُمْ شَكُورًا وَبَعْضَهُمْ عَظِيمًا وَبَعْضَهُمْ حَلِيمًا وَعَلِيمًا وَسَائِرُ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ مُمَاثِلًا لِلْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ .