مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ فِي لَفْظِ التَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : هُوَ مُتَحَيِّزٌ وَهُوَ فِي جِهَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَيْسَ فِي جِهَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ فِي جِهَةٍ وَلَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَفْظُ الْمُتَحَيِّزِ يَتَنَاوَلُ الْجِسْمَ وَالْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَلَفْظُ الْجَوْهَرِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُتَحَيِّزُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ . وَمِنْ الْفَلَاسِفَةِ مَنْ يَدَّعِي إثْبَاتَ جَوَاهِرَ قَائِمَةٍ بِأَنْفُسِهَا غَيْرِ مُتَحَيِّزَةٍ . وَمُتَأَخِّرُو أَهْلِ الْكَلَامِ كَالشِّهْرِسْتَانِي والرازي والآمدي وَنَحْوِهِمْ يَقُولُونَ : لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُ ذَلِكَ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَ هَؤُلَاءِ - وَهُوَ إنَّمَا يُثْبِتُ حُدُوثَ الْعَالَمِ بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ - يَقُولُ بِتَقْدِيرِ وُجُودِ جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةٍ فَلَيْسَ فِي هَذَا الدَّلِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا وَلِهَذَا صَارَ طَائِفَةٌ مِمَّنْ خَلَطَ الْكَلَامَ بِالْفَلْسَفَةِ إلَى قَدَمِ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ وَحُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِحُدُوثِهَا هُوَ حُدُوثُ تَصَوُّرٍ مِنْ تَصَوُّرَاتِ النَّفْسِ وَبَعْضِ أَعْيَانِ الْمُصَنِّفِينَ كَانَ يَقُولُ بِهَذَا . وَكَذَلِكَ الأرموي صَاحِبُ " اللُّبَابِ " الَّذِي أَجَابَ عَنْ شُبْهَةِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى دَوَامِ الْفَاعِلِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحُدُوثِ مِنْ سَبَبٍ فَأَجَابَ بِالْجَوَابِ الْبَاهِرِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الرازي فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " فَإِنَّهُ أَجَابَ بِهِ وَهُوَ فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " يَخْلِطُ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ بِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهُوَ فِي مَسْأَلَةِ الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ حَائِرٌ وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَجْوِبَةِ . فَإِنَّهُ يُقَالُ . مَا الْمُوجِبُ لِحُدُوثِ تِلْكَ التَّصَوُّرَاتِ دَائِمًا ثُمَّ إنَّ النَّفْسَ عِنْدَهُمْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِالْجِسْمِ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُ نَفْسٍ بِدُونِ جِسْمٍ . وَأَيْضًا فَاَلَّذِي عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . وَأَيْضًا فَمَا تُثْبِتُهُ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ إنَّمَا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَأَمَّا أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَقَالُوا انْتِفَاءُ هَذِهِ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ مَا تَدَّعِي الْفَلَاسِفَةُ إثْبَاتَهُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعُقَلُ وَالنَّفْسُ وَالْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ فَلَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ مَعْقُولَةٌ فِي الذِّهْنِ يُجَرِّدُهَا الْعَقْلُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ كَمَا يُجَرِّدُ الْعَقْلَ الْكُلِّيَّاتِ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ الْأَصْنَافِ : كالحيوانية الْكُلِّيَّةِ والإنسانية الْكُلِّيَّةِ وَالْكُلِّيَّاتِ إنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . وَمَنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهَا تَكُونُ فِي الْخَارِجِ كُلِّيَّاتٌ وَأَنَّ فِي الْخَارِجِ مَاهِيَّاتٍ كُلِّيَّةً مُقَارِنَةً لِلْأَعْيَانِ غَيْرَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَكَذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ كُلِّيَّاتٍ مُجَرَّدَةً عَنْ الْأَعْيَانِ يُسَمُّونَهَا " الْمُثُلَ الأفلاطونية " وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ دَهْرًا مُجَرَّدًا عَنْ الْمُتَحَرِّكِ وَالْحَرَكَةِ وَيُثْبِتُ خَلَاءً مُجَرَّدًا لَيْسَ هُوَ مُتَحَيِّزًا وَلَا قَائِمًا بِمُتَحَيِّزِ . وَيُثْبِتُ هَيُولَى مُجَرَّدَةً عَنْ جَمِيعِ الصُّوَرِ وَالْهَيُولَى فِي لُغَتِهِمْ بِمَعْنَى الْمَحَلِّ . يُقَالُ الْفِضَّةُ هَيُولَى الْخَاتَمِ وَالدِّرْهَمِ وَالْخَشَبِ هَيُولَى الْكُرْسِيِّ . أَيْ هَذَا الْمَحَلُّ الَّذِي تُصْنَعُ فِيهِ هَذِهِ الصُّورَةُ وَهَذِهِ الصُّورَةُ الصِّنَاعِيَّةُ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَيَدَّعُونَ أَنَّ لِلْجِسْمِ هَيُولَى مَحَلَّ الصُّورَةِ الْجِسْمِيَّةِ غَيْرَ نَفْسِ الْجِسْمِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا غَلَطٌ . وَإِنَّمَا هَذَا يُقَدَّرُ فِي النَّفْسِ كَمَا يُقَدَّرُ امْتِدَادُ مُجَرَّدٍ عَنْ كُلِّ مُمْتَدٍّ وَعَدَدٍ مُجَرَّدٍ عَنْ كُلٍّ مَعْدُودٍ وَمِقْدَارٍ مُجَرَّدٍ عَنْ كُلّ مُقَدَّرٍ وَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مُقَدَّرَةٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ . وَقَدْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ مَنْ عَادَتُهُ نَصْرُ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ . كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَالْجَوَاهِرُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي يُثْبِتُهَا هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ بَعْد التَّصَوُّرِ التَّامِّ انْتِفَاؤُهَا فِي الْخَارِجِ . وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَهَذِهِ لَا يَعْرِفُهَا هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ أَتْبَاعَ أَرِسْطُو وَلَا يَذْكُرُونَهَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ كَمَا لَا يَعْرِفُونَ النُّبُوَّاتِ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ عَلَيْهَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ إنَّمَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مُتَأَخِّرُوهُمْ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ النُّبُوَّاتِ وَبَيْنَ الْفَلْسَفَةِ فَلَبَّسُوا وَدَلَّسُوا . وَكَذَلِكَ الْعِلَّةُ الْأُولَى " الَّتِي يُثْبِتُونَهَا لِهَذَا الْعَالَمِ إنَّمَا أَثْبَتُوا عِلَّةً غائية يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا وَتَحْرِيكُهَا لِلْفَلَكِ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيكِ الْإِمَامِ الْمُقْتَدَى بِهِ لِلْمُؤْتَمِّ الْمُقْتَدِي إذَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِإِمَامِهِ وَيَقْتَدِيَ بِإِمَامِهِ وَلَفْظُ " الْإِلَهِ " فِي لُغَتِهِمْ يُرَادُ بِهِ الْمَتْبُوعُ الْإِمَامُ الَّذِي يَتَشَبَّهُ بِهِ فَالْفَلَكُ عِنْدَهُمْ يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِالْإِلَهِ وَلِهَذَا جَعَلُوا " الْفَلْسَفَةَ الْعُلْيَا " و " الْحِكْمَةَ الْأُولَى " إنَّمَا هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَكَلَامُ أَرِسْطُو فِي عِلْمِ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ فِي " مَقَالَةِ اللَّامِ " الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى فَلْسَفَتِهِ وَفِي غَيْرِهَا كُلُّهُ يَدُورُ عَلَى هَذَا وَتَارَةً يُشَبِّهُ تَحْرِيكَهُ لِلْفَلَكِ بِتَحَرِّيك الْمَعْشُوقِ لِلْعَاشِقِ لَكِنَّ التَّحْرِيكَ هُنَا قَدْ يَكُونُ لِمَحَبَّةِ الْعَاشِقِ ذَاتَ الْمَعْشُوقِ أَوْ لِغَرَضٍ يَنَالُهُ مِنْهُ وَحَرَكَةُ الْفَلَكِ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ يَتَحَرَّكُ لِيَتَشَبَّهَ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى فَهُوَ يُحِبُّهَا أَيْ يُحِبُّ التَّشَبُّهَ بِهَا لَا يُحِبُّ أَنْ يَعْبُدَهَا وَلَا يُحِبَّ شَيْئًا يَحْصُلُ مِنْهَا وَيُشَبِّهُ ذَلِكَ أَرِسْطُو بِحَرَكَةِ النَّوَامِيسِ لِأَتْبَاعِهَا أَيْ أَتْبَاعِ النَّامُوسِ قَائِمُونَ بِمَا فِي النَّامُوسِ وَيَقْتَدُونَ بِهِ وَالنَّامُوسُ عِنْدَهُمْ هِيَ السِّيَاسَةُ الْكُلِّيَّةُ لِلْمَدَائِنِ الَّتِي وَضَعَهَا لَهُمْ ذَوُو الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ لِمَصْلَحَةِ دُنْيَاهُمْ ; لِئَلَّا يَتَظَالَمُوا وَلَا تَفْسُدَ دُنْيَاهُمْ . وَمَنْ عَرَفَ النُّبُوَّاتِ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِنْسِ نَوَامِيسِهِمْ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَصْلَحَةُ الدُّنْيَا ; بِوَضْعِ قَانُونِ عدلي ; وَلِهَذَا أَوْجَبَ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ النُّبُوَّةَ وَجَعَلُوا النُّبُوَّةَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِأَجْلِ وَضْعِ هَذَا النَّامُوسِ وَلَمَّا كَانَتْ الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ عِنْدَهُمْ هِيَ الْخِلْقِيَّةُ وَالْمَنْزِلِيَّةُ وَالْمَدَنِيَّةُ : جَعَلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْحِكْمَةِ الْخِلْقِيَّةِ وَالْمَنْزِلِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ . فَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ بَلْ هُمْ أَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ مِنْ كُفَّارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِيرِ . وَأَرِسْطُو الْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ إلَى الْغَايَةِ . لَكِنْ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ وَهَذَا بَحْرُ عِلْمِهِمْ وَلَهُ تَفَرَّغُوا وَفِيهِ ضَيَّعُوا زَمَانَهُمْ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَحَظُّهُمْ مِنْهَا مَبْخُوسٌ جِدًّا وَأَمَّا مَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَكُتُبُهُ وَرُسُلُهُ وَالْمَعَادُ . فَلَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا فِيهِ لَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مُتَأَخِّرُوهُمْ الدَّاخِلُونَ فِي الْمِلَلِ . وَأَمَّا قُدَمَاءُ الْيُونَانِ فَكَانُوا مُشْرِكِينَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ شِرْكًا وَسِحْرًا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَلِهَذَا عَظُمَتْ عِنَايَتُهُمْ بِعِلْمِ الْهَيْئَةِ وَالْكَوَاكِبِ لِأَجْلِ عِبَادَتِهَا . وَكَانُوا يَبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ وَكَانَ آخِرُ مُلُوكِهِمْ ( بَطْلَيْمُوس صَاحِبَ " الْمَجِسْطِي " وَلَمَّا دَخَلَتْ الرُّومُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ فَجَاءَ دِينُ الْمَسِيحِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَبْطَلَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْكِ . وَلِهَذَا بَدَّلَ مَنْ بَدَّلَ دِينَ الْمَسِيحِ فَوَضَعَ دِينًا مُرَكَّبًا مِنْ دِينِ الْمُوَحِّدِينَ وَدِينِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ وَيُصَلُّونَ لَهَا وَيَسْجُدُونَ فَجَاءَ قُسْطَنْطِينُ مَلِكُ النَّصَارَى وَمَنْ اتَّبَعَهُ فَابْتَدَعُوا الصَّلَاةَ إلَى الْمَشْرِقِ وَجَعَلُوا السُّجُودَ إلَى الشَّمْسِ بَدَلًا عَنْ السُّجُودِ لَهَا وَكَانَ أُولَئِكَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ الْمُجَسَّدَةَ الَّتِي لَهَا ظِلٌّ فَجَاءَتْ النَّصَارَى وَصَوَّرَتْ تَمَاثِيلَ الْقَدَادِيسَ فِي الْكَنَائِسِ وَجَعَلُوا الصُّوَرَ الْمَرْقُومَةَ فِي الْحِيطَانِ وَالسُّقُوفِ بَدَلَ الصُّوَرِ الْمُجَسَّدَةِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا الَّتِي لَهَا ظِلٌّ . وَأَرِسْطُو كَانَ وَزِيرَ الْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فيلبس الْمَقْدُونِيِّ - نِسْبَةً إلَى مَقْدُونِيَّةَ - وَهِيَ جَزِيرَةُ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الْيُونَانِيِّينَ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْمَشَّائِينَ وَهِيَ الْيَوْمُ خَرَابٌ أَوْ غَمَرَهَا الْمَاءُ وَهُوَ الَّذِي يُؤَرِّخُ لَهُ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ التَّارِيخَ الرُّومِيَّ وَكَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ سُنَّةٍ فَيَظُنُّ مَنْ يُعَظِّمُ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةَ أَنَّهُ كَانَ وَزِيرًا لِذِي الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ لِيُعَظِّمَ بِذَلِكَ قَدْرَهُ وَهَذَا جَهْلٌ ; فَإِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ قَبْلَ هَذَا بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ جِدًّا وَذُو الْقَرْنَيْنِ بَنَى سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهَذَا الْمَقْدُونِيُّ ذَهَبَ إلَى بِلَادِ فَارِسَ وَلَمْ يَصِلْ إلَى بِلَادِ الصِّينِ ; فَضْلًا عَنْ السَّدِّ . وَالْمَلَائِكَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهَا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَيْسُوا عَشَرَةً وَلَا تِسْعَةً وَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ أَحْيَاءُ نَاطِقُونَ يَنْزِلُونَ إلَى الْأَرْضِ وَيَصْعَدُونَ إلَى السَّمَاءِ . وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ . كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ . وَهَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّ الْعُقُولَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَأَنَّ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ هُوَ رَبُّ كُلِّ مَا تَحْتَ هَذَا الْفَلَكِ وَالْعَقْلُ الْأَوَّلُ هُوَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَالْمَلَاحِدَةُ الَّذِينَ دَخَلُوا مَعَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ بَنِي عُبَيْدٍ : كَأَصْحَابِ رَسَائِلَ إخْوَانِ الصَّفَا وَغَيْرِهِمْ وَكَمَلَاحِدَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ : مِثْلِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَغَيْرِهِمَا يَحْتَجُّونَ لِمِثْلِ ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ : " { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ } " . وَفِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ فِي " الْكُتُبِ الْمَضْنُونِ بِهَا عَلَى غَيْرِ أَهْلِهَا " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي هَؤُلَاءِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ وَيُعَبِّرُ عَنْ مَذَاهِبِهِمْ بِلَفْظِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ الْجِسْمُ وَالنَّفْسُ وَالْعَقْلُ . فَيَأْخُذُ هَؤُلَاءِ الْعِبَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ وَيُودِعُونَهَا مَعَانِيَ هَؤُلَاءِ وَتِلْكَ الْعِبَارَاتُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا سَمِعُوهَا قَبِلُوهَا ثُمَّ إذَا عَرَفُوا الْمَعَانِيَ الَّتِي قَصَدَهَا هَؤُلَاءِ ضَلَّ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ دِينِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ هَذِهِ مَعَانِي هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ لَيْسَتْ هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي عَنَاهَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِخْوَانُهُ الْمُرْسَلُونَ : مِثْلُ مُوسَى وَعِيسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . وَلِهَذَا ضَلَّ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِسَبَبِ هَذَا الِالْتِبَاسِ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ حَتَّى يَضِلَّ بِهِمْ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَالتَّصَوُّفِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي مُخَالَفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يُحِبُّ اتِّبَاعَهُ مُطْلَقًا وَلَوْ عَرَفَ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ لَمْ يَقْبَلْهُ لَكِنْ لِعَدَمِ كَمَالِ عِلْمِهِ بِمَعَانِي مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَقَاصِدِ هَؤُلَاءِ يَقْبَلُ هَذَا . لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مِمَّنْ لَهُ نَصِيبٌ وَافِرٌ فِي الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ وَالزُّهْدِ وَالْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ . وَرَأَى الطَّالِبُ أَنَّ هَذَا مَرْتَبَتُهُ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ إنَّمَا يَعْرِفُونَ الشَّرْعَ الظَّاهِرَ وَفَوْقَ مَرْتَبَةِ الْمُحَدِّثِ الَّذِي غَايَتُهُ أَنْ يَنْقُلَ أَلْفَاظًا لَا يُعْلَمُ مَعَانِيهَا وَكَذَلِكَ الْمُقْرِئِ وَالْمُفَسِّرِ وَرَأَى مَنْ يُعَظِّمُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إمَّا مُوَافِقٌ لَهُمْ وَإِمَّا خَائِفٌ مِنْهُمْ وَرَأَى بُحُوثَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَعَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَمْ يَأْتُوا بِتَحْقِيقِ يُبَيِّنُ فَسَادَ قَوْلِهِمْ بَلْ تَارَةً يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى أُصُولٍ لَهُمْ تَكُونُ فَاسِدَةً وَتَارَةً يُخَالِفُونَهُمْ فِي أَمْرٍ قَالَتْهُ الْفَلَاسِفَةُ وَيَكُونُ حَقًّا مِثْلَ مَنْ يَرَى كَثِيرًا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ يُخَالِفُهُمْ فِي أُمُورٍ طَبِيعِيَّةٍ وَرِيَاضِيَّةٍ ظَانًّا أَنَّهُ يَنْصُرُ الشَّرْعَ وَيَكُونُ الشَّرْعُ مُوَافِقًا لِمَا عُلِمَ بِالْعَقْلِ . مِثْلُ اسْتِدَارَةِ الْأَفْلَاكِ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ بَيْنَ السَّلَفِ خِلَافٌ فِي أَنَّهَا مُسْتَدِيرَةٌ وَالْآثَارُ بِذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَدْ دَلَّا عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ اسْتِحَالَةُ الْأَجْسَامِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ . إلَى أُمُورٍ أُخَرِ . لَكِنَّ كَثِيرَا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ لَا خِبْرَةَ لَهُمْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ; بَلْ يَنْصُرُ مَقَالَاتٍ يَظُنُّهَا دِينُ الْمُسْلِمِينَ بَلْ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَكُونُ قَدْ قَالَهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ ; بَلْ الثَّابِتُ عَنْ السَّلَفِ مُخَالِفٌ لَهَا " فَلَمَّا وَقَعَ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ تَقْصِيرٌ وَجَهْلٌ كَثِيرٌ بِحَقَائِقِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ تَارَةً يُوَافِقُونَ الْفَلَاسِفَةَ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَارَةً يُخَالِفُونَهُمْ فِي حَقِّهِمْ صَارَتْ الْمُنَاظَرَاتُ بَيْنَهُمْ دُوَلًا . وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُونَ أَصَحَّ مُطْلَقًا فِي الْعَقْلِيَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْكُلِّيَّةِ كَمَا أَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى الشَّرْعِيَّاتِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ ; فَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ كَلَامُهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ كَلَامٌ قَاصِرٌ جِدًّا وَفِيهِ تَخْلِيطٌ كَثِيرٌ وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ جَيِّدًا فِي الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَفِي كُلِّيَّاتِهَا فَكَلَامُهُمْ فِيهَا فِي الْغَالِبِ جَيِّدٌ . وَأَمَّا الْغَيْبُ الَّذِي تُخْبِرُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْكُلِّيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي تَعُمُّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا وَتَقْسِيمُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا قِسْمَةٌ صَحِيحَةٌ فَلَا يَعْرِفُونَهَا أَلْبَتَّةَ : فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِمَّنْ أَحَاطَ بِأَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ إلَّا الْحَسَيَاتِ وَبَعْضَ لَوَازِمِهَا وَهَذَا مَعْرِفَةٌ بِقَلِيلٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ جِدًّا فَإِنَّ مَا لَا يَشْهَدُهُ الْآدَمِيُّونَ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ أَعْظَمُ قَدْرًا . وَصِفَةً مِمَّا يَشْهَدُونَهُ بِكَثِيرِ . وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَرَفُوا مَا عَرَفْته الْفَلَاسِفَةُ إذَا سَمِعُوا إخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنْ لَا مَوْجُودَ إلَّا مَا عَلِمُوهُ هُمْ وَالْفَلَاسِفَةُ : يَصِيرُونَ حَائِرِينَ مُتَأَوِّلِينَ لِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا عَرَفُوهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُمْ بِهَذَا النَّفْيِ عِلْمٌ ; فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ لَكِنَّ نَفْيَهُمْ هَذَا كَنَفْيِ الطَّبِيبِ لِلْجِنِّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي صِنَاعَةِ الطِّبّ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْجِنِّ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي عِلْمِ الطِّبِّ مَا يَنْفِي وُجُودَ الْجِنِّ وَهَكَذَا تَجِدُ مِنْ عَرَفَ نَوْعًا مِنْ الْعِلْمِ وَامْتَازَ بِهِ عَلَى الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَهُ فَيَبْقَى بِجَهْلِهِ نَافِيًا لِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَبَنُو آدَمَ ضَلَالُهُمْ فِيمَا جَحَدُوهُ وَنَفَوْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَكْثَرُ مِنْ ظِلَالِهِمْ فِيمَا أَثْبَتُوهُ وَصَدَّقُوا بِهِ . قَالَ تَعَالَى : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } وَهَذَا لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْآدَمِيِّينَ صِحَّةُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ فَإِذَا أَثْبَتُوا شَيْئًا وَصَدَّقُوا بِهِ كَانَ حَقًّا . وَلِهَذَا كَانَ التَّوَاتُرُ مَقْبُولًا مِنْ جَمِيعِ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ ; لِأَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ عَمَّا شَاهَدُوهُ وَسَمِعُوهُ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشْتَرِكُ الْخَلْقُ الْعَظِيمُ فِي الْغَلَطِ فِيهِ وَلَا فِي تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِيهِ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَاطَئُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْخُذْهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ كَمَا تُؤْخَذُ الْمَذَاهِبُ وَالْآرَاءُ الَّتِي يَتَلَقَّاهَا الْمُتَأَخِّرُ عَنْ الْمُتَقَدِّمِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُغْلَطُ فِيهِ عَادَةً عُلِمَ قَطْعًا صِدْقُهُمْ فَإِنَّ الْمُخْبِرَ إمَّا أَنْ يَتَعَمَّدَ الْكَذِبَ وَإِمَّا أَنْ يَغْلَطَ وَكِلَاهُمَا مَأْمُونٌ فِي الْمُتَوَاتِرَاتِ بِخِلَافِ مَا نَفَوْهُ وَكَذَّبُوا بِهِ فَإِنَّ غَالِبَهُمْ أَوْ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَنْفُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ وَيُكَذِّبُونَ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ . فَصَارَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ظَنُّوا الْمَوْجُودَاتِ مَا عَرَفَهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ إذَا سَمِعُوا مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ قَالُوا : الْعَرْشُ هُوَ . الْفَلَكُ التَّاسِعُ وَالْكُرْسِيُّ هُوَ الثَّامِنُ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِحَاطَةِ " وَبَيَّنَّا جَهْلَ مَنْ قَالَ هَذَا عَقْلًا وَشَرْعًا وَإِذَا سَمِعَهُمْ يَذْكُرُونَ الْمَلَائِكَةَ ظَنَّ أَنَّهُمْ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ الَّتِي يُثْبِتُهَا الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقُوَى الَّتِي فِي الْأَجْسَامِ وَكَذَلِكَ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ يَظُنُّ أَنَّهَا أَعْرَاضٌ قَائِمَةٌ بِالنُّفُوسِ حَيْثُ كَانَ هَذَا مَبْلَغَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ يَظُنُّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَنَّ الْغَرَائِبَ فِي هَذَا الْعَالَمِ سَبَبُهَا قُوَّةٌ فَلَكِيَّةٌ أَوْ طَبِيعِيَّةٌ أَوْ نَفْسَانِيَّةٌ وَيَجْعَلُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَابِ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ لَكِنَّ السَّاحِرَ قَصْدُهُ الشَّرُّ وَالنَّبِيَّ قَصْدُهُ الْخَيْرُ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْجَهْلِ بِالْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ الْمُحِيطَةِ بِالْمَوْجُودَاتِ وَأَنْوَاعِهَا وَمِنْ الْجَهْلِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَلَا يَعْرِفُونَ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ وَلَا الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ إلَّا مَا يَعْرِفُهُ الْفَلَاسِفَةُ الْمُتَقَدِّمُونَ وَزِيَادَاتٌ تَلَقَّوْهَا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ عَنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ . فَلِهَذَا صَارَ كَلَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ أَجْوَدَ مِنْ كَلَامِ سَلَفِهِ وَلِهَذَا قَرُبَتْ فَلْسَفَةُ الْيُونَانِ إلَى أَهْلِ الْإِلْحَادِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ لِمَا فِيهَا مِنْ شَوْبِ الْمِلَّةِ وَلِهَذَا دَخَلَ فِيهَا بَنُو عُبَيْدٍ الْمَلَاحِدَةُ فَأَخَذُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئَةَ الْمُشْرِكِينَ الْعَقْلَ وَالنَّفْسَ وَعَنْ الْمَجُوسِ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ وَسَمَّوْهُ هُمْ السَّابِقَ وَالتَّالِيَ وَكَذَلِكَ الْمَلَاحِدَةُ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى التَّصَوُّفِ وَالتَّأَلُّهِ : كَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِ سَلَكُوا مَسْلَكًا جَمَعُوا فِيهِ بِزَعْمِهِمْ بَيْنَ الشَّرْعِ وَالْفَلْسَفَةِ وَهُمْ مَلَاحِدَةٌ لَيْسُوا مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا ذُكِرُوا هُنَا لِأَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ صَارُوا - لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِمَا عَلِمَهُ السَّلَفُ وَأَئِمَّةَ السُّنَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَلِمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ الْكَلَامِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ - يُدْخِلُ بِسَبَبِهِمْ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ فِي الْإِسْلَامِ أُمُورًا بَاطِلَةً وَيَحْصُلُ بِهِمْ مِنْ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ . وَلَمَّا أَحْدَثَتْ الجهمية مِحْنَتَهُمْ وَدَعَوْا النَّاسَ إلَيْهَا وَضُرِّبَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي سُنَّةِ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ كَانَ مَبْدَأُ حُدُوثِ الْقَرَامِطَةِ الْمَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَصَارَتْ الْبِدَعُ بَابَ الْإِلْحَادِ كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ بَرِيدُ الْكُفْرِ وَلِبَسْطِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ التَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُتَفَلْسِفَةُ صَارَ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ فِي الْمَلَائِكَةِ . هَلْ هِيَ مُتَحَيِّزَةٌ أَمْ لَا ؟ فَمَنْ مَالَ إلَى الْفَلْسَفَةِ وَرَأَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ الَّتِي يُثْبِتُهَا الْفَلَاسِفَةُ وَأَنَّ تِلْكَ لَيْسَتْ مُتَحَيِّزَةً قَالَ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسَتْ مُتَحَيِّزَةً لَا سِيَّمَا وَطَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ لَمْ تَجْعَلْ عَدَدَهَا عَشَرَةَ عُقُولٍ وَتِسْعَةَ نُفُوسٍ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْمَشَّائِينَ بَلْ قَالَ : لَا دَلِيلَ عَلَى نَفْيِ الزِّيَادَةِ وَرَأَى النُّبُوَّاتِ قَدْ أَخْبَرَتْ بِكَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ فَأَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ كَثْرَتَهُمْ بِطَرِيقَةٍ فَلْسَفِيَّةٍ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو الْبَرَكَاتِ صَاحِبُ " الْمُعْتَبَرِ " والرازي فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " وَغَيْرِهِمَا . وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ أَوْ كُلَّ مُحْدَثٍ أَوْ كُلَّ مَخْلُوقٍ : فَهُوَ إمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا قَائِمٌ بِمُتَحَيِّزِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُ : كُلُّ مَوْجُودٍ إمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا قَائِمٌ بِمُتَحَيِّزِ وَيَقُولُونَ : لَا يُعْقَل مَوْجُودٌ إلَّا كَذَلِكَ كَمَا قَالَهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ ثُمَّ الْمُتَفَلْسِفَةُ كَابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ وَالشِّهْرِسْتَانِي والرازي وَغَيْرِهِمْ لَمَّا أَرَادُوا إثْبَاتَ مَوْجُودٍ لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ عُمْدَتِهِمْ إثْبَاتَ الْكُلِّيَّاتِ كالإنسانية الْمُشْتَرِكَةِ والحيوانية الْمُشْتَرِكَةِ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ لَا تَكُونُ كُلِّيَّاتٍ إلَّا فِي الذِّهْنِ فَلَمْ يُنَازِعْهُمْ النَّاسُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَازَعُوهُمْ فِي إثْبَاتِ مَوْجُودٍ خَارِجَ الذِّهْنِ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ الْإِحْسَاسُ بِهِ بِحَالِ بَلْ لَا يَكُونُ مَعْقُولًا . وَقَالُوا لَهُمْ : الْمَعْقُولُ مَا كَانَ فِي الْعَقْلِ وَأَمَّا مَا كَانَ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُمْكِنَ الْإِحْسَاسُ بِهِ وَإِنْ لَمْ نُحِسَّ نَحْنُ بِهِ فِي الدُّنْيَا كَمَا لَا نُحِسُّ بِالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِسَّ بِهِ غَيْرُنَا كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَأَنْ يُحِسَّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَوْ يُحِسَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا كَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ رَأَوْا الْمَلَائِكَةَ وَسَمِعُوا كَلَامَهُمْ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ - وَهُوَ أَنْ كُلَّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ - هِيَ الَّتِي سَلَكَهَا أَئِمَّةُ النُّظَّارِ : كَابْنِ كُلَّابٍ وَغَيْرِهِ وَسَلَكَهَا ابْنُ الزاغوني وَغَيْرُهُ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَجُوزُ رُؤْيَتُهُ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يُحِسَّ بِسَائِرِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ كَمَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيُّ وَمُوَافِقُوهُ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِمَا فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ بَلْ يَقُولُونَ فَسَادُهَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ .