مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَكَذَلِكَ نِزَاعُهُمْ فِي رُوحِ الْإِنْسَانِ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : هِيَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا لَيْسَتْ عَرَضًا مِنْ أَعْرَاضِ الْبَدَنِ كَالْحَيَاةِ وَغَيْرِهَا وَلَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَالْهَوَاءِ الْخَارِجِ مِنْهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ زَعَمُوا أَنَّهَا عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْبَدَنِ أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ لَكِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَلِقَوْلِ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَمُخَالِفٌ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ . وَهَذَا مِمَّا اسْتَطَالَ بِهِ الْفَلَاسِفَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَبِهَذَا نَقُولُ إذَا لَمْ يَعْنِ بِالرُّوحِ النَّفْسَ فَإِنَّهُ قَالَ : الرُّوحُ الْكَائِنُ فِي الْجَسَدِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : الْحَيَاةُ الْقَائِمَةُ بِهِ وَالْآخِرُ النَّفَسُ وَالنَّفَسُ رِيحٌ يَنْبَثُّ بِهِ وَالْمُرَادُ بِالنَّفَسِ مَا يَخْرُجُ بِنَفَسِ التَّنَفُّسِ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَوَاءِ الْمُتَحَلِّلِ مِنْ الْمَسَامِّ وَهَذَا قَوْلُ الإسفرائيني وَغَيْرِهِ وَقَالَ ابْنُ فورك : هُوَ مَا يَجْرِي فِي تَجَاوِيفِ الْأَعْضَاءِ وَأَبُو الْمَعَالِي خَالَفَ هَؤُلَاءِ وَأَحْسَنَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ فَقَالَ : إنَّ الرُّوحَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ مُشَابَكَةٌ لِلْأَجْسَامِ الْمَحْسُوسَةِ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِحَيَاةِ الْأَجْسَادِ مَا اسْتَمَرَّتْ مُشَابَكَتُهَا لَهَا فَإِذَا فَارَقَتْهَا تَعَقَّبَ الْمَوْتُ الْحَيَاةَ فِي اسْتِمْرَارِ الْعَادَةِ . وَمَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَائِرِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ : أَنَّ الرُّوحَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا تُفَارِقُ الْبَدَنَ وَتُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ لَيْسَتْ هِيَ الْبَدَنَ وَلَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ كَالنَّفَسِ الْمَذْكُورِ . وَلَمَّا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد مِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ ; لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى زَعَمُوا أَنَّهَا جِسْمٌ وَأَنَّهَا الْهَوَاءُ الْمُتَرَدِّدُ فِي مخاريق الْبَدَنِ ; مُوَافَقَةً لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ الباقلاني . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَضْعَفِ الْأَقْوَالِ تَسَلَّطَ بِهَا عَلَيْهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّهَا عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا غَيْرُ الْبَدَنِ وَأَجْزَائِهِ وَأَعْرَاضِهِ تَنَازَعُوا : هَلْ هِيَ جِسْمٌ مُتَحَيِّزٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي الْمَلَائِكَةِ . فالمتكلمون مِنْهُمْ يَقُولُونَ : جِسْمٌ والمتفلسفة يَقُولُونَ : جَوْهَرٌ عَقْلِيٌّ لَيْسَ بِجِسْمِ وَقَدْ أَشَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَى أَنَّ مَا تُسَمِّيهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةً لَا تُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَأَصْلُ تَسْمِيَتِهِمْ الْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارِقَاتِ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تُفَارِقُ بَدَنَهُ بِالْمَوْتِ وَتَتَجَرَّدُ عَنْهُ سَمَّوْهَا مُفَارِقَةً مُجَرَّدَةً ثُمَّ أَثْبَتُوا مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَسَمَّوْهَا مُفَارِقَاتٍ وَمُجَرَّدَاتٍ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ يُرِيدُونَ بِالْمُفَارِقِ لِلْمَادَّةِ مَا لَا يَكُونُ جِسْمًا وَلَا قَائِمًا بِجِسْمِ لَكِنَّ النَّفْسَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِسْمِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالْعَقْلِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْأَجْسَامِ أَصْلًا وَلَا رَيْبَ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْعُقَلَاءَ عَلَى إثْبَاتِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ الَّتِي تُفَارِقُ وَالْجُمْهُورُ يُسَمُّونَ ذَلِكَ رُوحًا وَهَذَا جِسْمًا لَكِنَّ لَفْظَ الْجِسْمِ فِي اللُّغَةِ لَيْسَ هُوَ الْجِسْمَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ الْجِسْمُ هُوَ الْجَسَدُ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْجِسْمُ الْغَلِيظُ أَوْ غِلَظُهُ وَالرُّوحُ لَيْسَتْ مِثْلَ الْبَدَنِ فِي الْغِلَظِ وَالْكَثَافَةِ وَلِذَلِكَ لَا تُسَمَّى جِسْمًا فَمَنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَرْوَاحَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَيْسَتْ أَجْسَامًا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ وَرَبُّ الْعَالَمِينَ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا فَإِنَّهُ مِنْ الْمَشْهُورِ فِي اللُّغَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ . ( وَأَمَّا أَهْلُ الِاصْطِلَاح مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتفلسفة فَيَجْعَلُونَ مُسَمَّى الْجِسْمِ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا أَمْكَنَتْ الْإِشَارَةُ الْحِسِّيَّةُ إلَيْهِ وَمَا قِيلَ إنَّهُ هُنَا وَهُنَاكَ وَمَا قَبِلَ الْأَبْعَادَ الثَّلَاثَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْمُتَحَيِّزُ فِي اصْطِلَاحِ هَؤُلَاءِ هُوَ الْجِسْمُ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْجِسْمِ فِي اللُّغَةِ وَأَمَّا الْمُتَحَيِّزُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } . وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْحَوْزُ الْجَمْعُ وَكُلُّ مَنْ ضَمٍّ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ حَازَهُ حَوْزًا وَحِيَازَةً وَاحْتَازَهُ أَيْضًا وَالْحَوْزُ وَالْحَيِّزُ السُّوقُ اللَّيِّنُ وَقَدْ حَازَ الْإِبِلَ يَحُوزُهَا وَيَحِيزُهَا وَحَوَّزَ الْإِبِلَ سَاقَهَا إلَى الْمَاءِ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : إذَا كَانَتْ الْإِبِلُ بَعِيدَةَ الْمَرْعَى عَنْ الْمَاءِ فَأَوَّلُ لَيْلَةٍ تُوَجِّهُهَا إلَى الْمَاءِ لَيْلَةُ الْحَوْزِ وَتَحَوَّزَتْ الْحَيَّةُ وَتَحَيَّزَتْ تَلَوَّتْ . يُقَالُ مَا لَك تَتَحَوَّزُ تَحَوُّزَ الْحَيَّةِ وَتَتَحَيَّزُ تَحَيُّزَ الْحَيَّةِ قَالَ سِيبَوَيْهِ هُوَ تَفَعُّلٌ مِنْ حُزْت الشَّيْءَ قَالَ الْقَطَامِيُّ : تَحَيَّزَ مِنِّي خَشْيَةَ أَنْ أُضِيفَهَا كَمَا انْحَازَتْ الْأَفْعَى مَخَافَةَ ضَارِبِ يَقُولُ تَتَنَحَّى عَنِّي هَذِهِ الْعَجُوزُ وَتَتَأَخَّرُ خَشْيَةَ أَنْ أَنْزِلَ عَلَيْهَا ضَيْفًا . وَالْحَيِّزُ مَا انْضَمَّ إلَى الدَّارِ مِنْ مَرَافِقِهَا وَكُلُّ نَاحِيَةٍ حَيِّزٌ وَأَصْلُهُ مِنْ الْوَاوِ وَالْحَيِّزُ تَخْفِيفُ الْحَيِّزِ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٌ وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ وَالْجَمْعُ أحياز وَالْحَوْزَةُ النَّاحِيَةُ وَانْحَازَ عَنْهُ انعدل وَانْحَازَ الْقَوْمُ تَرَكُوا مَرْكَزَهُمْ إلَى آخَرَ يُقَالُ لِلْأَوْلِيَاءِ انْحَازُوا عَنْ الْعَدُوِّ وَحَاصُوا وَالْأَعْدَاءُ انْهَزَمُوا وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَتَحَاوَزَ الْفَرِيقَانِ فِي الْحَرْبِ انْحَازَ كُلُّ فَرِيقٍ عَنْ الْآخَرِ . فَهَذَا الْمَذْكُورُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَمَادَّتِهِ يَقْتَضِي أَنَّ التَّحَيُّزَ وَالِانْحِيَازَ وَالتَّحَوُّزَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ عُدُولًا مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ كَوْنِهِ يَحُوزُهُ أَمْرٌ مَوْجُودٌ فَهُمْ يُرَاعُونَ فِي مَعْنَى الْحَوْزِ ذَهَابَهُ مِنْ جِهَةٍ إلَى جِهَةٍ ; وَلِهَذَا يَقُولُونَ : حُزْت الْمَالَ وَحُزْت الْإِبِلَ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ نَقْلَهُ مِنْ جِهَةٍ إلَى جِهَةٍ فَالشَّيْءُ الْمُسْتَقِرُّ فِي مَوْضِعِهِ كَالْجَبَلِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَا يُسَمُّونَهُ مُتَحَيِّزًا وَأَعَمُّ مِنْ هَذَا أَنْ يُرَادَ بِالْمُتَحَيِّزِ مَا يُحِيطُ بِهِ حَيِّزٌ مَوْجُودٌ فَيُسَمَّى كُلُّ مَا أَحَاطَ بِهِ غَيْرُهُ أَنَّهُ مُتَحَيِّزٌ وَعَلَى هَذَا فَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُتَحَيِّزٌ ; بَلْ مَا فِي الْعَالَمِ مُتَحَيِّزٌ إلَّا سَطْحَ الْعَالَمِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَكَذَلِكَ الْعَالَمُ جُمْلَةً لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي عَالَمٍ آخَرَ أَحَاطَ بِهِ والمتكلمون يُرِيدُونَ بِالْمُتَحَيِّزِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَالْحَيِّزُ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنْ الْمَكَانِ فَالْعَالَمُ كُلُّهُ فِي حَيِّزٍ وَلَيْسَ هُوَ فِي مَكَانٍ وَالْمُتَحَيِّزُ عِنْدَهُمْ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَنَّهُ يَحُوزُهُ غَيْرُهُ وَلَا يَكُونُ لَهُ حَيِّزٌ وُجُودِيٌّ بَلْ كُلَّمَا أُشِيرَ إلَيْهِ وَامْتَازَ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ مُتَحَيِّزٌ عِنْدَهُمْ . ثُمَّ هُمْ مُخْتَلِفُونَ بَعْدَ هَذَا فِي الْمُتَحَيِّزِ : هَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ ؟ أَوْ هُوَ غَيْرُ مُرَكَّبٍ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا ؟ كَمَا تَقَدَّمَ نِزَاعُهُمْ فِي الْجِسْمِ . فَالْجِسْمُ عِنْدَهُمْ مُتَحَيِّزٌ وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ إلَّا الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهُ وَهَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ أَنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ فَهُوَ مُرَكَّبٌ أَيْ يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ إلَى جُزْءٍ لَا يَتَجَزَّأُ بَلْ يَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ الْمُتَحَيِّزَاتُ مُتَمَاثِلَةً فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ وَمَنْ كَانَ مَعْنَى الْمُتَحَيِّزِ عِنْدَهُ هَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُنَزِّهَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِذَا قَالَ : الْمَلَائِكَةُ مُتَحَيِّزُونَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَوْ الرُّوحُ مُتَحَيِّزَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ نَازَعَهُ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ ; بَلْ لَا يُعْرَفُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا يَقُولُ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ مُتَحَيِّزَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَلَا قَالُوا لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ رُوحُ بَنِي آدَمَ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّهَا مُتَحَيِّزَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَلَا قَالَ فِيهَا لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ هَذَا التَّحَيُّزِ لِلْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ بِدْعَةً فِي الشَّرْعِ وَبَاطِلًا فِي الْعَقْلِ فَلَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِدْعَةً وَبَاطِلًا فِي رَبِّ الْعَالِمَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ عَامَّةَ مَا يَقُولُهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمَةُ فِي نُفُوسِ بَنِي آدَمَ وَفِي الْمَلَائِكَةِ بَاطِلٌ فَكَيْفَ بِمَا يَقُولُونَهُ فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلِهَذَا تُوجَدُ الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا مَقَالَاتُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ وَفِي مَلَائِكَتِهِ وَفِي أَرْوَاحِ بَنِي آدَمَ وَفِي الْمَعَادِ وَفِي النُّبُوَّاتِ لَيْسَ فِيهَا قَوْلٌ يُطَابِقُ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَلَا يَعْرِفُونَ مَا قَالَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَلِهَذَا يَغْلِبُ عَلَى فُضَلَائِهِمْ الْحَيْرَةُ فَإِنَّهُمْ إذَا أَنْهَوْا النَّظَرَ لَمْ يَصِلُوا إلَى عِلْمٍ . لِأَنَّ مَا نَظَرُوا فِيهِ مِنْ كَلَامِ الطَّائِفَتَيْنِ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَاطِلٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرازي فِي آخِرِ عُمْرِهِ : لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي . وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُتَحَيِّزَ هُوَ مَا بَايَنَ غَيْرَهُ فَانْحَازَ عَنْهُ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمُنْفَرِدَةِ وَلَا أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّفْرِيقَ وَالتَّقْسِيمَ . فَإِذَا قَالَ : إنَّ الرَّبَّ مُتَحَيِّزٌ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْ أَنَّهُ بَائِنٌ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَقَدْ أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا لَكِنَّ إطْلَاقَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ بِدْعَةٌ وَفِيهَا تَلْبِيسٌ فَإِنَّ هَذَا الَّذِي أَرَادَهُ لَيْسَ مَعْنَى الْمُتَحَيِّزِ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ اصْطِلَاحٌ لَهُ وَلِطَائِفَتِهِ وَفِي الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فَصَارَ يَحْتَمِلُ مَعْنًى فَاسِدًا يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهُ وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظًا يَدُلُّ عِنْدَ غَيْرِهِ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ وَيُفْهَمَ ذَلِكَ الْغَيْرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ مِنْ غَيْرِ بَيَان مُرَادِهِ ; بَلْ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ الَّذِينَ أَرَادُوا بِالْمُتَحَيِّزِ مَا كَانَ مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ لَا تَقْبَلُ الْقِسْمَةَ وَهُوَ مَا كَانَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ إذَا قَالُوا إنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ أَوْ كُلَّ مُحْدَثٍ أَوْ كُلَّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ : إمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا قَائِمٌ بِمُتَحَيِّزٍ كَانَ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلَا سَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ فَكَيْفَ إذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ : كُلُّ مَوْجُودٍ فَهُوَ إمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا قَائِمٌ بِمُتَحَيِّزِ وَأَرَادَ بِالْمُتَحَيِّزِ مَا أَرَادَهُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ قَوْلَهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِنْ قَوْلِ أُولَئِكَ وَلِهَذَا طَالَبَهُمْ مُتَأَخِّرُوهُمْ بِالدَّلِيلِ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ . وَلَيْسَ خَطَأُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِهَةِ مَا أَثْبَتَهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّ تِلْكَ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهَا بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَيْضًا . وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ فِي النَّفْسِ النَّاطِقَةِ مِنْ أَنَّهَا لَا يُشَارُ إلَيْهَا وَلَا تُوصَفُ بِحَرَكَةِ وَلَا سُكُونٍ وَلَا صُعُودٍ وَلَا نُزُولٍ وَلَيْسَتْ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ هُوَ أَيْضًا كَلَامٌ أَبْطَلُ مِنْ كَلَامِ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ - كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ - إنَّهَا لَا تَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ وَإِنَّمَا تَعْرِفُ الْأُمُورَ الْكُلِّيَّةَ ; فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّهَا تَعْرِفُ بَدَنَهَا وَتَعْرِفُ كُلَّ مَا تَرَاهُ بِالْبَدَنِ وَتَشُمُّهُ وَتَسْمَعُهُ وَتَذُوقُهُ وَتَقْصِدُهُ وَتَأْمُرُ بِهِ وَتُحِبُّهُ وَتَكْرَهُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَتَصَرَّفُ فِيهِ بِعِلْمِهَا وَعَمَلِهَا فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهَا لَا تَعْرِفُ الْأُمُورَ الْمُعَيَّنَةَ وَإِنَّمَا تَعْرِفُ أُمُورًا كُلِّيَّةً وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ إنَّ تَعَلُّقَهَا بِالْبَدَنِ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ التَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ كَتَدْبِيرِ الْمَلِكِ لِمَمْلَكَتِهِ مِنْ أَفْسَدِ الْكَلَامِ فَإِنَّ الْمَلِكَ يُدَبِّرُ أَمْرَ مَمْلَكَتِهِ فَيَأْمُرُ وَيُنْهِي وَلَكِنْ لَا يَصْرِفُهُمْ هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ إنْ لَمْ يَتَحَرَّكُوا هُمْ بِإِرَادَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَالْمَلِكُ لَا يَلْتَذُّ بِلَذَّةِ أَحَدِهِمْ وَلَا يَتَأَلَّمُ بِتَأَلُّمِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرُّوحَ وَالْبَدَنَ بَلْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ الِاتِّحَادِ والائتلاف مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ يُقَاسُ بِهِ وَلَكِنَّ دُخُولَ الرُّوحِ فِيهِ لَيْسَ هُوَ مُمَاثِلًا لِدُخُولِ شَيْءٍ مِنْ الْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ فَلَيْسَ دُخُولُهَا فِيهِ كَدُخُولِ الْمَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ فِي الْأَوْعِيَةِ فَإِنَّ هَذِهِ إنَّمَا تَلَاقِي السَّطْحَ الدَّاخِلَ مِنْ الْأَوْعِيَةِ لَا بُطُونَهَا وَلَا ظُهُورَهَا وَإِنَّمَا يُلَاقِي الْأَوْعِيَةَ مِنْهَا أَطْرَافَهَا دُونَ أَوْسَاطِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرُّوحَ وَالْبَدَنَ بَلْ الرُّوحُ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ وَكَذَلِكَ دُخُولُهَا فِيهَا لَيْسَ كَدُخُولِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي بَدَنِ الْآكِلِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ مَجَارٍ مَعْرُوفَةٌ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ . - إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ - وَلَا جَرَيَانُهَا فِي الْبَدَنِ كَجَرَيَانِ الدَّمِ فَإِنَّ الدَّمَ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْبَدَنِ دُونَ بَعْضٍ . فَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ مَا يُذْكَرُ مِنْ النَّظَائِرِ لَا يَكُونُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ مُتَعَلِّقًا بِالْآخَرِ ; بِخِلَافِ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ لَكِنْ هِيَ مَعَ هَذَا فِي الْبَدَنِ قَدْ وَلَجَتْ فِيهِ وَتَخْرُجُ مِنْهُ وَقْتَ الْمَوْتِ وَتُسَلُّ مِنْهُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَتَخْرُجُ مِنْ الْبَدَنِ شَيْئًا فَشَيْئًا لَا تُفَارِقُهُ كَمَا يُفَارِقُ الْمَلِكُ مَدِينَتَهُ الَّتِي يُدَبِّرُهَا وَالنَّاسُ لَمَّا لَمْ يَشْهَدُوا لَهَا نَظِيرًا عَسُرَ عَلَيْهِمْ التَّعْبِيرُ عَنْ حَقِيقَتِهَا وَهَذَا تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى أَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ وَلَا تَصَوَّرُوا كَيْفِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَنَّ مَا يُضَافُ إلَيْهِ مِنْ صِفَاتِهِ هُوَ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ جَلَّ جَلَالُهُ . فَإِنَّ الرُّوحَ الَّتِي هِيَ بَعْضُ عَبِيدِهِ تُوصَفُ بِأَنَّهَا تَعْرُجُ إذَا نَامَ الْإِنْسَانُ وَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَهِيَ مَعَ هَذَا فِي بَدَنِ صَاحِبِهَا لَمْ تُفَارِقْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْإِنْسَانُ فِي نَوْمِهِ يُحِسُّ بِتَصَرُّفَاتِ رُوحِهِ تَصَرُّفَاتٍ تُؤَثِّرُ فِي بَدَنِهِ فَهَذَا الصُّعُودُ الَّذِي تُوصَفُ بِهِ الرُّوحُ لَا يُمَاثِلُ صُعُودَ الْمَشْهُودَاتِ فَإِنَّهَا إذَا صَعِدَتْ إلَى مَكَانٍ فَارَقَتْ الْأَوَّلَ بِالْكُلِّيَّةِ وَحَرَكَتِهَا إلَى الْعُلُوِّ حَرَكَةَ انْتِقَالٍ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ وَحَرَكَةُ الرَّوْحِ بِعُرُوجِهَا وَسُجُودِهَا لَيْسَ كَذَلِكَ . فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ إذَا وَصَفَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ وَأَنَّهُ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إلَى الْحُجَّاجِ " وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى فِي الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَأَنَّهُ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ : لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مِنْ جِنْسِ مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ الْمَشْهُودَةِ حَتَّى يُقَالَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَفْرِيغَ مَكَانٍ وَشَغْلَ آخَرَ . فَإِنَّ نُزُولَ الرُّوحِ وَصُعُودَهَا لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ صُعُودٌ وَنُزُولٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ مَا أَثْبَتّه اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَلَا يَجُوزُ تَمْثِيلُ ذَلِكَ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا سِيَّمَا مَا لَا نُشَاهِدُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّ مَا ثَبَتَ لِمَا لَا نُشَاهِدُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لَيْسَ مُمَاثِلًا لِمَا نُشَاهِدُهُ مِنْهَا فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ مُمَاثَلَةِ مَخْلُوقٍ لِمَخْلُوقِ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمَخْلُوقِ الَّذِي لَا يُمَاثِلُهُ مِنْ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَهَذَا الَّذِي نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِمَّا يَظْهَرُ بِهِ أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ صَاحِبُ " الْمُحَصِّلِ " وَأَمْثَالُهُ مِنْ تَقْسِيمِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى رَأْيِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ كُلُّهُ تَقْسِيمٌ غَيْرُ حَاصِرٍ وَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مُقَصِّرٌ عَنْ سَلَفِهِ . أَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَلَمْ يَسْلُكُوا مِنْ التَّقْسِيمِ الْمَسْلَكَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ أَتْبَاعُ أَرِسْطُو لَمْ يَسْلُكُوا مَسْلَكَ الْفَلَاسِفَةِ الْأَسَاطِينِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا يَقُولُونَ بِحُدُوثِ هَذَا الْعَالَمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ فَوْقَ هَذَا الْعَالَمِ عَالَمًا آخَرَ يَصِفُونَهُ بِبَعْضِ مَا وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ الْجَنَّةَ وَكَانُوا يُثْبِتُونَ مَعَادَ الْأَبْدَانِ كَمَا يُوجَدُ هَذَا فِي كَلَامِ سُقْرَاطَ وتاليس وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَرِسْطُو .