مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ قَالَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ : مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ - { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ وَقَالَ : اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ } فَقَدْ دَعَا لَهُ بِعِلْمِ التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا وَابْنُ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ قَالَ مُجَاهِدٌ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا وَكَانَ يَقُولُ : أَنَا مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ . وَأَيْضًا فَالنُّقُولُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ فَلَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْقَصَصِ وَمِنْ الْكَلَامِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْأَحْكَامِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي جَمِيعِ مَعَانِي الْقُرْآنِ . وَأَيْضًا قَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَا مِنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِي مَاذَا أُنْزِلَتْ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ يُعْلَمُ تَأْوِيلُهَا وَهِيَ نَحْوُ خَمْسمِائَةِ آيَةٍ وَسَائِرُ الْقُرْآنِ خَبَرٌ عَنْ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَوْ عَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَوْ عَنْ الْقَصَصِ وَعَاقِبَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَعَاقِبَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ فَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُتَشَابِهَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ فَجُمْهُورُ الْقُرْآنِ لَا يَعْرِف أَحَدَ مَعْنَاهُ لَا الرَّسُولُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةٌ . وَأَيْضًا فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلْمَ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا أَصْعَبُ مِنْ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ الَّذِي يُخْبَرُ بِهِ فَإِنَّ دِلَالَةَ الرُّؤْيَا عَلَى تَأْوِيلِهَا دِلَالَةٌ خَفِيَّةٌ غَامِضَةٌ لَا يَهْتَدِي لَهَا جُمْهُورُ النَّاسِ ; بِخِلَافِ دِلَالَةِ لَفْظِ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهُ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلَّمَ عِبَادَهُ تَأْوِيلَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرَوْنَهَا فِي الْمَنَامِ فَلِأَنْ يُعَلِّمَهُمْ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ الَّذِي يُنَزِّلُهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى قَالَ يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } وَقَالَ يُوسُفُ : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } وَقَالَ : { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } . وَأَيْضًا فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } وَقَالَ : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ } { حَتَّى إذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وَهَذَا ذَمٌّ لِمَنْ كَذَّبَ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِعِلْمِهِ . فَمَا قَالَهُ النَّاسُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَدِّقَ بِقَوْلٍ دُونَ قَوْلٍ بِلَا عِلْمٍ وَلَا يُكَذِّبَ بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَّا أَنْ يُحِيطَ بِعِلْمِهِ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ إلَّا إذَا عَرَفَ الْحَقَّ الَّذِي أُرِيدَ بِالْآيَةِ فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ فَيُكَذِّبَ بِالْبَاطِلِ الَّذِي أَحَاطَ بِعِلْمِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا وَلَمْ يُحِطْ بِشَيْءٍ مِنْهَا عِلْمًا . فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْذِيبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا مَعَ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُتَنَاقِضَةَ بَعْضُهَا بَاطِلٌ قَطْعًا وَيَكُونُ حِينَئِذٍ الْمُكَذِّبُ بِالْقُرْآنِ كَالْمُكَذِّبِ بِالْأَقْوَالِ الْمُتَنَاقِضَةِ وَالْمُكَذِّبُ بِالْحَقِّ كَالْمُكَذِّبِ بِالْبَاطِلِ وَفَسَادُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إنْ بُنِيَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَعَانِيَ الْآيَاتِ الْخَبَرِيَّةِ إلَّا اللَّهُ لَزِمَهُ أَنْ يُكَذِّبَ كُلَّ مَنْ احْتَجَّ بِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ خَبَرِيَّةٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ قَالَ : الْمُتَشَابِهُ هُوَ بَعْضُ الْخَبَرِيَّاتِ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ فَصْلًا يَتَبَيَّنُ بِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ مَعْنَاهُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ لَا مَلِكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا غَيْرُهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا ذِكْرُ حَدٍّ فَاصِلٍ بَيْنَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ بَعْضُ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مَعْنَاهُ أَحَدٌ . وَلَوْ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ انْتَقَضَ عَلَيْهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَيْسَ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَحَدًا مَعْرِفَةُ مَعْنَاهُ وَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ } { أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا } ذَمٌّ لَهُمْ عَلَى عَدَمِ الْإِحَاطَةِ مَعَ التَّكْذِيبِ وَلَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي عَدَمِ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِ الْمُتَشَابِهِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَمِّهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ فَائِدَةٌ وَلَكَانَ الذَّمُّ عَلَى مُجَرَّدِ التَّكْذِيبِ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِمَا لَمْ تُحِيطُوا بِهِ عِلْمًا وَلَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمًا إلَّا اللَّهُ ؟ وَمَنْ كَذَّبَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْعُذْرِ مِنْ أَنْ يُكَذِّبَ بِمَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ فَلَوْ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا الرَّاسِخُونَ كَانَ تَرْكُ هَذَا الْوَصْفِ أَقْوَى فِي ذَمِّهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ . وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِوَجْهٍ آخَرَ هُوَ دَلِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ : وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الزَّائِغِينَ بِالْجَهْلِ وَسُوءِ الْقَصْدِ فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْمُتَشَابِهَ يَبْتَغُونَ تَأْوِيلَهُ وَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ وَهُمْ يَقْصِدُونَ الْفِتْنَةَ لَا يَقْصِدُونَ الْعِلْمَ وَالْحَقَّ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } فَإِنَّ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ ( لَأَسْمَعَهُمْ فَهْمُ الْقُرْآنِ ) . يَقُولُ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ حُسْنَ قَصْدٍ وَقَبُولًا لِلْحَقِّ لَأَفْهَمَهُمْ الْقُرْآنَ لَكِنْ لَوْ أَفْهَمَهُمْ لَتَوَلَّوْا عَنْ الْإِيمَانِ وَقَبُولِ الْحَقِّ لِسُوءِ قَصْدِهِمْ فَهُمْ جَاهِلُونَ ظَالِمُونَ كَذَلِكَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هُمْ مَذْمُومُونَ بِسُوءِ الْقَصْدِ مَعَ طَلَبِ عِلْمِ مَا لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ وَلَيْسَ إذَا عِيبَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْعِلْمِ وَمَنَعُوهُ يُعَابُ مَنْ حَسُنَ قَصْدُهُ وَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ . فَإِنْ قِيلَ : فَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَرْوِي هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبي بْنُ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُرْوَةَ وقتادة وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَثَعْلَبٍ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ : إنْ تَأْوِيلُهُ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَفِي قِرَاءَةِ أبي وَابْنِ عَبَّاسٍ : وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قَالَ : وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَشْيَاءَ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } فَأَنْزَلَ الْمُحْكَمَ لِيُؤْمِنَ بِهِ الْمُؤْمِنُ فَيَسْعَدَ وَيَكْفُرَ بِهِ الْكَافِرُ فَيَشْقَى قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَاَلَّذِي رَوَى الْقَوْلَ الْآخَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَلَا تَصِحُّ رِوَايَتُهُ التَّفْسِيرَ عَنْ مُجَاهِدٍ . فَيُقَالُ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ عَلَى هَذَا قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ وَعَنْ ابْن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ " كَانَ رُسُوخُهُمْ فِي الْعِلْمِ أَنْ آمَنُوا بِمُحْكَمِهِ وَبِمُتَشَابِهِهِ وَلَا يَعْلَمُونَهُ " فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِي هَذَا وَلَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ الْقَاسِمِ بَلْ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ كَمَا تَقَدَّمَ حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِمْ وَمَا ذُكِرَ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ يُعْرَفُ حَتَّى يَحْتَجَّ بِهَا وَالْمَعْرُوفُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِي مَاذَا أُنْزِلَتْ وَمَاذَا عُنِيَ بِهَا . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ : عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ النَّاسُ عَنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَلَهُ إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ قِرَاءَتِهِمَا وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ عُرِفَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : أَنَا مِنْ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَعَا لَهُ بِعِلْمِ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ التَّأْوِيلَ مَعَ أَنَّ قِرَاءَةَ عَبْدِ اللَّهِ إنْ تَأْوِيلُهُ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ لَا تُنَاقِضُ هَذَا الْقَوْلَ فَإِنَّ نَفْسَ التَّأْوِيلِ لَا يَأْتِي بِهِ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } وَقَالَ : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } . وَقَدْ اشْتَهَرَ عَنْ عَامَّةِ السَّلَفِ أَنَّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ هُوَ مَجِيءُ الْمَوْعُودِ بِهِ وَذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَأْتِي بِهِ إلَّا هُوَ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ : إنْ عِلْمُ تَأْوِيلِهِ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي السَّاعَةِ : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى : { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى } { قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى } . فَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَقْتَضِي نَفْيَ الْعِلْمِ عَنْ الرَّاسِخِينَ لَكَانَتْ : إنْ عِلْمُ تَأْوِيلِهِ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ لَمْ يُقْرَأْ إنْ تَأْوِيلُهُ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى الْمَرْوِيَّةُ عَنْ أبي وَابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُنَاقِضُهُ وَأَخَصُّ أَصْحَابِهِ بِالتَّفْسِيرِ مُجَاهَدٌ وَعَلَى تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ يَعْتَمِدُ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ كَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ . قَالَ الثَّوْرِيُّ إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ . وَالشَّافِعِيُّ فِي كُتُبِهِ أَكْثَر الَّذِي يَنْقُلُهُ عَنْ ابْنِ عيينة عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ يَعْتَمِدُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ لَا تَصِحُّ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ جَوَابُهُ : أَنَّ تَفْسِيرَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ أَصَحِّ التَّفَاسِيرِ بَلْ لَيْسَ بِأَيْدِي أَهْلِ التَّفْسِيرِ كِتَابٌ فِي التَّفْسِيرِ أَصَحَّ مِنْ تَفْسِيرِ ابْن أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَظِيرَهُ فِي الصِّحَّةِ ثُمَّ مَعَهُ مَا يُصَدِّقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا . وَأَيْضًا فأبي بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ عُرِفَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُفَسِّرُ مَا تَشَابَهَ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ : { فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا } وَفَسَّرَ قَوْلَهُ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَقَوْلَهُ : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } وَغَيْرَ ذَلِكَ وَنَقْلُ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ أَثْبَتُ مِنْ نَقْلِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ لَهَا إسْنَادٌ وَقَدْ كَانَ يُسْأَلُ عَنْ الْمُتَشَابِهِ مِنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ فَيُجِيبُ عَنْهُ كَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ وَسُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْمُجْمَلَ لِيُؤْمِنَ بِهِ الْمُؤْمِنُ . فَيُقَالُ هَذَا حَقٌّ لَكِنْ هَلْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ إنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ وَالصَّحَابَةَ لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْمُجْمَلَ ؟ أَمْ الْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُجْمَلَ فِي الْقُرْآنِ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَيُعْرَفُ مَا فِيهِ مِنْ الْإِجْمَالِ كَمَا مُثِّلَ بِهِ مِنْ وَقْتِ السَّاعَةِ فَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مَعْنَى الْكَلَامِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه بِهِ عَنْ السَّاعَةِ وَأَنَّهَا آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ اللَّهَ انْفَرَدَ بِعِلْمِ وَقْتِهَا فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَى ذَلِكَ أَحَدًا وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ : أَعْرَابِيٌّ لَا يَعْرِفُ قَالَ لَهُ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ } وَلَمْ يَقُلْ : إنَّ الْكَلَامَ الَّذِي نَزَلَ فِي ذِكْرِهَا لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ بَلْ هَذَا خِلَافٌ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَالْعُقَلَاءِ ; فَإِنَّ إخْبَارَ اللَّهِ عَنْ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا كَلَامٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } قَدْ عُلِمَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْخِطَابِ وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُرُونًا كَثِيرَةً لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ أَحَدٌ لَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا الصَّحَابَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ . وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ عُرْوَةَ فَعُرْوَةُ قَدْ عُرِفَ مِنْ طَرِيقِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُفَسِّرُ عَامَّةَ آيِ الْقُرْآنِ إلَّا آيَاتٌ قَلِيلَةٌ رَوَاهَا عَنْ عَائِشَةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ عُرْوَةُ التَّفْسِيرَ لَمْ يَلْزَمْ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ ; كَابْنِ مَسْعُودٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ . وَأَمَّا اللُّغَوِيُّونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنْ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ فَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ وَيَتَوَسَّعُونَ فِي الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهَا وَهِيَ خَطَأٌ . وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الَّذِي بَالَغَ فِي نَصْرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ هُوَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ كَلَامًا فِي مَعَانِي الْآيِ الْمُتَشَابِهَاتِ يَذْكُرُ فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ مَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَيَحْتَجُّ لِمَا يَقُولُهُ فِي الْقُرْآنِ بِالشَّاذِّ مِنْ اللُّغَةِ وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ الْإِنْكَارُ عَلَى ابْنِ قُتَيْبَةَ وَلَيْسَ هُوَ أَعْلَمَ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَأَتْبَعَ لِلسُّنَّةِ مِنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَلَا أَفْقَهَ فِي ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ لِلُّغَةِ ; لَكِنَّ بَابَ فِقْهِ النُّصُوصِ غَيْرُ بَابِ حِفْظِ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ . وَقَدْ نَقَمَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَى ابْنِ قُتَيْبَةَ كَوْنَهُ رَدَّ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ أَشْيَاءَ مِنْ تَفْسِيرِهِ غَرِيبَ الْحَدِيثِ وَابْنُ قُتَيْبَةَ قَدْ اعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ وَسَلَكَ فِي ذَلِكَ مَسْلَكَ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ وَأَمْثَالُهُ يُصِيبُونَ تَارَةً وَيُخْطِئُونَ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ الْمُتَشَابِهُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ فَهُمْ كُلُّهُمْ يَجْتَرِئُونَ عَلَى اللَّهِ يَتَكَلَّمُونَ فِي شَيْءٍ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَإِنْ كَانَ مَا بَيَّنُوهُ مِنْ مَعَانِي الْمُتَشَابِهِ قَدْ أَصَابُوا فِيهِ - وَلَوْ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ - ظَهَرَ خَطَؤُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ فَلْيَخْتَرْ مَنْ يَنْصُرُ قَوْلَهُمْ هَذَا أَوْ هَذَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ أَصَابُوا فِي شَيْءٍ كَثِيرٍ مِمَّا يُفَسِّرُونَ بِهِ الْمُتَشَابِهَ وَأَخْطَئُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَيَكُونُ تَفْسِيرُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ مِمَّا أَخْطَئُوا فِيهِ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ فَإِنَّهُمْ أَصَابُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُتَشَابِهِ وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ قتادة مِنْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَكِتَابُهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ أَشْهَرِ الْكُتُبِ وَنَقْلُهُ ثَابِتٌ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْهُ وَرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْهُ وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ فِي التَّفْسِيرِ عَامَّتُهُمْ يَذْكُرُونَ قَوْلَهُ لِصِحَّةِ النَّقْلِ عَنْهُ وَمَعَ هَذَا يُفَسَّرُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمُهُ وَمُتَشَابِهُهُ . وَاَلَّذِي اقْتَضَى شُهْرَةَ الْقَوْلِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ ظُهُورُ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كالجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَصَارَ أُولَئِكَ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ وَهَذَا أَصْلٌ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْبِدَعِ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمْ الْعَقْلِيِّ وَتَأْوِيلِهِمْ اللُّغَوِيِّ فَتَفَاسِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ مَمْلُوءَةٌ بِتَأْوِيلِ النُّصُوصِ الْمُثْبِتَةِ لِلصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ عَلَى غَيْرِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَإِنْكَارُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ هُوَ لِهَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مَا كَتَبَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ والجهمية فِيمَا شُكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ التَّأْوِيلِ . فَجَاءَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ انْتَسَبُوا إلَى السُّنَّةِ بِغَيْرِ خِبْرَةٍ تَامَّةٍ بِهَا وَبِمَا يُخَالِفُهَا ظَنُّوا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ فَظَنُّوا أَنَّ مَعْنَى التَّأْوِيلِ هُوَ مَعْنَاهُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الْمَرْجُوحِ فَصَارُوا فِي مَوْضِعٍ يَقُولُونَ وَيَنْصُرُونَ إنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ يَتَنَاقَضُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ يَقُولُونَ النُّصُوصُ تَجْرِي عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى الْمَعْنَى الظَّاهِرِ مِنْهَا وَلِهَذَا يُبْطِلُونَ كُلَّ تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَيُقِرُّونَ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ وَيَقُولُونَ مَعَ هَذَا إنَّ لَهُ تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَالتَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ مَا يُنَاقِضُ الظَّاهِرَ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَقَدْ قَرَّرَ مَعْنَاهُ الظَّاهِرَ وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مُنَاظِرُوهُمْ حَتَّى أَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ عَلَى شَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَمِنْهَا أَنَّا وَجْدُنَا هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ لَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِنَصٍّ يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ لَا فِي مَسْأَلَةٍ أَصْلِيَّةٍ وَلَا فَرْعِيَّةٍ إلَّا تَأَوَّلُوا ذَلِكَ النَّصَّ بِتَأْوِيلَاتٍ مُتَكَلَّفَةٍ مُسْتَخْرَجَةٍ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلَاتِ الجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ لِلنُّصُوصِ الَّتِي تُخَالِفُهُمْ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ : لَا يَعْلَمُ مَعَانِيَ النُّصُوصِ الْمُتَشَابِهَةِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَاعْتُبِرَ هَذَا بِمَا تَجِدُهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ مُنَاظَرَتِهِمْ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنِ وَالْقَدَرِ إذَا احْتَجَّتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي تُنَاقِضُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مِثْلُ أَنْ يَحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ } وَنَحْوَ ذَلِكَ كَيْفَ تَجِدُهُمْ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ النُّصُوصَ بِتَأْوِيلَاتٍ غَالِبُهَا فَاسِدٌ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا حَقٌّ فَإِنْ كَانَ مَا تَأَوَّلُوهُ حَقًّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُمْ . وَهَذَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ الصَّابِرُ فِي الْمِحْنَةِ الَّذِي قَدْ صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِعْيَارًا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ لَمَّا صَنَّفَ كِتَابَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ والجهمية " فِيمَا شُكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ تَكَلَّمَ عَلَى مَعَانِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اتَّبَعَهُ الزَّائِغُونَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ آيَةً آيَةً وَبَيَّنَ مَعْنَاهَا وَفَسَّرَهَا لِيُبَيِّنَ فَسَادَ تَأْوِيلِ الزَّائِغِينَ وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرَى وَأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ ; بِالْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ وَرَدَّ مَا احْتَجَّ بِهِ النفاة مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ وَبَيَّنَ مَعَانِيَ الْآيَاتِ الَّتِي سَمَّاهَا هُوَ مُتَشَابِهَةً وَفَسَّرَهَا آيَةً آيَةً وَكَذَلِكَ لَمَّا نَاظَرُوهُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالنُّصُوصِ جَعَلَ يُفَسِّرُهَا آيَةً آيَةً وَحَدِيثًا حَدِيثًا وَيُبَيِّنُ فَسَادَ مَا تَأَوَّلَهَا عَلَيْهِ الزَّائِغُونَ وَيُبَيِّنُ هُوَ مَعْنَاهَا وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَد إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثُ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهَا إلَّا اللَّهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ لَهُ ذَلِكَ بَلْ الطَّوَائِفُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةٌ عَلَى إمْكَانِ مَعْرِفَةِ مَعْنَاهَا لَكِنْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْمُرَادِ كَمَا يَتَنَازَعُونَ فِي آيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَكَذَلِكَ كَانَ أَحْمَد يُفَسِّرُ الْمُتَشَابِهَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الزَّائِغُونَ مِنْ الْخَوَارِجِ وَغَيْرُهُمْ كَقَوْلِهِ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الشَّارِبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَيُبْطِلُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ والجهمية وَقَوْلَ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَكُلُّ هَذِهِ الطَّوَائِفِ تَحْتَجُّ بِنُصُوصِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى قَوْلِهَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ لَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ لِمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ هُوَ أَوْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَيْهِ مُنَازِعُهُ : هَذِهِ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا أَحَدٌ مِنْ الْبَشَرِ فَأَمْسَكُوا عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا . وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد يُنْكِرُ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ بَلَّغَهُمْ الصَّحَابَةُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَلَّغُوهُمْ أَلْفَاظَهُ وَنَقَلُوا هَذَا كَمَا نَقَلُوا هَذَا لَكِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ يَتَأَوَّلُونَ النُّصُوصَ بِتَأْوِيلَاتِ تُخَالِفُ مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ وَهُمْ مُبْطِلُونَ فِي ذَلِكَ لَا سِيَّمَا تَأْوِيلَاتُ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ مِنْ الجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ أَنْ يَقُولُوا : ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ مُرَادٍ وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ كَذَا وَأَنْ يُرَادَ كَذَا وَلَوْ تَأَوَّلَهَا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِتَأْوِيلٍ مُعَيَّنٍ فَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ كَالتَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ كَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي قَوْلِهِ : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } وَيَنْزِلُ رَبُّنَا و { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } و { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ فَإِنَّ غَايَةَ مَا عِنْدَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كَذَا وَيَجُوزُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا عِلْمًا بِالتَّأْوِيلِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ ذَكَرَ فِي نَصٍّ أَقْوَالًا وَاحْتِمَالَاتٍ وَلَمْ يَعْرِفْ الْمُرَادَ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ تَفْسِيرَ ذَلِكَ وَتَأْوِيلَهُ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ عَرَفَ الْمُرَادَ .