تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُسْتَوْجِبِ لِصِفَاتِ الْمَدْحِ وَالْكَمَالِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْحَمْدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا يُحْصِي أَحَدٌ ثَنَاءً عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ بِأَكْمَلِ الثَّنَاءِ وَأَحْسَنِ الْمَقَالِ فَهُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى الْعِبَادِ بِالْخَلْقِ وَبِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ وَبِهِدَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ . وَهُوَ الْمُتَفَضِّلُ عَلَيْهِمْ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَبِالثَّوَابِ الدَّائِمِ بِلَا انْقِطَاعٍ وَلَا زَوَالٍ . لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مُتَّصِلًا بِلَا انْفِصَالٍ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ; عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المتعال . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي هَدَى بِهِ مِنْ الضَّلَالِ وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ ; وَأَحَلَّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَوَضَعَ عَنْهُمْ الْآصَارَ وَالْأَغْلَالَ فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ خَيْرَ آلٍ وَعَلَى أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا نُصْرَةً لِلدِّينِ حَتَّى ظَهَرَ الْحَقُّ وَانْطَمَسَتْ أَعْلَامُ الضَّلَالِ . ( أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ لِمَا شَاءَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مَا لَا يُحْصُونَهُ مِنْ نِعْمَتِهِ وَكَرَّمَ بَنِي آدَمَ بِأَصْنَافِ كَرَامَتِهِ وَخَصَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِاصْطِفَائِهِ وَهِدَايَتِهِ وَجَعَلَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ مِنْ بَرِيَّتِهِ . وَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَجَمِيلَ سِيرَتِهِ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ لِيُخْرِجَهُمْ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ وَحَيْرَتِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَتِهِ . وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ أَفْضَلَ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ إلَى خَلِيقَتِهِ وَجَعَلَهُ آيَةً بَاقِيَةً إلَى قِيَامِ سَاعَتِهِ مُعْجِزَةً بَاهِرَةً مُبْدِيَةً عَنْ حُجَّتِهِ وَبَيِّنَتِهِ ظَاهِرَةً مُوَضِّحَةً لِدَعْوَتِهِ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَدُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقِ جَنَّتِهِ فَالسَّعِيدُ مَنْ اعْتَصَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَاتَّبَعَ الرَّسُولَ فِي سُنَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ . وَالْمُهْتَدِي بِمَنَارِهِ الْمُقْتَفِي لِآثَارِهِ هُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ وَالْمُحْيِي لِشَيْءِ مِنْ سُنَّتِهِ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ فِي أَجْرِ طَاعَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ; بَلْ يُضَاعِفُ الْحَسَنَاتِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ . وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا مِنْ الْبِرِّ لِسِعَةِ فَضْلِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَيَكُونُ بِالتَّبْلِيغِ لَهَا وَالْبَيَانِ لِأَجْلِ ظُهُورِ الْحَقِّ وَنُصْرَتِهِ وَيَكُونُ بِالْإِعَانَةِ عَلَيْهَا بِإِنْفَاقِ الْمَالِ وَالْجِهَادِ إعَانَةً عَلَى دِينِ اللَّهِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ فَالْجِهَادُ بِالْمَالِ مَقْرُونٌ بِالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَهُ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لِعِظَمِ مَنْزِلَتِهِ وَثَمَرَتِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا } " وَقَالَ : " { مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } " وَمَثُوبَتِهِ ; لَا سِيَّمَا مَا يَبْقَى نَفْعُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْإِنْسَانِ وَمَصِيرِهِ إلَى تُرْبَتِهِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ : " { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ } " فَهَذِهِ الثَّلَاثُ هِيَ مِنْ أَعْمَالِهِ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ مِيتَتِهِ بِخِلَافِ مَا يَنْفَعُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ أَعْمَالِ غَيْرِهِ مِنْ الدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ بَلْ مِنْ سَعْيِ غَيْرِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَكَمَا يَلْحَقُ بِالْمُؤْمِنِ مَنْ يُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ . وَأَصْلُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ هُوَ إخْلَاصُ الْعَبْدِ لِلَّهِ فِي نِيَّتِهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَخَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَهِيَ دَعْوَةُ الرُّسُلِ لِكَافَّةِ بَرِيَّتِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ بِأَوْضَحِ دَلَالَتِهِ ; وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَفْتَتِحُوا مَجَالِسَهُمْ وَكُتُبَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ : " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } " فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَبِدَايَتِهِ . فَنَجْرِي فِي ذَلِكَ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ إذْ كَانُوا أَفْضَلَ جَيْشِ الْإِسْلَامِ وَمُقَدِّمَتَهُ فَنَقُولُ مُسْتَعِينِينَ بِاَللَّهِ عَلَى سُلُوكِ سَبِيلِ أَهْلِ وِلَايَتِهِ وَأَحِبَّتِهِ : " عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ ; عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التيمي ; عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ الليثي ; عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ; وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ; فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } " . هذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ ; تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ ; فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا جَمَعَهَا ابْنُ منده وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ فَأَهْلُ الْحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ إلَّا عَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ الليثي ; وَلَا عَنْ عَلْقَمَةَ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ; وَلَا عَنْ مُحَمَّدٍ إلَّا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَاضِي الْمَدِينَةِ . وَرَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ يُقَالُ : إنَّهُ رَوَاهُ عَنْهُ نَحْوُ مِنْ مِائَتَيْ عَالِمٍ مِثْلُ مَالِكٍ ; وَالثَّوْرِيّ ; وَابْنِ عيينة وَحَمَّادٍ وَحَمَّادٍ ; وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ ; وَأَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ ; وَزَائِدَةَ ; وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ ; وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ ; وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا مِنْ شُيُوخِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَطَبَقَتِهِمْ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيّ وَأَبِي عُبَيْدٍ . وَلِهَذَا الْحَدِيثِ نَظَائِرُ مِنْ غَرَائِبِ الصِّحَاحِ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ; عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ } أَخْرَجَاهُ ; تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَمِثْلُ حَدِيثِ أَنَسٍ : " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَقِيلَ : إنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ } أَخْرَجَاهُ تَفَرَّدَ بِهِ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَقِيلَ : تَفَرَّدَ بِهِ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَالْحَدِيثُ الْغَرِيبُ : مَا تَفَرَّدَ بِهِ وَاحِدٌ وَقَدْ يَكُونُ غَرِيبَ الْمَتْنِ أَوْ غَرِيبَ الْإِسْنَادِ وَمِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَتْنُهُ صَحِيحًا مِنْ طَرِيقٍ مَعْرُوفَةٍ وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى غَرِيبَةٍ . وَمِنْ الْغَرَائِبِ مَا هُوَ صَحِيحٌ وَغَالِبُهَا غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا قَالَ أَحْمَد : اتَّقُوا هَذِهِ الْغَرَائِبَ فَإِنَّ عَامَّتَهَا عَنْ الْكَذَّابِينَ ; وَلِهَذَا يَقُولُ التِّرْمِذِيُّ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : إنَّهُ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . والترمذي أَوَّلُ مَنْ قَسَّمَ الْأَحَادِيثَ إلَى صَحِيحٍ وَحَسَنٍ وَغَرِيبٍ وَضَعِيفٍ وَلَمْ يُعْرَفْ قَبْلَهُ هَذَا التَّقْسِيمُ عَنْ أَحَدٍ لَكِنْ كَانُوا يُقَسِّمُونَ الْأَحَادِيثَ إلَى صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ كَمَا يُقَسِّمُونَ الرِّجَالَ إلَى ضَعِيفٍ وَغَيْرِ ضَعِيفٍ وَالضَّعِيفُ عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ : ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَهُوَ الضَّعِيفُ فِي اصْطِلَاحِ التِّرْمِذِيِّ وَالثَّانِي ضَعِيفٌ يُحْتَجُّ بِهِ وَهُوَ الْحَسَنُ فِي اصْطِلَاحِ التِّرْمِذِيِّ كَمَا أَنَّ ضَعْفَ الْمَرَضِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَجْعَلُ تَبَرُّعَاتِ صَاحِبِهِ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا إذَا صَارَ صَاحِبَ فَرَاشٍ وَنَوْعٌ يَكُونُ تَبَرُّعَاتُ صَاحِبِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَالْمَرَضِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يَقْطَعُ صَاحِبَهُ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ ; كَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَإِبْرَاهِيمَ الْهِجْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا ; فَإِنَّ ذَلِكَ الَّذِي سَمَّاهُ أُولَئِكَ ضَعِيفًا هُوَ أَرْفَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْحَسَنِ ; بَلْ هُوَ مِمَّا يَجْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ صَحِيحًا والترمذي قَدْ فَسَّرَ مُرَادَهُ بِالْحَسَنِ أَنَّهُ : مَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُتَّهَمٌ ; وَلَمْ يَكُنْ شَاذًّا . فَصْلٌ : وَالْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ بَلْ هُوَ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ وَلِهَذَا قَالُوا : مَدَارُ الْإِسْلَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ فَذَكَرُوهُ مِنْهَا كَقَوْلِ أَحْمَد حَدِيثَ : " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } " وَ " { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } " " { وَالْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ } " وَوَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الدِّينَ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى عَنْهُ . فَحَدِيثُ الْحَلَالِ بَيِّنٌ فِيهِ بَيَانُ مَا نَهَى عَنْهُ . وَاَلَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا الْعَمَلُ الظَّاهِرُ وَهُوَ مَا كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَالثَّانِي الْعَمَلُ الْبَاطِنُ وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ . فَقَوْلُهُ : " { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا } " إلَخْ يَنْفِي التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ بِغَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ . وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } إلَخْ يُبَيِّنُ الْعَمَلَ الْبَاطِنَ وَأَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِخْلَاصِ فِي الدِّينِ لِلَّهِ ; كَمَا قَالَ الفضيل فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالَ : فَإِنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَعَلَى هَذَا دَلَّ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَأَنْ لَا يُشْرِكَ الْعَبْدُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ; وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } فَإِنَّ إسْلَامَ الْوَجْهِ لِلَّهِ يَتَضَمَّنُ إخْلَاصَ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالْإِحْسَانُ هُوَ إحْسَانُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَهُوَ فِعْلُ مَا أَمَرَ بِهِ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا } فَإِنَّ الْإِسَاءَةَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِهَانَةَ بِالْأَمْرِ بِهِ وَالِاسْتِهَانَةَ بِنَفْسِ الْعَمَلِ وَالِاسْتِهَانَةَ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ مِنْ الثَّوَابِ فَإِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ دِينَهُ لِلَّهِ وَأَحْسَنَ الْعَمَلَ لَهُ كَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَكَانَ مِنْ الَّذِينَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .