مسألة تاليةمسألة سابقة
				
				
				
				متن:
				 فَهَذِهِ أَلْفَاظُ الْمُجِيبِ . فَلْيَتَدَبَّرْ الْإِنْسَانُ مَا تَضَمَّنَتْهُ وَمَا عَارَضَ  بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُعَارِضُونَ مِمَّا نَقَلُوهُ عَنْ الْجَوَابِ وَمَا ادَّعَوْا  أَنَّهُ بَاطِلٌ : هَلْ هُمْ صَادِقُونَ مُصِيبُونَ  فِي  هَذَا ؟ أَوْ  هَذَا ؟ أَوْ هُمْ بِالْعَكْسِ ؟ وَالْمُجِيبُ  أَجَابَ بِهَذَا  مِنْ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً : بِحَسَبِ  حَالِ  هَذَا  السَّائِلِ وَاسْتِرْشَادِهِ وَلَمْ يَبْسُطْ الْقَوْلَ  فِيهَا وَلَا سَمَّى كُلَّ مَنْ  قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَمَنْ  قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِحَسَبِ مَا تَيَسَّرَ  فِي  هَذَا الْوَقْتِ .  وَإِلَّا  فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَوْجُودَانِ  فِي كَثِيرٍ  مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ  فِي مَذْهَبِ  مَالِكٍ  وَالشَّافِعِيِّ  وَأَحْمَد  وَفِي شُرُوحِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِ  ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ  السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ   -  وَإِنْ  كَانَ قَبْرَ نَبِيِّنَا   مُحَمَّدٍ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  - هُوَ قَوْلُ  مَالِكٍ  وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ  وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ  أَحْمَد  . الْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مَعْنَاهُ بِتَحْرِيمِ السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ  لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : قَبْرُ نَبِيِّنَا لَمْ يَدْخُلْ  فِي الْعُمُومِ .  ثُمَّ لِهَذَا الْقَوْلِ مَأْخَذَانِ .  أَحَدُهُمَا :  أَنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ سَفَرٌ إلَى مَسْجِدِهِ .  وَهَذَا الْمَأْخَذُ هُوَ الصَّحِيحُ . وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ  مَالِكٍ  وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ . وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي :  أَنَّ نَبِيَّنَا لَا يُشَبَّهُ بِغَيْرِهِ  مِنْ الْمُؤْمِنِينَ  كَمَا  قَالَ طَائِفَةٌ  مِنْ أَصْحَابِ  أَحْمَد  :  أَنَّهُ يُحْلَفُ  بِهِ  وَإِنْ  كَانَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ  أَحْمَد  .  وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ  قَالَ  فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ : حُكْمُ  سَائِرِ  الْأَنْبِيَاءِ كَحُكْمِهِ :  قَالَهُ بَعْضُهُمْ  فِي الْحَلِفِ بِهِمْ  وَقَالَهُ بَعْضُهُمْ  فِي زِيَارَةِ قُبُورِهِمْ .  وَكَذَلِكَ  أَبُو مُحَمَّدٍ الجويني  وَمَنْ  وَافَقَهُ  مِنْ أَصْحَابِ  الشَّافِعِيِّ  عَلَى  أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ .  وَآخَرُونَ  مِنْ أَصْحَابِ  الشَّافِعِيِّ  وَمَالِكٍ  وَأَحْمَد  قَالُوا : الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَنَفْيُ الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ ; لَا نَفْيُ الْجَوَازِ .  وَهَذَا قَوْلُ الشَّيْخِ  أَبِي حَامِدٍ  وَأَبِي  عَلِيٍّ  وَأَبِي الْمَعَالِي  وَالْغَزَالِيِّ  وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ قَوْلُ  ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ  وَأَبِي مُحَمَّدٍ  المقدسي  وَمَنْ وَافَقَهُمَا  مِنْ أَصْحَابِ  مَالِكٍ  وَأَحْمَد  .  فَهَذَانِ هُمَا الْقَوْلَانِ الْمَوْجُودَانِ  فِي كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ :  ذَكَرَهُمَا الْمُجِيبُ وَلَمْ يَعْرِفْ  أَحَدًا مَعْرُوفًا  مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ  فِي الْكُتُبِ  قَالَ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ  السَّفَرُ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ  الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ  . وَلَوْ عَلِمَ  أَنَّ  فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلًا ثَالِثًا  لَحَكَاهُ ;  لَكِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ  ذَلِكَ وَإِلَى الْآنَ لَمْ يَعْرِفْ  أَنَّ  أَحَدًا  قَالَ  ذَلِكَ وَلَكِنْ  أَطْلَقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ الْقَوْلَ بِاسْتِحْبَابِ  زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ  عَلَى  ذَلِكَ  .  وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَذْكُرْ  فِيهِ الْمُجِيبُ نِزَاعًا  فِي الْجَوَابِ ;  فَإِنَّهُ  مِنْ الْمَعْلُومِ  أَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ  . فَالْمُسَافِرُ إلَى قَبْرِهِ لَا  بُدَّ إنْ  كَانَ عَالِمًا بِالشَّرِيعَةِ أَنْ يَقْصِدَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ  فَلَا يَدْخُلُ  ذَلِكَ  فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ ;  فَإِنَّ الْجَوَابَ إنَّمَا  كَانَ عَمَّنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِهِمْ وَالْعَالِمُ بِالشَّرِيعَةِ لَا يَقَعُ  فِي  هَذَا فَإِنَّهُ يَعْلَمُ  أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ اسْتَحَبَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ وَالصَّلَاةَ  فِيهِ وَهُوَ يُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِهِ .  فَكَيْفَ لَا يَقْصِدُ السَّفَرَ إلَيْهِ فَكُلُّ مَنْ عَلِمَ مَا يَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ  فَلَا  بُدَّ أَنْ يَقْصِدَهُ وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الْقَصْدُ مَعَ الْجَهْلِ . إمَّا مَعَ الْجَهْلِ بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ مُسْتَحَبٌّ كَوْنُهُ مَسْجِدَهُ لَا  لِأَجْلِ الْقَبْرِ وَإِمَّا مَعَ الْجَهْلِ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ إنَّمَا يَصِلُ إلَى مَسْجِدِهِ .  فَأَمَّا مَعَ الْعِلْمِ بِالْأَمْرَيْنِ  فَلَا  بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ . وَلِهَذَا  كَانَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ حُكْمٌ لَيْسَ  لِسَائِرِ الْقُبُورِ  مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ  كَمَا قَدْ بُسِطَ  فِي مَوَاضِعَ .  وَأَهْلُ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ يَجْعَلُونَ السَّفَرَ إلَى زِيَارَتِهِ  كَمَا هُوَ  الْمُعْتَادُ  لَهُمْ  مِنْ السَّفَرِ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ . يُسَافِرُونَ إلَيْهِ لِيَدْعُوهُ وَيَدْعُوا عِنْدَهُ وَيَدْخُلُوا إلَى قَبْرِهِ وَيَقْعُدُوا عِنْدَهُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ مَسْجِدٌ بُنِيَ  لِأَجْلِ الْقَبْرِ  فَيُصَلُّونَ  فِي  ذَلِكَ الْمَسْجِدِ تَعْظِيمًا لِصَاحِبِ الْقَبْرِ  وَهَذَا مِمَّا لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ   أَهْلَ الْكِتَابِ  عَلَى فِعْلِهِ  وَنَهَى  أُمَّتَهُ عَنْ فِعْلِهِ  فَقَالَ  فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : {   لَعَنَ اللَّهُ   الْيَهُودَ   وَالنَّصَارَى  اتَّخَذُوا قُبُورَ  أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ   }  وَهُوَ  فِي   الصَّحِيحَيْنِ  مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ  وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ :   {   إنَّ مَنْ  كَانَ قَبْلَكُمْ  كَانُوا  يَتَّخِذُونَ قُبُورَ  أَنْبِيَائِهِمْ  وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ  أَلَا  فَلَا  تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ  فَإِنِّي  أَنْهَاكُمْ عَنْ  ذَلِكَ   }  رَوَاهُ  مُسْلِمٌ  . فَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ  فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَمْ يَعْرِفْ  دِينَ الْإِسْلَامِ  فِي  هَذَا الْبَابِ .  وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ  عَلَى مَا  فِي  هَذَا الْمُصَنَّفِ الَّذِي صَنَّفَهُ  هَذَا الْمُعْتَرِضُ  عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ وَبَيَانُ مَا  فِيهِ  مِنْ الْجَهْلِ  وَالِافْتِرَاءِ .  فَمِنْهَا  أَنَّهُ  قَالَ  فِي الْجَوَابِ : إنَّهُ  ظَهَرَ  لِي  مِنْ صَرِيحِ  ذَلِكَ الْكَلَامِ وَفَحْوَاهُ وَمَقْصِدِهِ إلَيَّ وَمَغْزَاهُ : وَهُوَ تَحْرِيمُ  زِيَارَةِ قُبُورِ  الْأَنْبِيَاءِ  وَسَائِرِ الْقُبُورِ وَالسَّفَرِ إلَيْهَا  وَدَعْوَاهُ  أَنَّ  ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا . فَيُقَالُ : مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ رَأَى الْجَوَابَ  أَنَّهُ لَيْسَ  فِيهِ تَحْرِيمٌ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ ; لَا قُبُورِ  الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ ; إذَا لَمْ يَكُنْ بِسَفَرِ ; وَلَا  فِيهِ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ  عَلَى تَحْرِيمِ السَّفَرِ ; بَلْ قَدْ صَرَّحَ بِالْخِلَافِ  فِي  ذَلِكَ .  فَكَيْفَ يُحْكَى عَنْهُ  أَنَّهُ يَقُولُ : إنَّ نَفْسَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ مُطْلَقًا مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا  فَهَذَا  افْتِرَاءٌ ظَاهِرٌ  عَلَى الْجَوَابِ ;  ثُمَّ إنَّهُ تَنَاقَضَ  فِي  ذَلِكَ فَحَكَى بَعْدَ  هَذَا عَنْ الْمُجِيبِ  أَنَّهُ حَكَى الْخِلَافَ  فِي جَوَازِ السَّفَرِ . ثُمَّ  قَالَ  فِي آخِرِ  كَلَامِهِ : إنَّ مَا ادَّعَاهُ مُجْمَعٌ  عَلَى  أَنَّهُ حَرَامٌ  وَأَنَّهُ يُنَاقِضُ  فِي  ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي يُنَاقِضُ  فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ .  وَأَمَّا الْمُجِيبُ فَحَكَى قَوْلَهُمْ  فِي جَوَازِ السَّفَرِ  وَأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا  عَلَى  أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ وَلَا طَاعَةٍ .  فَمَنْ اعْتَقَدَ  ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَإِذَا  فَعَلَهُ لِاعْتِقَادِ  أَنَّهُ طَاعَةٌ  كَانَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ  فَصَارَ التَّحْرِيمُ  مِنْ جِهَةِ  اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً .  هَذَا لَفْظُ الْجَوَابِ .  وَمَعْلُومٌ  فِي كُلِّ عَمَلٍ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ  فِيهِ هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ مُبَاحٌ لَيْسَ بِقُرْبَةِ  أَنَّ مَنْ  جَعَلَهُ قُرْبَةً فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَإِذَا  فَعَلَهُ مُتَقَرِّبًا  بِهِ  كَانَ  ذَلِكَ حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ  كَمَا لَوْ   تَقَرَّبَ بِلَعِبِ النَّرْدِ وَالشَّطْرَنْجِ وَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ  وَإِتْيَانِ  النِّسَاءِ  فِي الْحُشُوشِ وَاسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْمَعَازِفِ  وَنَحْوِ  ذَلِكَ مِمَّا لِلنَّاسِ  فِيهِ قَوْلَانِ التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهَا قُرْبَةٌ .  فَاَلَّذِي يَجْعَلُهُ عِبَادَةً يَتَقَرَّبُ  بِهِ  كَمَا يَتَقَرَّبُ بِالْعِبَادَاتِ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ  .  وَهَذَا يُشْبِهُ التَّقَرُّبَ بِالْمَلَاهِي وَالْمَعَازِفِ ;  فَإِنَّ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ  عَلَى  أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَبَعْضُهُمْ  أَبَاحَهَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهَا قُرْبَةٌ .  فَقَائِلُ  ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ  ; وَإِنَّمَا يَقُولُ  ذَلِكَ زِنْدِيقٌ : مِثْلُ مَا حَكَى  أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ  السلمي  عَنْ  ابْنِ الراوندي  أَنَّهُ  قَالَ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ  فِي   الْغِنَاءِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ حَلَالٌ   وَأَنَا أَقُولُ إنَّهُ وَاجِبٌ . وَمَعْلُومٌ  أَنَّ  هَذَا لَيْسَ  مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ .  وَاَلَّذِينَ   يَتَقَرَّبُونَ بِسَمَاعِ الْقَصَائِدِ وَالتَّغْبِيرِ  وَنَحْوِ  ذَلِكَ هُمْ مُخْطِئُونَ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَئِمَّةِ ; مَعَ  أَنَّهُ لَيْسَ  فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْغِنَاءَ قُرْبَةٌ مُطْلَقًا وَلَكِنْ يَقُولُهُ  فِي صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِينَ يُحَرِّكُونَ قُلُوبَهُمْ بِهَذَا السَّمَاعِ إلَى الطَّاعَاتِ فَيُحَرِّكُونَ  بِهِ وَجْدَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّرْغِيبِ  فِي الطَّاعَاتِ وَوَجْدَ الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ وَالتَّرْهِيبِ  مِنْ  الْمُخَالَفَاتِ .  فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُ  فِيهِ  طَائِفَةٌ  مِنْ النَّاسِ إنَّهُ قُرْبَةٌ مَعَ  أَنَّ الْجُمْهُورَ  عَلَى  أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ لَوْ جُعِلَ  هَذَا قُرْبَةً ; لِكَوْنِهِ بِدْعَةً لَيْسَتْ  وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةَ وَلِاشْتِمَالِهِ  عَلَى مَفَاسِدَ رَاجِحَةٍ  عَلَى مَا ظَنُّوهُ  مِنْ الْمَصَالِحِ  كَمَا  فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ; فَإِنَّهُ  وَإِنْ  كَانَ  فِيهِمَا مَنَافِعُ لِلنَّاسِ فَإِثْمُهُمَا  أَكْبَرُ  مِنْ نَفْعِهِمَا .  وَالشَّرِيعَةُ تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ  كَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ ;  فَإِنَّ  الْإِيمَانَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ وَالْجِهَادُ  وَإِنْ  كَانَ  فِيهِ قَتْلُ النُّفُوسِ فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَفِتْنَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ  فَسَادًا  مِنْ الْقَتْلِ  كَمَا  قَالَ تَعَالَى : {   وَالْفِتْنَةُ  أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ   }  وَنَهَى عَنْ الْمَفَاسِدِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ  كَمَا  نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ مَا  ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا  بَطَنَ وَعَنْ : " الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ  بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا  عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُبِيحُهَا  قَطُّ  فِي  حَالٍ  مِنْ الْأَحْوَالِ وَلَا  فِي شِرْعَةٍ  مِنْ الشَّرَائِعِ . وَتَحْرِيمُ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ  ذَلِكَ مِمَّا مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ .  وَهَذَا الضَّرْبُ تُبِيحُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ;  لِأَنَّ مَفْسَدَةَ  فَوَاتِ النَّفْسِ أَعْظَمُ  مِنْ مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ  بِهِ  . وَالْفُقَهَاءُ إنَّمَا  تَنَازَعُوا  فِي   الْخَمْرِ هَلْ تُشْرَبُ لِلْعَطَشِ  . لِتَنَازُعِهِمْ  فِي  كَوْنِهَا تُذْهِبُ الْعَطَشَ  وَالنَّاهِي  قَالَ : لَا تَزِيدُ الشَّارِبَ إلَّا عَطَشًا  فَلَا يَحْصُلُ  بِهِ بَقَاءُ الْمُهْجَةِ . وَالْمُبِيحُ يَقُولُ بَلْ قَدْ تُرَطِّبُ رُطُوبَةً تَبْقَى مَعَهَا الْمُهْجَةُ وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ الْمَأْخَذَيْنِ  كَانَ هُوَ الْوَاقِعَ  كَانَ قَوْلُ صَاحِبِهِ  أَصْوَبَ . وَبَسْطُ  هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .  وَالْمَقْصُودُ  أَنَّ   مَا اخْتَلَفَ  فِيهِ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مُبَاحٌ  كَانَ مَنْ  جَعَلَهُ قُرْبَةً مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ  كَمَا إذَا اخْتَلَفَ   الصَّحَابَةُ  عَلَى قَوْلَيْنِ فَمَنْ  أَحْدَثَ قَوْلًا ثَالِثًا فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَهُمْ ; وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ  فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ  اسْتِمَاعَ الْغِنَاءِ   قُرْبَةٌ مُطْلَقًا  وَإِنْ  قَالَ إنَّ سَمَاعَ الْقَوْلِ الَّذِي شُرِطَ لَهُ  الْمَكَانُ وَالْإِمْكَانُ وَالْإِخْوَانُ - وَهُوَ تَرْغِيبٌ  فِي الطَّاعَاتِ وَتَرْهِيبٌ  مِنْ  الْمُخَالَفَاتِ - قُرْبَةٌ  فَلَا يَقُولُ  قَطُّ إنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ الْمَلَاهِيَ فَهُوَ مُتَقَرِّبٌ  كَمَا يَقُولُ  الْقَائِلُ : إنَّ السَّفَرَ إلَى قُبُورِ  الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قُرْبَةٌ وَإِنَّهُ إذَا  نَذَرَ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ  الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ  أَنَّهُ يَفِي بِهَذَا النَّذْرِ  فَإِنَّ  هَذَا الْقَوْلَ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ  مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ  وَإِنْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ  السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  قُرْبَةٌ أَوْ  قَالُوا هُوَ قُرْبَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا :  فَهَذَا حَقٌّ إذَا عُرِفَ مُرَادُهُمْ  بِذَلِكَ  كَمَا  ذَكَرَ  ذَلِكَ  الْقَاضِي عِيَاضٌ  وَابْنُ بَطَّالٍ  وَغَيْرُهُمَا : فَمُرَادُهُمْ السَّفَرُ الْمَشْرُوعُ إلَى مَسْجِدِهِ وَمَا يُفْعَلُ  فِيهِ  مِنْ الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي تُسَمَّى زِيَارَةً لِقَبْرِهِ  وَمَالِكٌ  وَغَيْرُهُ يَكْرَهُونَ أَنْ تُسَمَّى زِيَارَةً لِقَبْرِهِ .  فَهَذَا الْإِجْمَاعُ عَلَى  هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ لَا رَيْبَ  فِيهِ . وَلَكِنْ لَيْسَ  هَذَا إجْمَاعًا  عَلَى مَا صَرَّحُوا بِالنَّهْيِ عَنْهُ أَوْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ وَلَا طَاعَةٍ .  وَالسَّفَرُ لِغَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ  قَدْ صَرَّحَ  مَالِكٌ  وَغَيْرُهُ :  كَالْقَاضِي إسْمَاعِيلَ  وَالْقَاضِي عِيَاضٍ  وَغَيْرِهِمَا :  أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ; لَا يَفْعَلُهُ لَا نَاذِرٌ وَلَا مُتَطَوِّعٌ وَصَرَّحُوا بِأَنَّ  السَّفَرَ إلَى  الْمَدِينَةِ  وَإِلَى   بَيْتِ الْمَقْدِسِ  لِغَيْرِ الصَّلَاةِ  فِي الْمَسْجِدَيْنِ  هُوَ  مِنْ السَّفَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ  وَإِنْ  نَذَرَهُ  سَوَاءٌ سَافَرَ لِزِيَارَةِ  أَيِّ نَبِيٍّ  مِنْ  الْأَنْبِيَاءِ أَوْ قَبْرٍ  مِنْ قُبُورِهِمْ أَوْ قُبُورِ غَيْرِهِمْ أَوْ مَسْجِدٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ :  فَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَهُمْ  مِنْ السَّفَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ;  فَكَيْفَ يَقُولُونَ : إنَّهُ قُرْبَةٌ ;  وَلَكِنَّ  الْإِجْمَاعَ  عَلَى تَحْرِيمِ  اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً لَا يُنَاقِضُ النِّزَاعَ  فِي الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ  .  وَهَذَا  الْإِجْمَاعُ  الْمَحْكِيُّ عَنْ   السَّلَفِ  وَالْأَئِمَّةِ لَا يَقْدَحُ  فِيهِ خِلَافُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إنْ وُجِدَ ; وَلَكِنْ إنْ وُجِدَ  أَنَّ  أَحَدًا  مِنْ الصُّلَحَاءِ الْمَعْرُوفِينَ  مِنْ   السَّلَفِ  قَالَ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَوْ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ  الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ  كَانَ  هَذَا قَادِحًا  فِي  هَذَا الْإِجْمَاعِ وَيَكُونُ  فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ;  وَلَكِنَّ الَّذِي يَحْكِي الْإِجْمَاعَ لَمْ يَطَّلِعْ  عَلَى  هَذَا الْقَوْلِ  كَمَا يُوجَدُ  ذَلِكَ كَثِيرًا لِكَثِيرِ  مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَعَ  هَذَا  فَهَذَا الْقَوْلُ يُرَدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ إلْزَامُ النَّاسِ  بِهِ  بِلَا حُجَّةٍ ;  فَإِنَّ  هَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ  .