تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُورَةُ الْإِخْلَاصِ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تيمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا وَرَدَ فِي سُورَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي سُورَةِ ( الزَّلْزَلَةِ وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ ( الْفَاتِحَةِ هَلْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ ثَابِتٌ فِي الْمَجْمُوعِ أَمْ فِي الْبَعْضِ ؟ وَمَنْ رَوَى ذَلِكَ ؟ وَمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْمُفَاضَلَةُ - بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا - مُتَعَدِّيَةٌ إلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَمْ لَا ؟ وَالصِّفَاتُ الْقَدِيمَةُ وَالْأَسْمَاءُ الْقَدِيمَةُ هَلْ يَجُوزُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهَا مَعَ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ ؟ وَمَنْ الْقَائِلُ بِذَلِكَ وَفِي أَيِّ كُتُبِهِ قَالَ ذَلِكَ وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي ذَلِكَ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقْلِيٍّ ؟
12345678910111213141516171819202122
قُلْت آيَاتُ الْقُرْآنِ نَوْعَانِ : عِلْمِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ وَفِي الْآيَاتِ مَا يَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ . وَأَبُو حَامِدٍ جَمَعَ الْعِلْمِيَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقِصَصِ وَسَمَّاهَا " جَوَاهِرَ الْقُرْآنِ " وَجَمَعَ الْعَمَلِيَّاتِ وَسَمَّاهَا " دُرَرَ الْقُرْآنِ " . وَجَعَلَ الشَّطْرَ الْأَوَّلَ مِنْ " الْفَاتِحَةِ " مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالثَّانِي مِنْ الدُّرَرِ وَالْآيَاتُ الَّتِي تَجْمَعُ الْمَعْنَيَيْنِ يَذْكُرُهَا فِي أَغْلَبِ النَّوْعَيْنِ عَلَيْهَا . وَمَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْقِسْمَيْنِ رُبُعُ آيَاتِ الْقُرْآنِ نَحْوَ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ آيَةٍ . وَجَعَلَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ سِتَّةَ أَصْنَافٍ : ثَلَاثَةُ أُصُولٍ وَثَلَاثَةُ تَوَابِعَ . فَذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ والآخرين . وَقَالَ : سِرُّ الْقُرْآنِ وَلُبَابُهُ الْأَصْفَى وَمَقْصِدُهُ الْأَقْصَى دَعْوَةُ الْعِبَادِ إلَى الْجَبَّارِ الْأَعْلَى رَبِّ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَخَالِقِ السَّمَوَاتِ الْعُلَى وَالْأَرْضِينَ السُّفْلَى . فَالثَّلَاثَةُ الْمُهِمَّةُ : تَعْرِيفُ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ وَتَعْرِيفُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي تَجِبُ مُلَازَمَتُهُ فِي السُّلُوكِ إلَيْهِ وَتَعْرِيفُ الْحَالِ عِنْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ . وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْمَعْنِيَّةُ فَأَحَدُهَا : أَحْوَالُ الْمُجِيبِينَ لِلدَّعْوَةِ وَلَطَائِفِ صُنْعِ اللَّهِ فِيهِمْ وَسِرِّهِ وَمَقْصُودُهُ التَّشْوِيقُ وَالتَّرْغِيبُ . وَتَعْرِيفُ أَحْوَالِ النَّاكِبِينَ وَالنَّاكِلِينَ عَنْ الْإِجَابَةِ وَكَيْفِيَّةِ قَمْعِ اللَّهِ لَهُمْ وَتَنْكِيلِهِ بِهِمْ وَسِرِّهِ وَمَقْصُودُهُ الِاعْتِبَارُ وَالتَّرْهِيبُ . وَثَانِيهَا : حِكَايَةُ أَقْوَالِ الْجَاحِدِينَ . وَكَشْفِ فَضَائِحِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِالْمُجَادَلَةِ وَالْمُحَاجَّةِ عَلَى الْحَقِّ . وَمَقْصُودُهُ وَسِرُّهُ فِي جَنَبَةِ الْبَاطِلِ الْإِفْصَاحُ وَالتَّحْذِيرُ وَالتَّنْفِيرُ وَفِي جَنَبَةِ الْحَقِّ الْإِيضَاحُ وَالتَّثْبِيتُ وَالتَّقْرِيرُ . وَثَالِثُهَا : تَعْرِيفُ عِمَارَةِ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَكَيْفِيَّةِ أَخْذِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالْأُهْبَةِ لِلِاسْتِعْدَادِ . قُلْت : مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ أُصُولَ الْإِيمَانِ ثَلَاثَةٌ فَهُوَ حَقٌّ كَمَا ذَكَرَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ الثَّلَاثَةِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَدِينٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ . فَذَكَرَ هَذِهِ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ . وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ التَّابِعَةُ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ . فَإِنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مِنْ تَفْضِيلِ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَمَا فِيهِ مِنْ عِمَارَةِ الطَّرِيقِ فَهُوَ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَمَا فِيهِ مِنْ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُحَاجَّةِ فَذَاكَ مِنْ تَمَامِ الْإِخْبَارِ بِالثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ إذَا أَخْبَرَ بِالثَّلَاثَةِ ذَكَرَ الْآيَاتِ وَالْأَدِلَّةَ الْمُثْبِتَةَ لِذَلِكَ وَذَكَرَ شِبْهَ الْجَاحِدِينَ وَبَيَّنَ فَسَادَهَا . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ ذَلِكَ فَقَالَ : الْقِسْمُ الْجَائِي لِمُحَاجَّةِ الْكُفَّارِ وَمُجَادَلَتِهِمْ وَإِيضَاحِ مَخَازِيهِمْ بِالْبُرْهَانِ الْوَاضِحِ وَكَشْفِ أَبَاطِيلِهِمْ وتخاييلهم . وَأَبَاطِيلُهُمْ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : [ الْأَوَّلُ ] ذِكْرُ اللَّهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُهُ وَأَنَّ لَهُ وَلَدًا شَرِيكًا وَأَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ . الثَّانِي ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَشَاعِرٌ وَإِنْكَارُ نُبُوَّتِهِ . وَثَالِثُهَا إنْكَارُ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَحْدُ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِنْكَارُ عَاقِبَةِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ . وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ الْأَخْبَارِ بِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا - وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ أَبُو حَامِدٍ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُسْتَجِيبِينَ وَالنَّاكِبِينَ - فَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ . فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ شُوهِدَ فِي الدُّنْيَا وَرُئِيَتْ آثَارُهُ وَتَوَاتَرَتْ أَخْبَارُهُ لَيْسَ هُوَ مِمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ غَيْبٌ عَنْ الْعِبَادِ . وَلِهَذَا يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ هَذَا فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَوْعِظَةِ كَقَوْلِهِ : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } . وَقَوْلُهُ : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَقَوْلُهُ : { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } وَقَوْلُهُ : { فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وَقَوْلُهُ : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } الْآيَاتِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِمَا ذَكَرَ قِصَّةَ قَوْمِ لُوطٍ : { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } وَالْمُتَوَسِّمُ : الْمُسْتَدِلُّ بِالسِّمَةِ وَالسِّيمَا وَهِيَ الْعَلَامَةُ قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } . فَمَعْرِفَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ثَابِتَةٌ مَقْسَمٌ عَلَيْهَا لَكِنَّ هَذَا يَكُونُ إذَا تَكَلَّمُوا وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُمْ بِالسِّيمَا فَمَوْقُوفٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ أَخْفَى . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } } قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ لِلْمُتَفَرَّسِينَ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : يُقَالُ تَوَسَّمْت فِي فُلَانٍ الْخَيْرَ أَيْ تَبَيَّنْته وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الْمُتَوَسِّمُونَ فِي اللُّغَةِ النُّظَّارُ الْمُثْبِتُونَ فِي نَظَرِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ سِمَةِ الشَّيْءِ يُقَالُ تَوَسَّمْت فِي فُلَانٍ كَذَا أَيْ عَرَفْت وَقَوْلُهُ " الْمُثْبِتُونَ فِي نَظَرِهِمْ " أَيْ فِي نَظَرِ أَعْيُنِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا السِّيمَا بِخِلَافِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : النَّاظِرُونَ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : الْمُنْتَقِدُونَ وَقَالَ قتادة : الْمُعْتَبِرُونَ . وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّ الْمُتَوَسِّمَ يَجْمَعُ هَذَا كُلَّهُ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ . ثُمَّ قَالَ : { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ } أَيْ بِطَرِيقِ مُتَبَيِّنٍ لِلنَّاسِ وَاضِحٍ . وَكَذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَمَّا قَالَ : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } { وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } وَقَالَ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ : { وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَبْقَى آيَاتٍ وَهِيَ الْعَلَامَاتُ وَالدَّلَالَاتُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا يَخُصُّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَحُسْنِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَخْبَارِ الْكُفَّارِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ مِنْ بَابِ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا وَيُعْتَبَرُ بِهَا عِلْمًا وَوَعْظًا فَيُفِيدُ مَعْرِفَةَ صِحَّةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَيُفِيدُ التَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى عَنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ وَيُكْرِمُهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَى أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ وَيُعَاقِبُهُمْ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِمَخْلُوقَاتِهِ الْعَامَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ يَسْتَلْزِمُ قُدْرَةَ الْفَاعِلِ [ وَيُسْتَدَلُّ ] بِإِحْكَامِ الْأَفْعَالِ عَلَى عِلْمِهِ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُحْكَمَ يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْفَاعِلِ وَبِالتَّخْصِيصِ عَلَى مَشِيئَتِهِ ; لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِرَادَتِهِ فَكَذَلِكَ يُسْتَدَلُّ بِالتَّخْصِيصِ بِمَا هُوَ أَحْمَد عَاقِبَةً عَلَى حِكْمَتِهِ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْفِعْلِ بِمَا هُوَ مَحْمُودٌ فِي الْعَاقِبَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحِكْمَةِ وَيُسْتَدَلُّ بِتَخْصِيصِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ بِالنَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَتَخْصِيصِ مُكَذِّبِيهِمْ بِالْخِزْيِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ عَلَى أَنَّهُ يَأْمُرُ وَيُحِبُّ وَيَرْضَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَيَكْرَهُ وَيَسْخَطُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُكَذِّبُوهُمْ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالْإِكْرَامِ وَالنَّجَاةِ وَالذِّكْرِ الْحَسَنِ وَالدُّعَاءِ وَتَخْصِيصَ الْآخَرِ بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ وَقُبْحِ الذِّكْرِ وَاللَّعْنَةِ : يَسْتَلْزِمُ مَحَبَّةَ مَا فَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلُ وَبُغْضَ مَا فَعَلَهُ الصِّنْفُ الثَّانِي . وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا إنَّهَا تَخُصُّ أَحَدَ الْمِثْلَيْنِ عَنْ الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ فَتِلْكَ هَلْ يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا ؟ فِيهِ نِزَاعٌ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهَا فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يُوصَفُ بِهَا فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ بِهَذَا وَتَخْصِيصَ أَعْدَائِهِمْ بِهَذَا لَمْ يَصْدُرْ عَنْ تَخْصِيصٍ بِلَا مُخَصَّصٍ ; بَلْ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَصَدَ تَخْصِيصَ هَؤُلَاءِ بِالْإِكْرَامِ وَهَؤُلَاءِ بِالْعِقَابِ وَأَنَّ إيمَانَ هَؤُلَاءِ سَبَبُ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا وَكَفْرَ هَؤُلَاءِ سَبَبُ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا . وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ دَاخِلَةٌ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ . وَلَكِنْ أَبُو حَامِدٍ يَجْعَلُ الْحِجَاجَ صَنْعَةَ الْكَلَامِ وَيَجْعَلُ عِمَارَةَ الطَّرِيقِ عِلْمَ الْفِقْهِ وَيَجْعَلُ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ عِلْمَ الْقَصَصِ وَيَقُولُ : إنَّ الْكَلَامَ وَالْجَدَلَ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ حَقٍّ بِدَلِيلِ ; بَلْ إنَّمَا فِيهِ دَفْعُ الْبِدَعِ بِبَيَانِ تَنَاقُضِهَا ; وَيَجْعَلُ أَهْلَهُ مِنْ جِنْسِ خُفَرَاءِ الْحَجِيجِ وَيَجْعَلُ عِلْمَ الْفِقْهِ لَيْسَ غَايَتُهُ إلَّا مَصْلَحَةَ الدُّنْيَا وَهَذَا مِمَّا نَازَعَهُ فِيهِ أَكْثَرُ النَّاسِ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِكَلَامِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ ( جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِ مِنْ مَعَانِي الْفَلْسَفَةِ وَجَعَلَ ذَلِكَ هُوَ بَاطِنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَدِّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ ; فَإِنَّ هَذَا فِيهِ مِمَّا يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الرَّسُولِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي النُّبُوَّةِ بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ فِيهَا . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِيهَا وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَنَصَرْنَاهُ ; لَكِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ . فَجَعَلَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ لَيْسَ هُوَ سِتَّةٌ : ثَلَاثَةُ أُصُولٍ وَثَلَاثَةُ فُرُوعٍ . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لَمْ يَقُلْ ثُلُثَ الْمُهِمِّ مِنْهُ وَلَا ثُلُثَ أَكْثَرِهِ وَلَا أُصُولَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ هُوَ سِتَّةٌ : ثَلَاثَةٌ مُهِمَّةٌ وَثَلَاثَةٌ تَوَابِعُ وَالسُّورَةُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الْمُهِمَّةِ وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ تَقْسِيمَ الْقُرْآنِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ تَقْسِيمُ بِالدَّلِيلِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ إمَّا إخْبَارٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ وَالْإِخْبَارُ إمَّا عَنْ الْخَالِقِ وَإِمَّا عَنْ الْمَخْلُوقِ فَهَذَا تَقْسِيمٌ بَيِّنٌ . وَأَمَّا جَعْلُ عِلْمِ الْفِقْهِ خَارِجًا عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَجَعْلُ عِلْمِ الْأَدِلَّةِ وَالْحِجَجِ خَارِجًا عَنْ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهَذَا مَرْدُودٌ عِنْدَ جَمَاهِيرَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَأَبُو حَامِدٍ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِأَنَّهُ يَقُولُ إنَّمَا يُعْرَفُ مَعَانِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّصْفِيَةِ فَقَطْ لَا بِطْرِيقِ الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ وَلَا بِطْرِيقِ النَّظَرِ الِاسْتِدْلَالِيِّ فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَلَا بِالْعَقْلِ . وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَصَنَّفُوا كُتُبًا فِي رَدِّ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَلَكِنَّ عُذْرَ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيمَا عَلِمَهُ مِنْ طَرِيقِ الْفَلَاسِفَةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ طُرُقًا عَقْلِيَّةً غَيْرَ ذَلِكَ فَنَفَى أَنْ يَعْلَمَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ فِيهِ . وَأَمَّا الطُّرُقُ الْخَبَرِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا صَحَّ مِنْ أَلْفَاظِ الرَّسُولِ وَبِطَرِيقِ دَلَالَةِ أَلْفَاظِهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ وَظَنَّ - بِمَا شَارَكَ بِهِ بَعْضَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ - أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنْ مُرَادَهُ بِأَلْفَاظِهِ فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذَا وَهَذَا سَدُّ بَابِ الطَّرِيقِ الْعَقْلِيِّ وَالسَّمْعِيِّ وَظَنَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ يَحْصُلُ لَا بِطْرِيقَ التَّصْفِيَةِ وَالْعَمَلِ فَسَلَكَ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمَقْصُودُ أَيْضًا فَرَجَعَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إلَى قِرَاءَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ .