تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُورَةُ الْإِخْلَاصِ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تيمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا وَرَدَ فِي سُورَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي سُورَةِ ( الزَّلْزَلَةِ وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ ( الْفَاتِحَةِ هَلْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ ثَابِتٌ فِي الْمَجْمُوعِ أَمْ فِي الْبَعْضِ ؟ وَمَنْ رَوَى ذَلِكَ ؟ وَمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْمُفَاضَلَةُ - بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا - مُتَعَدِّيَةٌ إلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَمْ لَا ؟ وَالصِّفَاتُ الْقَدِيمَةُ وَالْأَسْمَاءُ الْقَدِيمَةُ هَلْ يَجُوزُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهَا مَعَ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ ؟ وَمَنْ الْقَائِلُ بِذَلِكَ وَفِي أَيِّ كُتُبِهِ قَالَ ذَلِكَ وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي ذَلِكَ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقْلِيٍّ ؟
12345678910111213141516171819202122
وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا أَنَّهَا يَكْتَفِي بِتِلَاوَتِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ بَلْ قَدْ كَرِهَ السَّلَفُ أَنْ تُقْرَأَ إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُقْرَأُ كَمَا كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَالتَّكْبِيرُ الْمَأْثُورُ عَنْ ابْنِ كَثِيرٍ لَيْسَ هُوَ مُسْنَدًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُسْنِدْهُ أَحَدٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا البزي وَخَالَفَ بِذَلِكَ سَائِرَ مَنْ نَقَلَهُ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا نَقَلُوهُ اخْتِيَارًا مِمَّنْ هُوَ دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْفَرَدَ هُوَ بِرَفْعِهِ وَضَعْفِهِ نَقَلَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ مِنْ عُلَمَاءِ الْقِرَاءَةِ وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ . فَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يُقْرَأَ كَمَا فِي الْمَصَاحِفِ وَلَكِنْ إذَا قُرِئَتْ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مُفْرَدَةً تُقْرَأُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ قَرَأَهَا فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ مَا يَعْدِلُ ثُلُثَ أَجْرِ الْقُرْآنِ لَكِنَّ عَدْلَ الشَّيْءِ - بِالْفَتْحِ - يَكُونُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالثَّوَابُ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا أَنَّ الْأَمْوَالَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ : مِنْ مَطْعُومٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَلْبُوسٍ وَمَسْكُونٍ وَنَقْدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ مِنْ أَحَدِ أَجْنَاسِ الْمَالِ مَا يَعْدِلُ أَلْفَ دِينَارٍ مَثَلًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْمَالِ بَلْ إذَا كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ وَهُوَ طَعَامٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى لِبَاسٍ وَمَسْكَنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ النَّقْدِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا النَّقْدُ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَى أَنْوَاعِهَا وَمَنَافِعِهَا . وَالْفَاتِحَةُ فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ ثَنَاءٌ وَدُعَاءٌ مِمَّا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ مَا لَا تَقُومُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَجْرُهَا عَظِيمًا فَذَلِكَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُهُ مَعَ أَجْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَلِهَذَا لَوْ صَلَّى بِهَا وَحْدَهَا بِدُونِ الْفَاتِحَةِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إلَّا الْفَاتِحَةَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِأَنَّ مَعَانِيَ الْفَاتِحَةِ فِيهَا الْحَوَائِجُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْعِبَادِ مِنْهَا وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ مَا فِي الْفَاتِحَةِ مِنْ الثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ وَهُوَ قَوْلُ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } هُوَ أَفْضَلُ دُعَاءٍ دَعَا بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَهُوَ أَوْجَبُ دُعَاءٍ دَعَا بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَأَنْفَعُ دُعَاءٍ دَعَا بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْعَبْدُ دَائِمًا مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فَلَوْ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ تِسْعَةِ أَعْشَارِ الْقُرْآنِ - دَعْ ثُلُثَهُ - وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَقْصُودُ هَذَا الدُّعَاءِ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ وَلَمْ يَسُدَّ مَسَدَّهُ . وَهَذَا كَمَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الرَّجُلَ تَصَدَّقَ بِصَدَقَاتِ عَظِيمَةٍ وَجَاهَدَ جِهَادًا عَظِيمًا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَرَّاتٍ وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ ذَلِكَ الْيَوْمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ لَمْ يَقُمْ ثَوَابُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مَقَامَ هَذِهِ كَمَا لَوْ كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالرَّقِيقِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَتَغَدَّى بِهِ وَيَتَعَشَّى مِنْ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ يَكُونُ جَائِعًا مُتَأَلِّمًا فَاسِدَ الْحَالِ وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ تِلْكَ الْأَمْوَالُ الْعَظِيمَةُ وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَدْيَنَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَشْرَفُ الْعُلُومِ عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَأَنْفَعُ الْعِلْمِ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ . فَلَيْسَ الْأَفْضَلُ الْأَشْرَفُ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُ فِي وَقْتٍ بَلْ الْأَنْفَعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِهَذَا يُقَالُ : الْمَفْضُولُ فِي مَكَانِهِ وَزَمَانِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْفَاضِلِ إذْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ فَهَذَا أَمْرٌ مُطْلَقٌ . وَقَدْ تَحْرُمُ الصَّلَاةُ فِي أَوْقَاتٍ فَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ . وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْقِرَاءَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ . فَهَكَذَا يُعْلَمُ الْأَمْرُ فِي فَضْلِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَغَيْرِهَا فَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهَا بَلْ هُوَ الْوَاجِبُ والاحتزاء بِهَا وَحْدَهَا لَا يُمْكِنُ بَلْ تَبْطُلُ مَعَهُ الصَّلَاةُ . وَلِهَذَا وَجَبَ التَّقَرُّبُ بِالْفَرَائِضِ قَبْلَ النَّوَافِلِ وَالتَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ إنَّمَا يَكُونُ تَقَرُّبًا إذَا فُعِلَتْ الْفَرَائِضُ لَا كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الِاتِّحَادِيَّةِ كَصَاحِبِ " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " وَنَحْوِهِ مِنْ أَنَّ قُرْبَ الْفَرَائِضِ يَكُونُ بَعْدَ قُرْبِ النَّوَافِلِ وَالنَّوَافِلُ تَجْعَلُ الْحَقَّ غِطَاءَهُ وَتِلْكَ تَجْعَلُ الْحَقَّ عَيْنَهُ . فَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ مِنْ الِاتِّحَادِ كَمَا بَيَّنَ . وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ يُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ . وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا . فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي . وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ لَيْسَ هُوَ الْمُتَقَرَّبَ إلَيْهِ ; بَلْ هُوَ غَيْرُهُ . وَأَنَّهُ مَا تَقَرَّبَ إلَيْهِ عَبْدُهُ بِمِثْلِ أَدَاءِ الْمَفْرُوضِ وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يَصِيرَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ فَيَسْمَعُ بِهِ وَيُبْصِرُ بِهِ وَيَبْطِشُ بِهِ وَيَمْشِي بِهِ . ثُمَّ قَالَ { وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ } فَفَرَّقَ بَيْنَ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ وَالْمُسْتَعِيذِ وَالْمُسْتَعَاذِ بِهِ وَجَعَلَ الْعَبْدَ سَائِلًا لِرَبِّهِ مُسْتَعِيذًا بِهِ . وَهَذَا حَدِيثٌ شَرِيفٌ جَامِعٌ لِمَقَاصِدَ عَظِيمَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا بَلْ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحْسَنَ الْوُجُوهِ أَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : تَوْحِيدٌ وَقَصَصٌ وَأَحْكَامٌ . وَهَذِهِ السُّورَةُ صِفَةُ الرَّحْمَنِ فِيهَا التَّوْحِيدُ وَحْدَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ . وَالْكَلَامُ نَوْعَانِ : إمَّا إنْشَاءٌ وَإِمَّا إخْبَارٌ وَالْإِخْبَارُ إمَّا خَبَرٌ عَنْ الْخَالِقِ وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ . فَالْإِنْشَاءُ هُوَ الْأَحْكَامُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَالْخَبَرُ عَنْ الْمَخْلُوقِ هُوَ الْقَصَصُ . وَالْخَبَرُ عَنْ الْخَالِقِ هُوَ ذِكْرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ سُورَةٌ هِيَ وَصْفُ الرَّحْمَنِ مَحْضًا إلَّا هَذِهِ السُّورَةَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ فَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَلُوهُ : لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ : لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ } . وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي ( بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ : وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ : { كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قباء فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ لَهُمْ بِهَا فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ بِسُورَةِ أُخْرَى مَعَهَا فَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا : إنَّك تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِيك حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى فَقَالَ : مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْت وَإِنْ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ تَرَكَتْكُمْ . وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ . فَلَمَّا أَتَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ : يَا فُلَانُ مَا يَمْنَعُك أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُك بِهِ أَصْحَابُك وَمَا يَحْمِلُك عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ . قَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا . قَالَ حُبُّك إيَّاهَا أَدْخَلَك الْجَنَّةَ } . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } حُقٌّ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ إلَّا حَقٌّ . وَاَلَّذِينَ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلُ لَهُمْ مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا مَنْعُ تَفَاضُلِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُهُ . الثَّانِي اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الْأَجْرَ يَتْبَعُ كَثْرَةَ الْحُرُوفِ فَمَا كَثُرَتْ حُرُوفُهُ مِنْ الْكَلَامِ يَكُونُ أَجْرُهُ أَعْظَمَ . قَالُوا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ . أَمَّا إنِّي لَا أَقُولُ { الم } حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . قَالُوا وَمَعْلُومٌ أَنَّ ثُلُثَ الْقُرْآنِ حُرُوفُهُ أَكْثَرُ بِكَثِيرِ فَتَكُونُ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ . فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذَا حَقٌّ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْحَسَنَاتِ فِيهَا كِبَارٌ وَصِغَارٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُودُهُ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } فَإِذَا قَرَأَ حَرْفًا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَةً فَيُعْطِيهِ بِقَدْرِ تِلْكَ الْحَسَنَةِ عَشْرَ مَرَّاتٍ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ : إنَّ الْحَسَنَاتِ فِي الْحُرُوفِ مُتَمَاثِلَةٌ . كَمَا أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِدِينَارِ يُعْطَى بِتِلْكَ الْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا . وَالْوَاحِدُ مِنْ بَعْدِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ إذَا أَنْفَقَ مُدًّا كَانَ لَهُ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا . وَلَكِنْ لَا تَكُونُ تِلْكَ الْحَسَنَةُ بِقَدْرِ حَسَنَةِ مَنْ أَنْفَقَ مُدًّا مِنْ الصَّحَابَةِ السَّابِقِينَ . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ . فَكَذَلِكَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ تَتَفَاضَلُ لِتَفَاضُلِ الْمَعَانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ فَحُرُوفُ الْفَاتِحَةِ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا حَسَنَةٌ أَعْظَمُ مِنْ حَسَنَاتِ حُرُوفٍ مِنْ { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ يَعْدِلُ غَيْرَهُ فَعَدْلُ الشَّيْءِ - بِالْفَتْحِ - هُوَ مُسَاوِيهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } وَالصِّيَامُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الطَّعَامِ وَالْجَزَاءِ وَلَكِنَّهُ يُعَادِلُهُ فِي الْقَدْرِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } أَيْ فِدْيَةٌ وَالْفِدْيَةُ مَا يَعْدِلُ بِالْمُفْدَى وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أَيْ يَجْعَلُونَ لَهُ عَدْلًا أَيْ نِدًّا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ . وَلَوْ كَانَ لِرَجُلِ أَمْوَالٌ مِنْ أَصْنَافٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَلِآخَرَ ذَهَبٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ لَكَانَ مَالُ هَذَا يَعْدِلُ مَالَ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ ; وَلِهَذَا قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا يَعْدِلُ شَيْئًا عَظِيمًا وَإِذَا احْتَاجَ إلَى دَوَاءٍ أَوْ مُرَكَّبٍ أَوْ مَسْكَنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى اشْتِرَائِهِ لَمْ تَنْفَعْهُ تِلْكَ الْأَمْوَالُ الْعَظِيمَةُ . فَالْقُرْآنُ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى مَا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ . وَإِنْ كَانَ التَّوْحِيدُ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْأَفْعَالِ أَوْ احْتَاجَ إلَى مَا يُؤْمَرُ بِهِ وَيَعْتَبِرُ بِهِ مِنْ الْقَصَصِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَمْ يَسُدَّ غَيْرُهُ مَسَدَّهُ فَلَا يَسُدُّ التَّوْحِيدُ مَسَدَّ هَذَا وَلَا تَسُدُّ الْقَصَصُ مَسَدَّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَسَدَّ الْقَصَصِ . بَلْ كُلُّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ وَيَحْتَاجُونَ إلَيْهِ . فَإِذَا قَرَأَ الْإِنْسَانُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حَصَلَ لَهُ ثَوَابٌ بِقَدْرِ ثَوَابِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ ; لَكِنْ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ مِنْ جِنْسِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِبَقِيَّةِ الْقُرْآنِ بَلْ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى جِنْسِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ فَلَا تَسُدُّ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَسَدَّ ذَلِكَ وَلَا تَقُومُ مَقَامَهُ فَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَقْرَأْ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَإِنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَكِنَّ جِنْسَ الْأَجْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهَا لَا يَحْصُلُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا بَلْ يَبْقَى فَقِيرًا مُحْتَاجًا إلَى مَا يَتِمُّ بِهِ إيمَانُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلَوْ قَامَ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ . فَالْمَعَارِفُ الَّتِي تَحْصُلُ بِقِرَاءَةِ سَائِرِ الْقُرْآنِ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ فَيَكُونُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ أَفْضَلَ مِمَّنْ قَرَأَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لِتَنَوُّعِ الثَّوَابِ وَإِنْ كَانَ قَارِئُ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثَلَاثًا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ الثَّوَابِ لَكِنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَيْسَ فِيهِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْعَبْدُ كَمَنْ مَعَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِينَارٍ وَآخَرُ مَعَهُ طَعَامٌ وَلِبَاسٌ وَمَسَاكِنُ وَنَقْدٌ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ ; فَإِنَّ هَذَا مَعَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَذَاكَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا مَعَ هَذَا وَإِنْ كَانَ مَا مَعَهُ يَعْدِلُ مَا مَعَ هَذَا . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ مِنْ أَشْرَفِ الطَّعَامِ يُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى لِبَاسٍ وَمَسَاكِنَ وَمَا يَدْفَعُ بِهِ الضَّرَرَ مِنْ السِّلَاحِ وَالْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الطَّعَامِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فَضْلَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الرَّجُلِ فَالْقِرَاءَةُ بِتَدَبُّرِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ بِلَا تَدَبُّرٍ وَالصَّلَاةُ بِخُشُوعِ وَحُضُورِ قَلْبٍ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ بِدُونِ ذَلِكَ . وَفِي الْأَثَرِ : { إنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونُ مَقَامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } . وَكَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ يَرْقَى بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَكَانَ لَهَا بَرَكَةٌ عَظِيمَةٌ فَيَرْقَى بِهَا غَيْرُهُ فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فَيَقُولُ : لَيْسَ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مِنْ كُلِّ أَحَدٍ تَنْفَعُ كُلَّ أَحَدٍ . وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ تَسْبِيحُ بَعْضِ النَّاسِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهِ وَيَكُونُ قِرَاءَةُ بَعْضِ السُّوَرِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهِ ل { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَغَيْرِهَا . وَالْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ يَخْتَلِفُ أَيْضًا حَالُهُ . فَقَدْ يَفْعَلُ الْعَمَلَ الْمَفْضُولَ عَلَى وَجْهٍ كَامِلٍ فَيَكُونُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ أَعْمَالِهِ الْفَاضِلَةِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لِبَغِيِّ لِسَقْيِهَا الْكَلْبَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا لَمَّا حَصَلَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا . وَقَدْ يُنْفِقُ الرَّجُلُ أَضْعَافَ ذَلِكَ فَلَا يُغْفَرُ لَهُ لِعَدَمِ الْأَسْبَابِ الْمُزَكِّيَةِ لِلْعَمَلِ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِنْ الْمُتَّقِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } يَقُولُهُ عَنْ أَصْحَابِهِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِذَا قِيلَ : إنَّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يَعْدِلُ ثَوَابُهَا ثَوَابَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ التَّمَاثُلِ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ وَإِلَّا فَإِذَا اعْتَبَرَ قِرَاءَةَ غَيْرِهَا مَعَ التَّدَبُّرِ وَالْخُشُوعِ بِقِرَاءَتِهَا مَعَ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْلِ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; بَلْ قَدْ يَكُونُ قَوْلُ الْعَبْدِ : " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ وَاتِّصَافِهِ بِمَعَانِيهَا أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ وَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي فَهْمِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي فَهْمِ سَائِرِ الْقُرْآنِ .