تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : " { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي : لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ ; مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمَخِيطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ } .
123456789
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . أَمَّا قَوْله تَعَالَى " { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي } " فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ كَبِيرَتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا ذَاتُ شُعَبٍ وَفُرُوعٍ : ( إحْدَاهُمَا : فِي الظُّلْمِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَنَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } وَقَوْلِهِ : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } وَقَوْلِهِ : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } . وَنَفَى إرَادَتَهُ بِقَوْلِهِ : { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } . وَنَفَى خَوْفَ الْعِبَادِ لَهُ بِقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } فَإِنَّ النَّاسَ تَنَازَعُوا فِي مَعْنَى هَذَا الظُّلْمِ تَنَازُعًا صَارُوا فِيهِ بَيْنَ طَرَفَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ وَوَسَطٍ بَيْنَهُمَا وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْبَحْثِ فِي الْقَدَرِ وَمُجَامَعَتِهِ لِلشَّرْعِ ; إذْ الْخَوْضُ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ تَامٍّ أَوْجَبَ ضَلَالَ عَامَّةِ الْأُمَمِ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَنْ التَّنَازُعِ فِيهِ . فَذَهَبَ الْمُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ الْقَائِلُونَ : بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ إلَّا مَا أَمَرَ بِأَنْ يَكُونَ . وَغُلَاتُهُمْ الْمُكَذِّبُونَ بِتَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ إلَى أَنَّ الظُّلْمَ مِنْهُ هُوَ نَظِيرُ الظُّلْمِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ وَشَبَّهُوهُ وَمَثَّلُوهُ فِي الْأَفْعَالِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ حَتَّى كَانُوا هُمْ مُمَثِّلَةَ الْأَفْعَالِ وَضَرَبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ وَلَمْ يَجْعَلُوا لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ وَحَرَّمُوا مَا رَأَوْا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعِبَادِ وَيَحْرُمُ بِقِيَاسِهِ عَلَى الْعِبَادِ وَإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ بِالرَّأْيِ وَقَالُوا عَنْ هَذَا : إذَا أَمَرَ الْعَبْدَ وَلَمْ يَعْنِهِ بِجَمِيعِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعَانَةِ كَانَ ظَالِمًا لَهُ وَالْتَزَمُوا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَهْدِيَ ضَالًّا كَمَا قَالُوا : إنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَضِلَّ مُهْتَدِيًا وَقَالُوا مِنْ هَذَا : إذَا أَمَرَ اثْنَيْنِ بِأَمْرِ وَاحِدٍ وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِإِعَانَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَ ظَالِمًا إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ جَعَلُوا تَرْكَهُ لَهَا ظُلْمًا . وَكَذَلِكَ ظَنُّوا أَنَّ التَّعْذِيبَ لِمَنْ كَانَ فِعْلُهُ مُقَدَّرًا ظُلْمٌ لَهُ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّعْذِيبِ لِمَنْ قَامَ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يَقُمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ أُخْرَى عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ . وَهَذَا الْمَوْضِعُ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ فَعَارَضَ هَؤُلَاءِ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ فَقَالُوا : لَيْسَ لِلظُّلْمِ مِنْهُ حَقِيقَةٌ يُمْكِنُ وُجُودُهَا بَلْ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُمْتَنِعَةِ لِذَاتِهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا وَلَا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ هُوَ تَارِكٌ لَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَجَعْلِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ وَقَلْبِ الْقَدِيمِ مُحْدَثًا وَالْمُحْدَثِ قَدِيمًا وَإِلَّا فَمَهْمَا قُدِّرَ فِي الذِّهْنِ وَكَانَ وُجُودُهُ مُمْكِنًا وَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِظُلْمِ مِنْهُ ; سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ . وَتَلَقَّى هَذَا الْقَوْلَ عَنْ هَؤُلَاءِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَمِنْ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِمْ وَفَسَّرُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِمَا يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَرُبَّمَا تَعَلَّقُوا بِظَاهِرِ مِنْ أَقْوَالٍ مَأْثُورَةٍ كَمَا رَوَيْنَا عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ : مَا نَاظَرْت بِعَقْلِي كُلِّهِ أَحَدًا إلَّا الْقَدَرِيَّةُ قُلْت لَهُمْ : مَا الظُّلْمُ ؟ قَالُوا : أَنْ تَأْخُذَ مَا لَيْسَ لَك أَوْ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِيمَا لَيْسَ لَك . قُلْت : فَلِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ إيَاسٍ إلَّا لِيُبَيِّنَ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْوَاقِعَةَ هِيَ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ ظُلْمًا بِمُوجِبِ حَدِّهِمْ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِيهِ ; فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ فَهُوَ عَدْلٌ . وَفِي حَدِيثِ الْكُرَبِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَصَابَ عَبْدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أُمَّتِك نَاصِيَتِي بِيَدِك مَاضٍ فِيَّ حُكْمُك عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُك أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مِنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي إلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ ؟ قَالَ : بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ } " فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ قَضَائِهِ فِي عَبْدِهِ عَدْلٌ ; وَلِهَذَا يُقَالُ : كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةِ مِنْهُ عَدْلٌ . وَيُقَالُ : أَطَعْتُك بِفَضْلِك وَالْمِنَّةُ لَك وَعَصَيْتُك بِعِلْمِك - أَوْ بِعَدْلِك - وَالْحُجَّةُ لَك فَأَسْأَلُك بِوُجُوبِ حُجَّتِك عَلَيَّ وَانْقِطَاعِ حُجَّتِي إلَّا مَا غَفَرْت لِي . وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ مِنْ إيَاسٍ كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِغَيْلَان حِينَ قَالَ لَهُ غَيْلَانُ : نَشَدْتُك اللَّهَ أَتَرَى اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُعْصَى ؟ فَقَالَ : نَشَدْتُك اللَّهَ أَتَرَى اللَّهَ يُعْصَى قَسْرًا ؟ يَعْنِي : قَهْرًا . فَكَأَنَّمَا أَلْقَمَهُ حَجَرًا ; فَإِنَّ قَوْلَهُ : يُحِبُّ أَنْ يُعْصَى لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ وَقَدْ لَا يَتَأَتَّى فِي الْمُنَاظَرَةِ تَفْسِيرُ الْمُجْمَلَاتِ خَوْفًا مِنْ لَدَدِ الْخَصْمِ فَيُؤْتَى بِالْوَاضِحَاتِ فَقَالَ : أَفَتَرَاهُ يُعْصَى قَسْرًا ؟ فَإِنَّ هَذَا إلْزَامٌ لَهُ بِالْعَجْزِ الَّذِي هُوَ لَازِمٌ لِلْقَدَرِيَّةِ وَلِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُمْ مِنْ الدَّهْرِيَّةِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ إيَاسُ رَأَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ الْمُطَابِقَ لِحَدِّهِمْ خَاصِمٌ لَهُمْ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي التَّفْصِيلِ الَّذِي يَطُولُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ مِنْ السَّلَفِ : لَا يَخَافُ أَنْ يُظْلَمَ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ وَلَا يُهْضَمَ فَيُنْقَصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الظُّلْمُ هُوَ شَيْءٌ مُمْتَنِعٌ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ لَا يَخَافُ مَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ خَارِجٌ عَنْ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمَقْدُورَاتِ ; فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ مُمْكِنًا حَتَّى يَقُولُوا : أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ وَلَوْ أَرَادَهُ كَخَلْقِ الْمِثْلِ لَهُ فَكَيْفَ يُعْقَلُ وُجُودُهُ ؟ فَضْلًا أَنْ يُتَصَوَّرَ خَوْفُهُ حَتَّى يَنْفِيَ خَوْفَهُ ثُمَّ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي نَفْيِ خَوْفِ هَذَا ؟ وَقَدْ عُلِمَ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْعَامِلَ الْمُحْسِنَ لَا يُجْزَى عَلَى إحْسَانِهِ بِالظُّلْمِ وَالْهَضْمِ . فَعُلِمَ أَنَّ الظُّلْمَ وَالْهَضْمَ الْمَنْفِيَّ يَتَعَلَّقُ بِالْجَزَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَجْزِيهِ إلَّا بِعَمَلِهِ ; وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ : أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا مَنْ أَذْنَبَ ; كَمَا قَالَ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } فَلَوْ دَخَلَهَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ أَتْبَاعِهِ لَمْ تَمْتَلِئْ مِنْهُمْ ; وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ تَحَاجِّ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ : " { إنَّ النَّارَ لَا تَمْتَلِئُ مِمَّنْ كَانَ أُلْقِيَ فِيهَا حَتَّى يَنْزَوِيَ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَتَقُولَ قَطْ قَطْ بَعْدَ قَوْلِهَا : { هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَيَبْقَى فِيهَا فَضْلٌ عَمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ } " . وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِيمَنْ لَمْ يُكَلَّفْ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِمْ مَا صَحَّ بِهِ الْحَدِيثُ وَهُوَ : أَنَّ اللَّه أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ فَلَا نَحْكُمُ لِكُلِّ مِنْهُمْ بِالْجَنَّةِ وَلَا لِكُلِّ مِنْهُمْ بِالنَّارِ بَلْ هُمْ يَنْقَسِمُونَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْعِلْمِ إذَا كُلِّفُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَرَصَاتِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } يَدُلُّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ مُحْسِنًا فَيُنْقِصُهُ مِنْ إحْسَانِهِ أَوْ يَجْعَلُهُ لِغَيْرِهِ وَلَا يَظْلِمُ مُسِيئًا فَيَجْعَلُ عَلَيْهِ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ بَلْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى } { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ وِزْرِ غَيْرِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا مَا سَعَاهُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ تَعْذِيبَ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ يُنَافِي الْأَوَّلَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ; إذْ ذَلِكَ النَّائِحُ يُعَذَّبُ بِنَوْحِهِ لَا يُحَمَّلُ الْمَيِّتُ وِزْرَهُ وَلَكِنَّ الْمَيِّتَ يَنَالُهُ أَلَمٌ مِنْ فِعْلِ هَذَا كَمَا يَتَأَلَّمُ الْإِنْسَانُ مِنْ أُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْ كَسْبِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَزَاءَ الْكَسْبِ . وَالْعَذَابُ أَعَمُّ مِنْ الْعِقَابِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ } " . وَكَذَلِكَ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ انْتِفَاعَ الْمَيِّتِ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الْحَيِّ يُنَافِي قَوْلَهُ : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; فَإِنَّ انْتِفَاعَ الْمَيِّتِ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الْحَيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآيَةِ كَانْتِفَاعِهِ بِالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْآيَةَ تُخَالِفُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ بَلْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآيَةِ كَانْتِفَاعِهِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالشَّفَاعَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا يُبَيِّنُ انْتِفَاعَ الْإِنْسَانِ بِسَعْيِ غَيْرِهِ ; إذْ الْآيَةُ إنَّمَا نَفَتْ اسْتِحْقَاقَ السَّعْيِ وَمِلْكَهُ ; وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يَمْلِكُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهِ مَالِكُهُ وَمُسْتَحِقُّهُ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْهُ فَهَذَا نَوْعٌ وَهَذَا نَوْعٌ وَكَذَلِكَ لَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ مَنْفَعَةٌ ; فَإِنَّ هَذَا كَذِبٌ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ . وَهَذِهِ النُّصُوصُ النَّافِيَةُ لِلظُّلْمِ تُثْبِتُ الْعَدْلَ فِي الْجَزَاءِ ; وَأَنَّهُ لَا يُبْخَسُ عَامِلٌ عَمَلَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِيمَنْ عَاقَبَهُمْ : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } وَقَوْلُهُ { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } بَيَّنَ أَنَّ عِقَابَ الْمُجْرِمِينَ عَدْلًا لِذُنُوبِهِمْ لَا لِأَنَّا ظَلَمْنَاهُمْ فَعَاقَبْنَاهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ : " { لَوْ عَذَّبَ اللَّهُ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ } " يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَذَابَ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ ; لَا لِكَوْنِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مِنْ الظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ عُقُوبَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ } { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا ; لِاسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ ; وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَمْدَحَ الْمَمْدُوحَ بِعَدَمِ إرَادَتِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَدْحُ بِتَرْكِ الْأَفْعَالِ إذَا كَانَ الْمَمْدُوحُ قَادِرًا عَلَيْهَا فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ مِنْ الظُّلْمِ وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَبِذَلِكَ يَصِحُّ قَوْلُهُ : " { إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي } " وَأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ الْمَنْعُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ : حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي أَوْ مَنَعْت نَفْسِي مِنْ خَلْقِ مِثْلِي ; أَوْ جَعْلِ الْمَخْلُوقَاتِ خَالِقَةً ; وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَالَاتِ . وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ : إنِّي أَخْبَرْت عَنْ نَفْسِي بِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَقْدُورًا لَا يَكُونُ مِنِّي . وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَتَيَقَّنُ الْمُؤْمِنُ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادَ الرَّبِّ ; وَأَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ إرَادَة مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَلِيقُ الْخِطَابُ بِمِثْلِهِ إذْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ شِبْهَ التَّكْرِيرِ وَإِيضَاحَ الْوَاضِحِ : لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا ثَنَاءٌ وَلَا مَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُسْتَمِعُ فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ أَمْرٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ ; لِأَنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ ; وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِهِ مُقَدَّسٌ عَنْهُ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ النَّاسُ فِي حُدُودِ الظُّلْمِ يَتَنَاوَلُ هَذَا دُونَ ذَلِكَ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَقَوْلِهِمْ : مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ . أَيْ : فَمَا وَضَعَ الشَّبَهَ غَيْرَ مَوْضِعِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكَمٌ عَدْلٌ لَا يَضَعُ الْأَشْيَاءَ إلَّا مَوَاضِعَهَا وَوَضْعُهَا غَيْرَ مَوَاضِعِهَا لَيْسَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ ; بَلْ هُوَ مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ ; بَلْ يَكْرَهُهُ وَيُبْغِضُهُ ; إذْ قَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : الظُّلْمُ إضْرَارٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا بِغَيْرِ حَقٍّ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : هُوَ نَقْصُ الْحَقِّ ; وَذَكَرَ أَنَّ أَصْلَهُ النَّقْصُ كَقَوْلِهِ : { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : هُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَهَذَا لَيْسَ بِمُطَّرِدِ وَلَا مُنْعَكِسٍ فَقَدْ يَتَصَرَّفُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِحَقِّ وَلَا يَكُونُ ظَالِمًا وَقَدْ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَكُونُ ظَالِمًا وَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : فِعْلُ الْمَأْمُورِ خِلَافُ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ إنْ سَلِمَ صِحَّةُ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ فَهُوَ لَا يَفْعَلُ خِلَافَ مَا كَتَبَ وَلَا يَفْعَلُ مَا حَرَّمَ . وَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي نَبَّهْنَا عَلَيْهَا فِيهِ وَإِنَّمَا نُشِيرُ إلَى النُّكَتِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْقَوْلُ الْمُتَوَسِّطُ وَهُوَ : أَنَّ الظُّلْمَ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلَ : أَنْ يَتْرُكَ حَسَنَاتِ الْمُحْسِنِ فَلَا يَجْزِيهِ بِهَا ; وَيُعَاقِبَ الْبَرِيءَ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْ مِنْ السَّيِّئَاتِ ; وَيُعَاقِبَ هَذَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ ; أَوْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِغَيْرِ الْقِسْطِ ; وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهَا لِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ لِأَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الظُّلْمَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ . وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ فَهُوَ أَيْضًا مُنَزَّهٌ عَنْ أَفْعَالِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ . وَعَلَى قَوْلِ الْفَرِيقِ الثَّانِي مَا ثَمَّ فَعَلَ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ أَصْلًا وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَلَكِنَّ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لَمَّا نَاظَرُوا مُتَكَلِّمَةَ النَّفْيِ أَلْزَمُوهُمْ لَوَازِمَ لَمْ يَنْفَصِلُوا عَنْهَا إلَّا بِمُقَابَلَةِ الْبَاطِلِ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا مِمَّا عَابَهُ الْأَئِمَّةُ وَذَمُّوهُ كَمَا عَابَ الأوزاعي وَالزُّبَيْدِيُّ وَالثَّوْرِيّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ مُقَابَلَةَ الْقَدَرِيَّةِ بِالْغُلُوِّ فِي الْإِثْبَاتِ وَأَمَرُوا بِالِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَمَا عَابُوا أَيْضًا عَلَى مَنْ قَابَلَ الجهمية نفاة الصِّفَاتِ بِالْغُلُوِّ فِي الْإِثْبَاتِ حَتَّى دَخَلَ فِي تَمْثِيلِ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا وَهَذَا وَذَكَرْنَا كَلَامَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى " مَسْأَلَةِ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ " فَمَنْ قَالَ : الْعَقْلُ يُعْلَمُ بِهِ حُسْنُ الْأَفْعَالِ وَقُبْحُهَا فَإِنَّهُ يُنَزِّهُ الرَّبَّ عَنْ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَمَنْ قَالَ : لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّمْعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ النَّهْيِ فِي حَقِّهِ قِيلَ لَهُ : لَيْسَ بِنَاءُ هَذِهِ عَلَى تِلْكَ بِلَازِمِ وَبِتَقْدِيرِ لُزُومِهَا فَفِي تِلْكَ تَفْصِيلٌ وَتَحْقِيقٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَذَلِكَ أَنَّا فَرَضْنَا أَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَقْلِ حُسْنَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَقُبْحَهَا ; لَكِنَّ الْعَقْلَ لَا يَقُولُ : إنَّ الْخَالِقَ كَالْمَخْلُوقِ ; حَتَّى يَكُونَ مَا جَعَلَهُ حَسَنًا لِهَذَا أَوْ قَبِيحًا لَهُ جَعَلَهُ حَسَنًا لِلْآخَرِ أَوْ قَبِيحًا لَهُ ; كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ ; لِمَا بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ مِنْ الْفُرُوقِ الْكَثِيرَةِ . وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ حُسْنَ الْأَفْعَالِ وَقُبْحَهَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ فَالشَّرْعُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَفْعَالٍ وَأَحْكَامٍ - فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهَا - تَارَةً بِخَبَرِهِ مُثْنِيًا عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا ; وَتَارَةً بِخَبَرِهِ أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ . فَنَقُولُ : النَّاسُ لَهُمْ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ مَا يَصْلُحُ مِنْهُ وَيَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : طَرَفَانِ وَوَسَطٌ . فَالطَّرَفُ الْوَاحِدُ : طَرَفُ الْقَدَرِيَّةِ وَهُمْ الَّذِينَ حَجَرُوا عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ إلَّا مَا ظَنُّوا بِعَقْلِهِمْ أَنَّهُ الْجَائِزُ لَهُ حَتَّى وَضَعُوا لَهُ شَرِيعَةَ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ بِعَقْلِهِمْ أُمُورًا كَثِيرَةً وَحَرَّمُوا عَلَيْهِ بِعَقْلِهِمْ أُمُورًا كَثِيرَةً ; لَا بِمَعْنَى : أَنَّ الْعَقْلَ آمِرٌ لَهُ وَنَاهٍ ; فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ بَلْ بِمَعْنَى : أَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ مِمَّا عُلِمَ بِالْعَقْلِ وُجُوبُهَا وَتَحْرِيمُهَا وَلَكِنْ أَدْخَلُوا فِي ذَلِكَ [ مِنْ ] الْمُنْكَرَاتِ مَا بَنَوْهُ عَلَى بِدْعَتِهِمْ فِي التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ . وَالطَّرَفُ الثَّانِي : طَرَفُ الْغُلَاةِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا : لَا يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْ فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ وَلَا نَعْلَمُ وَجْهَ امْتِنَاعِ الْفِعْلِ مِنْهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ خَبَرِهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ الْمُطَابِقِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ . وَهَؤُلَاءِ مَنَعُوا حَقِيقَةَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ كِتَابًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ : إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي } " وَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُجَرَّدَ الْمُطَابِقَ لِلْعِلْمِ لَا يُبَيِّنُ وَجْهَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ ; إذْ الْعِلْمُ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ ; فَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ هَذَا وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِأَنَّهُ كَتَبَ هَذَا عَلَى نَفْسِهِ وَحَرَّمَ هَذَا عَلَى نَفْسِهِ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ عَنْ كَائِنٍ مَنْ كَانَ أَنَّهُ يَفْعَلُ كَذَا وَلَا يَفْعَلُ كَذَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا بَيَانٌ لِكَوْنِهِ مَحْمُودًا مَمْدُوحًا عَلَى فِعْلِ هَذَا وَتَرْكِ هَذَا ; وَلَا فِي ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ قِيَامَ الْمُقْتَضِي لِهَذَا وَالْمَانِعِ مِنْ هَذَا ; فَإِنَّ الْخَبَرَ الْمَحْضَ كَاشِفٌ عَنْ الْمُخْبِرِ عَنْهُ ; لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَا يَدْعُو إلَى الْفِعْلِ وَلَا إلَى التَّرْكِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } { وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ } فَإِنَّ التَّحْرِيمَ مَانِعٌ مِنْ الْفِعْلِ وَكِتَابَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ دَاعِيَةٌ إلَى الْفِعْلِ ; وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ ; إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ كِتَابَتِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ وَهُوَ كِتَابَةُ التَّقْدِيرِ كَمَا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : " { أَنَّهُ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } " ; فَإِنَّهُ قَالَ : { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وَلَوْ أُرِيدَ كِتَابَةُ التَّقْدِيرِ لَكَانَ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْغَضَبَ كَمَا كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ; إذْ كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْخَبَرِ عَمَّا سَيَكُونُ وَلَكَانَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ كُلَّ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ الْإِحْسَانِ كَمَا حَرَّمَ الظُّلْمَ . وَكَمَا أَنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ فِي حَقِّنَا بَيْنَ [ قَوْله تَعَالَى ] : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } وَبَيْنَ قَوْلِهِ : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } وَقَوْلِهِ : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } وَقَوْلِهِ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] : " { فَيُبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ لَهُ : اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ } " . فَهَكَذَا الْفَرْقُ أَيْضًا ثَابِتٌ فِي حَقِّ اللَّهِ . وَنَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كِتَابَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ؟ قُلْت : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ قُلْت ؟ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ } " وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ : " كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَذَا " . فَهَذَا الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ هُوَ أَحَقَّهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ . وَنَظِيرُ تَحْرِيمِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قَسَمِهِ لَيَفْعَلَن وَكَلِمَتُهُ السَّابِقَةُ كَقَوْلِهِ : { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ } وَقَوْلِهِ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ } { لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } ؟ { فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْقَسَمِ الْمُتَضَمِّنَةِ مَعْنَى الْإِيجَابِ وَالْمَعْنَى بِخِلَافِ الْقَسَمِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْخَبَرِ الْمَحْضِ . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : الْيَمِينُ إمَّا أَنْ تُوجِبَ حَقًّا ; أَوْ مَنْعًا ; أَوْ تَصْدِيقًا ; أَوْ تَكْذِيبًا . وَإِذَا كَانَ مَعْقُولًا فِي الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَكُونُ آمِرًا مَأْمُورًا كَقَوْلِهِ : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } وَقَوْلِهِ : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ آمِرٌ وَنَاهٍ فَوْقَهُ وَالرَّبُّ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ لَأَنْ يَتَصَوَّرَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ الْكَاتِبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَالنَّاهِي الْمُحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ أَوْلَى وَأَحْرَى وَكِتَابَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ تَسْتَلْزِمُ إرَادَتَهُ لِذَلِكَ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ وَرِضَاهُ بِذَلِكَ وَتَحْرِيمُهُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ يَسْتَلْزِمُ بُغْضَهُ لِذَلِكَ وَكَرَاهَتَهُ لَهُ وَإِرَادَتَهُ وَمَحَبَّتُهُ لِلْفِعْلِ تُوجِبُ وُقُوعَهُ مِنْهُ وَبُغْضَهُ لَهُ وَكَرَاهَتَهُ لِأَنْ يَفْعَلَهُ يَمْنَعُ وُقُوعَهُ مِنْهُ . فَأَمَّا مَا يُحِبُّهُ وَيُبْغِضُهُ مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ فَذَلِكَ نَوْعٌ آخَرُ فَفَرْقٌ بَيْنَ فِعْلِهِ هُوَ وَبَيْنَ مَا هُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ لَهُ وَلَيْسَ فِي مَخْلُوقِهِ مَا هُوَ ظُلْمٌ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى فَاعِلِهِ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ هُوَ ظُلْمٌ كَمَا أَنَّ أَفْعَالَ الْإِنْسَانِ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَكُونُ سَرِقَةً وَزِنًا وَصَلَاةً وَصَوْمًا وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُهَا بِمَشِيئَتِهِ وَلَيْسَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَذَلِكَ إذْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ هِيَ لِلْفَاعِلِ الَّذِي قَامَ بِهِ هَذَا الْفِعْلُ كَمَا أَنَّ الصِّفَاتِ هِيَ صِفَاتٌ لِلْمَوْصُوفِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ لَا لِلْخَالِقِ الَّذِي خَلَقَهَا وَجَعَلَهَا صِفَاتٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ مَوْصُوفٍ وَصِفَتَهُ . ثُمَّ صِفَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَتْ صِفَاتٍ لَهُ : كَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ لِعَدَمِ قِيَامِ ذَلِكَ بِهِ . وَكَذَلِكَ حَرَكَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَتْ حَرَكَاتٍ لَهُ وَلَا أَفْعَالًا لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ; لِكَوْنِهَا مَفْعُولَاتٍ هُوَ خَلَقَهَا . وَبِهَذَا الْفَرْقُ تَزُولُ شُبَهٌ كَثِيرَةٌ وَالْأَمْرُ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ تَرْكِ هَذَا الَّذِي لَوْ تُرِكَ لَكَانَ تَرْكُهُ نَقْصًا وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ فِعْلِهِ الَّذِي لَوْ كَانَ لَأَوْجَبَ نَقْصًا . وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عِنْدَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَهُوَ أَيْضًا مُسْتَقِرٌّ فِي قُلُوبِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْقَدَرِيَّةَ شَبَّهُوا عَلَى النَّاسِ بِشُبَهِهِمْ فَقَابَلَهُمْ مَنْ قَابَلَهُمْ بِنَوْعِ مِنْ الْبَاطِلِ كَالْكَلَامِ الَّذِي كَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يَذُمُّونَهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالُوا : قَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَالِمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالظَّالِمُ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ كَمَا أَنَّ الْعَادِلَ مَنْ فَعَلَ الْعَدْلَ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ سَمْعًا وَعَقْلًا قَالُوا : وَلَوْ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ الَّتِي هِيَ الظُّلْمُ لَكَانَ ظَالِمًا . فَعَارَضَهُمْ هَؤُلَاءِ بِأَنْ قَالُوا : لَيْسَ الظَّالِمُ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ بَلْ الظَّالِمُ مَنْ قَامَ بِهِ الظُّلْمُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الظَّالِمُ مَنْ اكْتَسَبَ الظُّلْمَ وَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الظَّالِمُ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَوْ مَا نُهِيَ عَنْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ لِنَفْسِهِ . وَهَؤُلَاءِ يَعْنُونَ : أَنْ يَكُونَ النَّاهِي لَهُ وَالْمُحَرَّمُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ ; وَلِهَذَا كَانَ تَصَوُّرُ الظُّلْمِ مِنْهُ مُمْتَنِعًا عِنْدَهُمْ لِذَاتِهِ ; كَامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ آمِرٌ لَهُ وَنَاهٍ . وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ الطَّائِفَتَيْنِ أَنْ يَعُودَ إلَى الرَّبِّ مِنْ أَفْعَالِهِ حُكْمٌ لِنَفْسِهِ . وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُنَازِعُوا أُولَئِكَ فِي أَنَّ الْعَادِلَ مَنْ فَعَلَ الْعَدْلَ بَلْ سَلَّمُوا ذَلِكَ لَهُمْ وَإِنْ نَازَعَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ مُنَازَعَةً عنادية . وَاَلَّذِي يَكْشِفُ تَلْبِيسَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ : الظَّالِمُ وَالْعَادِلُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لِلظُّلْمِ وَالْعَدْلِ فَذَلِكَ يَأْثَمُ بِهِ أَيْضًا وَلَا يَعْرِفُ النَّاسُ مَنْ يُسَمَّى ظَالِمًا وَلَمْ يَقُمْ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي بِهِ صَارَ ظَالِمًا بَلْ لَا يَعْرِفُونَ ظَالِمًا إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي فَعَلَهُ وَبِهِ صَارَ ظَالِمًا ; وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ وَلَهُ مَفْعُولٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ . لَكِنْ لَا يَعْرِفُونَ الظَّالِمَ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ قَامَ بِهِ ذَلِكَ فَكَوْنُكُمْ أَخَذْتُمْ فِي حَدِّ الظَّالِمِ أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ وَعَنَيْتُمْ بِذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ . فَهَذَا تَلْبِيسٌ وَإِفْسَادٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ كَمَا فَعَلْتُمْ فِي مُسَمَّى الْمُتَكَلِّمِ حَيْثُ قُلْتُمْ : هُوَ مِنْ فِعْلِ الْكَلَامِ وَلَوْ فِي غَيْرِهِ . وَجَعَلْتُمْ مَنْ أَحْدَثَ كَلَامًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ قَائِمًا بِغَيْرِهِ مُتَكَلِّمًا وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ هُوَ كَلَامٌ أَصْلًا . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبُهْتَانِ وَالْقَرْمَطَةِ وَالسَّفْسَطَةِ . وَلِهَذَا أَلْزَمَهُمْ السَّلَفُ أَنْ يَكُونَ مَا أَحْدَثَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْجَمَادَاتِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا خَلَقَهُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَلَا يُفَرِّقُ حِينَئِذٍ بَيْنَ نَطَقَ وَأَنْطَقَ وَإِنَّمَا قَالَتْ الْجُلُودُ : { أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } وَلَمْ تَقُلْ نَطَقَ اللَّهُ بِذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ كَسُلَيْمَانَ بْنِ داود الْهَاشِمِيِّ وَغَيْرِهِ مَا مَعْنَاهُ : أَنَّهُ عَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ الَّذِي خُلِقَ فِي فِرْعَوْنَ حَتَّى قَالَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } كَالْكَلَامِ الَّذِي خُلِقَ فِي الشَّجَرَةِ حَتَّى قَالَتْ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ مُحِقًّا أَوْ تَكُونُ الشَّجَرَةُ كَفِرْعَوْنَ . وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِنَحْوِ الِاتِّحَادِيَّةِ مِنْ الجهمية وَيُنْشِدُونَ : وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَهَذَا يَسْتَوْعِبُ أَنْوَاعَ الْكُفْرِ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْأَمْرِ الْبَيِّنِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ : الْمُتَكَلِّمُ لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ أَصْلًا . فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمِ ; إذْ لَيْسَ الْمُتَكَلِّمُ إلَّا هَذَا وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُوهُمْ يَقُولُونَ : لَيْسَ بِمُتَكَلِّمِ . ثُمَّ قَالُوا : هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَذَلِكَ لِمَا اسْتَقَرَّ فِي الْفِطَرِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ فَاعِلًا لَهُ كَمَا يَقُومُ بِالْإِنْسَانِ كَلَامُهُ وَهُوَ كَاسِبٌ لَهُ . أَمَّا أَنْ يَجْعَلَ مُجَرَّدَ إحْدَاثِ الْكَلَامِ فِي غَيْرِهِ كَلَامًا لَهُ : فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ . وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الظُّلْمِ فَهَبْ أَنَّ الظَّالِمَ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ فَلَيْسَ هُوَ مَنْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ فِعْلٌ أَصْلًا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَامَ بِهِ فِعْلٌ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا إلَى غَيْرِهِ فَهَذَا جَوَابٌ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : الظُّلْمُ فِيهِ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ فَهُوَ ظُلْمٌ مِنْ الظَّالِمِ بِمَعْنَى : أَنَّهُ عُدْوَانٌ وَبَغْيٌ مِنْهُ وَهُوَ ظُلْمٌ لِلْمَظْلُومِ بِمَعْنَى أَنَّهُ بَغْيٌ وَاعْتِدَاءٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدًّى عَلَيْهِ بِهِ وَلَا هُوَ مِنْهُ عُدْوَانٌ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ فِي حَقِّهِ لَيْسَ بِظُلْمِ لَا مِنْهُ وَلَا لَهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ خَلْقِهِ لِصِفَاتِهِمْ فَهُمْ الْمَوْصُوفُونَ بِذَلِكَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا جَعَلَ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ أَسْوَدَ وَبَعْضَهَا أَبْيَضَ أَوْ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا أَوْ مُتَحَرِّكًا أَوْ سَاكِنًا أَوْ عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ قَادِرًا أَوْ عَاجِزًا أَوْ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا أَوْ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا أَوْ سَعِيدًا أَوْ شَقِيًّا أَوْ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا : كَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَالطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ وَالْحَيُّ وَالْمَيِّتُ وَالظَّالِمُ وَالْمَظْلُومُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا إحْدَاثُهُ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ ظُلْمٌ مِنْ شَخْصٍ وَظُلْمٌ لِآخَرَ بِمَنْزِلَةِ إحْدَاثِهِ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ الَّذِي هُوَ أَكْلٌ مِنْ شَخْصٍ وَأَكْلٌ لِآخَرَ وَلَيْسَ هُوَ بِذَلِكَ آكِلًا وَلَا مَأْكُولًا . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ . وَإِنْ كَانَ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَازِمِهَا وَمُتَعَدِّيهَا حِكَمٌ بَالِغَةٌ كَمَا لَهُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فِي خَلْقِ صِفَاتِهِمْ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ ; لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ . وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ تَدْلِيسُ الْقَدَرِيَّةِ . وَأَمَّا تِلْكَ الْحُدُودُ الَّتِي عُورِضُوا بِهَا فَهِيَ دَعَاوٍ وَمُخَالِفَةٌ أَيْضًا لِلْمَعْلُومِ مِنْ الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَالْعَقْلِ أَوْ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْإِجْمَالِ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : الظَّالِمُ مَنْ قَامَ بِهِ الظُّلْمُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لَهُ آمِرًا لَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لَهُ مَعَ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ كَانَ اقْتِصَارُهُ عَلَى تَفْسِيرِ الظَّالِمِ بِمَنْ قَامَ بِهِ الظُّلْمُ كَاقْتِصَارِ أُولَئِكَ عَلَى تَفْسِيرِ الظَّالِمِ فِي فِعْلِ الظُّلْمِ وَاَلَّذِي يَعْرِفُهُ النَّ�