تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : " { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي : لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ ; مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمَخِيطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ } .
123456789
فَصْلٌ ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي النَّوْعَيْنِ سُؤَالَ بِرِّهِ وَطَاعَةِ أَمْرِهِ . الَّذِينَ ذَكَرَهُمَا فِي الْحَدِيثِ حَيْثُ ذَكَرَ الِاسْتِهْدَاءَ وَالِاسْتِطْعَامَ وَالِاسْتِكْسَاءَ وَذَكَرَ الْغُفْرَانَ وَالْبِرَّ وَالْفُجُورَ فَقَالَ : " { لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمَخِيطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ } " وَالْخَيَّاطُ وَالْمَخِيطُ : مَا يُخَاطُ بِهِ إذْ الْفَعَّالُ وَالْمُفْعِل والمفعال مِنْ صِيَغِ الْآلَاتِ الَّتِي يَفْعَلُ بِهَا كَالْمُسَعَّرِ والمخلاب وَالْمِنْشَارُ . فَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ إذَا سَأَلُوا وَهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَزَمَانٍ وَاحِدٍ فَأُعْطِيَ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ لَمْ يَنْقُصْهُ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُ إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْخَيَّاطُ " وَهِيَ الْإِبْرَةُ " إذَا غُمِسَ فِي الْبَحْرِ . وَقَوْلُهُ : " { لَمْ يَنْقُصْ مِمَّا عِنْدِي } " فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ أُمُورًا مَوْجُودَةً يُعْطِيهِمْ مِنْهَا مَا سَأَلُوهُ إيَّاهُ وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ : لَفْظُ النَّقْصِ عَلَى حَالِهِ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ مِنْ الْكَثِيرِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُنْقِصَهُ شَيْئًا مَا . وَمَنْ رَوَاهُ : " { لَمْ يَنْقُصْ مِنْ مُلْكِي } " يُحْمَلُ عَلَى مَا عِنْدَهُ كَمَا فِي هَذَا اللَّفْظِ ; فَإِنَّ قَوْلَهُ : " مِمَّا عِنْدِي " فِيهِ تَخْصِيصٌ لَيْسَ هُوَ فِي قَوْلِهِ : " مِنْ مُلْكِي " . وَقَدْ يُقَالُ : الْمُعْطَى : إمَّا أَنْ يَكُونَ أَعْيَانًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا ; أَوْ صِفَاتٍ قَائِمَةً بِغَيْرِهَا . فَأَمَّا الْأَعْيَانُ فَقَدْ تُنْقَلُ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ فَيَظْهَرُ النَّقْصُ فِي الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ . وَأَمَّا الصِّفَاتُ فَلَا تُنْقَلُ مِنْ مَحَلِّهَا وَإِنْ وُجِدَ نَظِيرُهَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ كَمَا يُوجَدُ نَظِيرُ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ فِي قَلْبِ الْمُتَعَلِّمِ مِنْ غَيْرِ زَوَالِ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ وَكَمَا يَتَكَلَّمُ الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي . وَعَلَى هَذَا فَالصِّفَاتُ لَا تُنْقِصُ مِمَّا عِنْدَهُ شَيْئًا وَهِيَ مِنْ الْمَسْئُولِ كَالْهُدَى . وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ مِنْ الْمُمْكِنِ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ أَلَّا يَثْبُتَ مِثْلُهَا فِي الْمَحَلِّ الثَّانِي حَتَّى تَزُولَ عَنْ الْأَوَّلِ : كَاللَّوْنِ الَّذِي يَنْقُصُ وَكَالرَّوَائِحِ الَّتِي تَعْبَقُ بِمَكَانِ وَتَزُولُ ; كَمَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُمَّى الْمَدِينَةِ أَنْ تُنْقَلَ إلَى مهيعة وَهِيَ الْجُحْفَةُ وَهَلْ مِثْلُ هَذَا الِانْتِقَالِ بِانْتِقَالِ عَيْنِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ أَوْ بِوُجُودِ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ عَيْنِهِ ؟ فِيهِ لِلنَّاسِ قَوْلَانِ : إذْ مِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ انْتِقَالَ الْأَعْرَاضِ بَلْ مَنْ يُجَوِّزُ أَنْ تُجْعَلَ الْأَعْرَاضُ أَعْيَانًا ; كَمَا هُوَ قَوْلُ ضِرَارٍ وَالنَّجَّارِ وَأَصْحَابِهِمَا كَبُرْغُوثِ وَحَفْصٍ الْفَرْدِ ; لَكِنْ إنْ قِيلَ : هُوَ بِوُجُودِ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ عَيْنِهِ فَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ اسْتِحَالَةِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ وَفَنَائِهِ فَيُعْدَمُ عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلُّ وَيُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْمَحَلِّ الثَّانِي . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ لَفْظَ النَّقْصِ هُنَا كَلَفْظِ النَّقْصِ فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ ; عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ : " { أَنَّ الْخَضِرَ قَالَ لِمُوسَى لَمَّا وَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى قَارِبِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ : يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ } " وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ نَفْسَ عِلْمِ اللَّهِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ لَا يَزُولُ مِنْهُ شَيْءٌ بِتَعَلُّمِ الْعِبَادِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ نِسْبَةَ عِلْمِي وَعِلْمِك إلَى عِلْمِ اللَّهِ كَنِسْبَةِ مَا عَلِقَ بِمِنْقَارِ الْعُصْفُورِ إلَى الْبَحْرِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كَوْنُ الْعِلْمِ يُورَثُ كَقَوْلِهِ : { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ } وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } وَمِنْهُ تَوْرِيثُ الْكِتَابِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنْ النَّقْصِ وَنَحْوِهِ تُسْتَعْمَلُ فِي هَذَا وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ الْأَوَّلُ ثَابِتًا . كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لقتادة وَقَدْ أَقَامَ عِنْدَهُ أُسْبُوعًا سَأَلَهُ فِيهِ مَسَائِلَ عَظِيمَةً حَتَّى عَجِبَ مِنْ حِفْظِهِ وَقَالَ : نَزَفْتنِي يَا أَعْمَى وَإِنْزَافُ الْقَلِيبِ وَنَحْوُهُ هُوَ رَفْعُ مَا فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ قتادة لَوْ تَعَلَّمَ جَمِيعَ عِلْمِ سَعِيدٍ لَمْ يَزُلْ عِلْمُهُ مِنْ قَلْبِهِ كَمَا يَزُولُ الْمَاءُ مِنْ الْقَلِيبِ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : التَّعْلِيمُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْكَلَامِ وَالْكَلَامُ يَحْتَاجُ إلَى حَرَكَةٍ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَكُونُ بِالْمَحَلِّ وَيَزُولُ عَنْهُ ; وَلِهَذَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا } . وَيُقَالُ : قَدْ أَخْرَجَ الْعَالِمُ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَمْ يُخَرِّجْ هَذَا فَإِذَا كَانَ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ بِالْكَلَامِ الْمُسْتَلْزَمِ زَوَالَ بَعْضِ مَا يَقُومُ بِالْمَحَلِّ وَهَذَا نَزِيفٌ وَخُرُوجٌ : كَانَ كَلَامُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَلَى حَقِيقَتِهِ . وَمَضْمُونُهُ : أَنَّهُ فِي تِلْكَ السَّبْعِ اللَّيَالِي مِنْ كَثْرَةِ مَا أَجَابَهُ وَكَلَّمَهُ فَارَقَهُ أُمُورٌ قَامَتْ بِهِ مِنْ حَرَكَاتٍ وَأَصْوَاتٍ ; بَلْ وَمِنْ صِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِالنَّفْسِ كَانَ ذَلِكَ نَزِيفًا وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ عِلْمُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ هُوَ أَمْرًا لَازِمًا لِلنَّفْسِ لُزُومَ الْأَلْوَانِ لِلْمُتَلَوِّنَاتِ بَلْ قَدْ يَذْهَلُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ وَيَغْفُلُ وَقَدْ يَنْسَاهُ ثُمَّ يَذْكُرُهُ فَهُوَ شَيْءٌ يَحْضُرُ تَارَةً وَيَغِيبُ أُخْرَى . وَإِذَا تَكَلَّمَ بِهِ الْإِنْسَانُ وَعَلِمَهُ فَقَدْ تَكِلُ النَّفْسُ وَتَعِي حَتَّى لَا يَقْوَى عَلَى اسْتِحْضَارِهِ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ فَتَكُونُ فِي تِلْكَ الْحَالِ خَالِيَةً عَنْ كَمَالِ تَحَقُّقِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعَالِمُ عَالِمًا بِالْفِعْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَفْسُ مَا زَالَ هُوَ بِعَيْنِهِ الْقَائِمُ فِي نَفْسِ السَّائِلِ وَالْمُسْتَمِعِ وَمَنْ قَالَ هَذَا يَقُولُ : كَوْنُ التَّعْلِيمِ يُرَسِّخُ الْعِلْمَ مِنْ وَجْهٍ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا النَّقْصِ وَالنَّزِيفِ مَعْقُولًا فِي عِلْمِ الْعِبَادِ كَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ النَّقْصِ فِي عِلْمِ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى اللُّغَةِ الْمُعْتَادَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ هُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنْ اتِّصَافِهِ بِضِدِّ الْعِلْمِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ أَوْ عَنْ زَوَالِ عِلْمِهِ عَنْهُ لَكِنْ فِي قِيَامِ أَفْعَالٍ بِهِ وَحَرَكَاتِ نِزَاعٍ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ . وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ : أَنَّ الْمُرَادَ مَا أَخَذَ عِلْمِي وَعِلْمُك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَمَا نَالَ عِلْمِي وَعِلْمُك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَمَا أَحَاطَ عِلْمِي وَعِلْمَك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ كَمَا قَالَ : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } إلَّا كَمَا نَقَصَ أَوْ أَخَذَ أَوْ نَالَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ أَيْ : نِسْبَةُ هَذَا إلَى هَذَا كَنِسْبَةِ هَذَا إلَى هَذَا وَإِنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ جِسْمًا يَنْتَقِلُ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ وَيَزُولُ عَنْ الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ الْمُشَبَّهُ كَذَلِكَ ; فَإِنَّ هَذَا الْفَرْقَ هُوَ فَرْقٌ ظَاهِرٌ يَعْلَمُهُ الْمُسْتَمِعُ مِنْ غَيْرِ الْتِبَاسٍ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } " فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْمَرْئِيِّ فِي الرُّؤْيَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالرُّؤْيَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا ; لَكِنْ قَدْ عَلِمَ الْمُسْتَمِعُونَ أَنَّ الْمَرْئِيَّ لَيْسَ مِثْلَ الْمَرْئِيِّ فَكَذَلِكَ هُنَا شَبَّهَ النَّقْصَ بِالنَّقْصِ ; وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ النَّاقِصِ وَالْمَنْقُوصِ وَالْمَنْقُوصِ مِنْهُ الْمُشَبَّهِ [ بِهِ ] لَيْسَ مِثْلَ النَّاقِصِ وَالْمَنْقُوصِ وَالْمَنْقُوصُ مِنْهُ الْمُشَبَّهُ بِهِ . وَلِهَذَا كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُعَلِّمَ لَا يَزُولُ عِلْمُهُ بِالتَّعْلِيمِ بَلْ يُشَبِّهُونَهُ بِضَوْءِ السِّرَاجِ الَّذِي يَحْدُثُ : يَقْتَبِسُ مِنْهُ كُلُّ أَحَدٍ وَيَأْخُذُونَ مَا شَاءُوا مِنْ الشُّهُبِ وَهُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ وَهَذَا تَمْثِيلٌ مُطَابِقٌ ; فَإِنَّ الْمُسْتَوْقِدَ مِنْ السِّرَاجِ يُحْدِثُ اللَّهُ فِي فَتِيلَتِهِ أَوْ وَقُودِهِ نَارًا مِنْ جِنْسِ تِلْكَ النَّارِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ : إنَّهَا تَسْتَحِيلُ عَنْ ذَلِكَ الْهَوَاءِ مَعَ أَنَّ النَّارَ الْأُولَى بَاقِيَةٌ كَذَلِكَ الْمُتَعَلِّمُ يَجْعَلُ فِي قَلْبِهِ مِثْلَ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ مَعَ بَقَاءِ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ أَوْ قَالَ : عَلَى التَّعْلِيمِ ; وَالْمَالُ يُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ . وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : إنَّ قَوْلَهُ " مِمَّا عِنْدِي " ; وَقَوْلَهُ : " مِنْ مُلْكِي " هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَحِينَئِذٍ فَلَهُ وَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَا أَعْطَاهُمْ خَارِجًا عَنْ مُسَمَّى مُلْكِهِ وَمُسَمَّى مَا عِنْدَهُ كَمَا أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ نَفْسُ عِلْمِ مُوسَى وَالْخَضِرِ . ( وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ : بَلْ لَفْظُ الْمُلْكِ وَمَا عِنْدَهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَيْءٍ وَمَا أَعْطَاهُمْ فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ مُلْكِهِ وَمِمَّا عِنْدَهُ وَلَكِنَّ نِسْبَتَهُ إلَى الْجُمْلَةِ هَذِهِ النِّسْبَةُ الْحَقِيرَةُ . وَمِمَّا يُحَقِّقُ هَذَا الْقَوْلَ الثَّانِيَ : أَنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ ; عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا فِيهِ : " { لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ; وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ; وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمْ ; سَأَلُونِي حَتَّى تَنْتَهِيَ مَسْأَلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَعْطَيْتهمْ مَا سَأَلُونِي ; مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي كَمَغْرَزِ إبْرَةٍ لَوْ غَمَسَهَا أَحَدُكُمْ فِي الْبَحْرِ وَذَلِكَ إنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ وَاجِدٌ عَطَائِي كَلَامٌ وَعَذَابِي كَلَامٌ إنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءِ إذَا أَرَدْته أَنْ أَقُولَ لَهُ : كُنْ ; فَيَكُونُ } " فَذِكْرُهُ سُبْحَانَهُ : أَنَّ عَطَاءَهُ كَلَامٌ وَعَذَابَهُ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : " مِنْ مُلْكِي " وَ " مِمَّا عِنْدِي " أَيْ : مِنْ مَقْدُورِي فَيَكُونُ هَذَا فِي الْقُدْرَةِ كَحَدِيثِ الْخَضِرِ فِي الْعِلْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ الَّذِي فِي نُسْخَةِ أَبِي مُسْهِرٍ : { لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا إلَّا كَمَا يَنْقُصْ الْبَحْرُ } " وَهَذَا قَدْ يُقَالُ فِيهِ : إنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ : لَمْ يَنْقُصْ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا لَكِنْ يَكُونُ حَالُهُ حَالَ هَذِهِ النِّسْبَةِ وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ هُوَ تَامٌّ وَالْمَعْنَى عَلَى مَا سَبَقَ .