تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : " { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تظالموا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي : لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ ; مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمَخِيطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ } .
123456789
فَصْلٌ فَلَمَّا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْعَدْلِ وَحَرَّمَهُ مِنْ الظُّلْمِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عِبَادِهِ : ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ إحْسَانَهُ إلَى عِبَادِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَفَقْرِهِمْ إلَيْهِ وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُيَسِّرَ لِذَلِكَ . وَأَمَرَ الْعِبَادَ أَنْ يَسْأَلُوهُ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعِهِ وَلَا ضَرِّهِ مَعَ عِظَمِ مَا يُوصِلُ إلَيْهِمْ مِنْ النَّعْمَاءِ ; وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ مِنْ الْبَلَاءِ . وَجَلْبُ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا ; فَصَارَتْ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : الْهِدَايَةُ : وَالْمَغْفِرَةُ ; وَهُمَا : جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ فِي الدِّينِ وَالطَّعَامِ ; وَالْكُسْوَةِ وَهُمَا : جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ فِي الدُّنْيَا . وَإِنْ شِئْت قُلْت : الْهِدَايَةُ وَالْمَغْفِرَةُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَلِكُ الْبَدَنِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ الْإِرَادِيَّةِ . وَالطَّعَامُ وَالْكُسْوَةُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْبَدَنِ : الطَّعَامُ لِجَلْبِ مَنْفَعَتِهِ وَاللِّبَاسُ لِدَفْعِ مَضَرَّتِهِ . وَفَتْحُ الْأَمْرِ بِالْهِدَايَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ الْهِدَايَةُ النَّافِعَةُ هِيَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالدِّينِ فَكُلُّ أَعْمَالِ النَّاسِ تَابِعَةٌ لِهُدَى اللَّهِ إيَّاهُمْ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } وَقَالَ مُوسَى : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } وَقَالَ : { إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } . وَلِهَذَا قِيلَ : الْهُدَى أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : ( أَحَدُهَا : الْهِدَايَةُ إلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا ; فَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَالْأَعْجَمِ ; وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ . ( وَالثَّانِي الْهُدَى بِمَعْنَى دُعَاءِ الْخَلْقِ إلَى مَا يَنْفَعُهُمْ وَأَمْرِهِمْ بِذَلِكَ وَهُوَ نَصْبُ الْأَدِلَّةِ وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ فَهَذَا أَيْضًا يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ كَفَرُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَهَذَا مَعَ قَوْلِهِ : { إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } يُبَيِّنُ أَنَّ الْهُدَى الَّذِي أَثْبَتَهُ هُوَ الْبَيَانُ وَالدُّعَاءُ ; وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ; وَالتَّعْلِيمُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْهُدَى الَّذِي نَفَاهُ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : الْهُدَى الَّذِي هُوَ جَعْلُ الْهُدَى فِي الْقُلُوبِ . وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ بِالْإِلْهَامِ وَالْإِرْشَادِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : هُوَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ ; كَالتَّوْفِيقِ عِنْدَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ جَعَلَ التَّوْفِيقَ وَالْهُدَى وَنَحْوَ ذَلِكَ خَلْقَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُمَا اسْتِطَاعَتَانِ : إحْدَاهُمَا : قَبْلَ الْفِعْلِ وَهِيَ الِاسْتِطَاعَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي التَّكْلِيفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَان بْنِ حُصَيْنٍ : " { صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } " وَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ يَقْتَرِنُ بِهَا الْفِعْلُ تَارَةً وَالتَّرْكُ أُخْرَى وَهِيَ الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي لَمْ تَعْرِفْ الْقَدَرِيَّةُ غَيْرَهَا كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لَمْ يَعْرِفُوا إلَّا الْمُقَارَنَةَ . وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ فَإِثْبَاتُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ تُثْبِتُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا . وَالثَّانِيَةُ : الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ ; وَهِيَ الْمُوجِبَةُ لَهُ وَهِيَ الْمَنْفِيَّةُ عَمَّنْ لَمْ يَفْعَلْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } وَفِي قَوْلِهِ : { لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } وَهَذَا الْهُدَى الَّذِي يَكْثُرُ ذَكَرَهُ فِي الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وَقَوْلِهِ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } وَفِي قَوْلِهِ : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي تُنْكِرُ الْقَدَرِيَّةُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْفَاعِلَ لَهُ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي يَهْدِي نَفْسَهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَأَمْثَالُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ; حَيْثُ قَالَ : " { يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ } فَأَمَرَ الْعِبَادَ بِأَنْ يَسْأَلُوهُ الْهِدَايَةَ كَمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وَعِنْدَ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُقَدِّرُ مِنْ الْهُدَى إلَّا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ : إرْسَالِ الرُّسُلِ وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَّةِ وَلَا مِزْيَةَ عِنْدَهُمْ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ فِي هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا نِعْمَةَ لَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَى الْكَافِرِ فِي بَابِ الْهُدَى . وَقَدْ بَيَّنَ الِاخْتِصَاصَ فِي هَذِهِ بَعْدَ عُمُومِ الدَّعْوَةِ فِي قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَقَدْ جَمَعَ الْحَدِيثَ : تَنْزِيهُهُ عَنْ الظُّلْمِ الَّذِي يُجَوِّزُهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُثْبِتَةِ وَبَيَانُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي عِبَادَهُ رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ . فَأَخْبَرَ هُنَاكَ بِعَدْلِهِ الَّذِي يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْمُثْبِتَةِ وَأَخْبَرَ هُنَا بِإِحْسَانِهِ وَقُدْرَتِهِ الَّذِي تُنْكِرُهُ الْقَدَرِيَّةُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَصَدَهُ تَعْظِيمًا لَا يَعْرِفُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ . وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ : الْهُدَى فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } { وَهُدُوا إلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } فَقَوْلُهُ : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } كَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ . وَهَذَا الْهُدَى ثَوَابُ الِاهْتِدَاءِ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَنَّ ضَلَالَ الْآخِرَةِ جَزَاءُ ضَلَالِ الدُّنْيَا ; وَكَمَا أَنَّ قَصْدَ الشَّرِّ فِي الدُّنْيَا جَزَاؤُهُ الْهُدَى إلَى طَرِيقِ النَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ } { مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } . وَقَالَ : { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا } وَقَالَ : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } وَقَالَ : { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا } الْآيَةَ فَأَخْبَرَ أَنَّ الضَّالِّينَ فِي الدُّنْيَا يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا فَإِنَّ الْجَزَاءَ أَبَدًا مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } " وَقَالَ : " { مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } " . وَقَالَ : " { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ } " . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } وَقَالَ : { إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَلِهَذَا أَيْضًا يَجْزِي الرَّجُلَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ خَيْرِ الْهُدَى بِمَا يَفْتَحُ عَلَيْهِ مِنْ هُدًى آخَرَ وَلِهَذَا قِيلَ : مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } إلَى قَوْلِهِ : { مُسْتَقِيمًا } وَقَالَ : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } . وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } . وَقَالَ : { إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } فَسَّرُوهُ بِالنَّصْرِ وَالنَّجَاةِ كَقَوْلِهِ : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } . وَقَدْ قِيلَ : نُورٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } وَعَدَ الْمُتَّقِينَ بِالْمَخَارِجِ مِنْ الضِّيقِ وَبِرِزْقِ الْمَنَافِعِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } وَقَوْلُهُ : { إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } { وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا } . وَبِإِزَاءِ ذَلِكَ أَنَّ الضَّلَالَ وَالْمَعَاصِيَ تَكُونُ بِسَبَبِ الذُّنُوبِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } وَقَالَ : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } . وَقَالَ : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } إلَى قَوْلِهِ : { لَا يُؤْمِنُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { يَعْمَهُونَ } . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : أَنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا وَأَنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا . وَقَدْ شَاعَ فِي لِسَانِ الْعَامَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } مِنْ الْبَابِ الْأَوَّلِ ; حَيْثُ يَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى سَبَبُ تَعْلِيمِ اللَّهِ وَأَكْثَرُ الْفُضَلَاءِ يَطْعَنُونَ فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْبُطْ الْفِعْلَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ رَبْطَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ فَلَمْ يَقُلْ ; وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ وَلَا قَالَ فَيُعَلِّمُكُمْ . وَإِنَّمَا أَتَى بِوَاوِ الْعَطْفِ وَلَيْسَ مِنْ الْعَطْفِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبُ الثَّانِي وَقَدْ يُقَالُ الْعَطْفُ قَدْ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاقْتِرَانِ وَالتَّلَازُمِ كَمَا يُقَالُ : زُرْنِي وَأَزُورُك ; وَسَلِّمْ عَلَيْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْك وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي اقْتِرَانَ الْفِعْلَيْنِ وَالتَّعَاوُضَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ لِسَيِّدِهِ : أَعْتِقْنِي وَلَك عَلَيَّ أَلْفٌ ; أَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي وَلَك أَلْفٌ ; أَوْ اخْلَعْنِي وَلَك أَلْفٌ ; فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا بِأَلْفِ أَوْ عَلَيَّ أَلْفٌ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَوْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ ; فَإِنَّهُ كَقَوْلِهِ : عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ بِأَلْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَوْلٌ شَاذٌّ وَيَقُولُ أَحَدُ الْمُتَعَاوِضَيْنِ لِلْآخَرِ : أُعْطِيك هَذَا وَآخُذُ هَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ فَيَقُولُ الْآخَرُ : نَعَمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا هُوَ السَّبَبَ لِلْآخَرِ دُونَ الْعَكْسِ . فَقَوْلُهُ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَكُلٌّ مِنْ تَعْلِيمِ الرَّبِّ وَتَقْوَى الْعَبْدِ يُقَارِبُ الْآخَرَ وَيُلَازِمُهُ وَيَقْتَضِيهِ فَمَتَى عَلَّمَهُ اللَّهُ الْعِلْمَ النَّافِعَ اقْتَرَنَ بِهِ التَّقْوَى بِحَسَبِ ذَلِكَ وَمَتَى اتَّقَاهُ زَادَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَهَلُمَّ جَرَّا .