تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بَابُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ يَمِينِ الْغَمُوسِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَعَنْ رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : لَا يَدْخُلُ أَهْلُك بَيْتِي فَصَعُبَ عَلَيْهِ : فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ مَا قَالَهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَالَهُ .
1234567
فَأَجَابَ : الْأَيْمَانُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا النَّاسُ نَوْعَانِ : " أَحَدُهُمَا " أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ . و " الثَّانِي " أَيْمَانُ الْمُشْرِكِينَ فَالْقِسْمُ الثَّانِي الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ : كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ وَالسَّيْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْلِفُ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ لَا حُرْمَةَ لَهَا ; بَلْ هِيَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ حَنِثَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; بَلْ مَنْ حَلَفَ بِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُوَحِّدَ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ . { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ . فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَأَكْثَرِهِمْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْهَا ; بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ : لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا قَالَ : وَهَذَا لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ الْكَذِبِ . وَالنَّذْرُ لِلْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْ الْحَلِفِ بِهَا فَمَنْ نَذَرَ لِمَخْلُوقِ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ وَلَا وَفَاءَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ : مِثْلَ مَنْ يُنْذِرُ لِمَيِّتِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ كَمَنْ يُنْذِرُ لِلشَّيْخِ جاكير . وَأَبِي الْوَفَاءِ أَوْ الْمُنْتَظِرِ أَوْ السِّتِّ نَفِيسَةَ أَوْ لِلشَّيْخِ رَسْلَانَ أَوْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ : زَيْتًا أَوْ شَمْعًا أَوْ سُتُورًا أَوْ نَقْدًا : ذَهَبًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ : فَكُلُّ هَذِهِ النُّذُورِ مُحَرَّمَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجِبُ ; بَلْ وَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يُوفِي بِالنَّذْرِ إذَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَانَ طَاعَةً ; فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ عِبَادَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إلَّا بِمَا شَرَعَ . فَمَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ أَعْظَمُ مِنْ شِرْكِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ كَالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَلَوْ نَذَرَ مَا لَيْسَ عِبَادَةً - كَمَا لَوْ نَذَرَتْ الْمَرْأَةُ صَوْمَ أَيَّامِ الْحَيْضِ - لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ . وَلَا يَجُوزُ صِيَامُ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِيه } وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلَى قَبْرِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ شَيْخٍ مِنْ الْمَشَايِخِ ; أَوْ مَشْهَدِهِ ; أَوْ مَقَامِهِ أَوْ مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ اعْتِكَافًا أَوْ أُضْحِيَّةً أَوْ هَدْيًا أَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الْمَقْدِسِ : فَفِيهِ " قَوْلَانِ " لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ . " أَحَدُهُمَا " لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُوفِيَ بِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمَنْ أَصْلُهُ أَنْ لَا يَجِبَ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ : كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ : فَيَجِبُ بِالنَّذْرِ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَعِنْدَ مَالِكٍ ; فَلِهَذَا وَجَبَ عِنْدَهُ . وَإِتْيَانُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ فَلَا يَجِبُ عِنْدَهُ بِالنَّذْرِ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي " يَجِبُ الْوَفَاءُ إذَا نَذَرَ إتْيَانَ الْمَسْجِدَيْنِ ; وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد ; لِأَنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ لِلَّهِ . فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ } هَذَا إنْ كَانَ قَصَدَ أَنْ يُسَافِرَ لِلْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَلِلِاعْتِكَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ نَفْسَ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِلْعِبَادَةِ فِي مَسْجِدِهِ لَمْ يَفِ بِهَذَا النَّذْرِ ; نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ; وَلَيْسَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَمَنْ نَذَرَ سَفَرًا إلَى بُقْعَةٍ لِيُعَظِّمَهَا غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَالسَّفَرِ إلَى الطُّورِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ أَوْ غَارِ حِرَاءٍ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَنَّثُ فِيهِ أَوْ غَارِ ثَوْرٍ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ } لَمْ يَفِ بِهَذَا النَّذْرِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ; فَكَيْفَ بِمَا سَوَّى ذَلِكَ مِنْ الْغِيَرَانِ وَالْكُهُوفِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ قَبْرِ أَبِي بريد أَوْ قَبْرِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أَوْ قُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ ; فَإِنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ مَشْرُوعَةٌ لِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا وَكَانَ مَقْصُودُهُ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ . فَأَمَّا السَّفَرُ إلَيْهَا فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ ( هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . . وَعَنْهُ تَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ .