تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَأَمَّا ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَقَوْلُ السَّائِلِ : قَوْله تَعَالَى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } إنْ كَانَتْ هَذِهِ اللَّامُ لِلصَّيْرُورَةِ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ فَمَا صَارَ ذَلِكَ ؟ وَإِنْ كَانَتْ اللَّامُ لِلْغَرَضِ لَزِمَ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَنْ عِبَادَتِهِ ؟ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا التَّخَلُّصُ مِنْ هَذَا الْمَضِيقِ ؟
123
فَيُقَالُ : هَذِهِ اللَّامُ لَيْسَتْ هِيَ اللَّامَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ هُنَا كَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُفَسِّرُ ( يَعْبُدُونِ بِمَعْنَى يَعْرِفُونَ يَعْنِي الْمَعْرِفَةَ الَّتِي أُمِرَ بِهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ ; لَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَإِنَّمَا زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ هُودٍ . فَإِنَّ بَعْضَ الْقَدَرِيَّةِ زَعَمَ أَنَّ تِلْكَ اللَّامِ لَامُ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ : أَيْ صَارَتْ عَاقِبَتُهُمْ إلَى الرَّحْمَةِ وَإِلَى الِاخْتِلَافِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ الْخَالِقُ وَجَعَلُوا ذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } وَقَوْلِ الشَّاعِرِ : لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ هُنَا لِأَنَّ لَامَ الْعَاقِبَةِ إنَّمَا تَجِيءُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ ومصايرها فَيَفْعَلُ الْفِعْلَ الَّذِي لَهُ عَاقِبَةٌ لَا يَعْلَمُهَا كَآلِ فِرْعَوْنَ فَأَمَّا مَنْ يَكُونُ عَالِمًا بِعَوَاقِبِ الْأَفْعَالِ ومصايرها فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا لَهُ عَاقِبَةٌ لَا يَعْلَمُ عَاقِبَتَهُ وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ فِعْلَهُ لَهُ عَاقِبَةٌ فَلَا يَقْصِدُ بِفِعْلِهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَإِنَّ ذَلِكَ تَمَنٍّ وَلَيْسَ بِإِرَادَةِ . وَأَمَّا اللَّامُ فَهِيَ اللَّامُ الْمَعْرُوفَةُ وَهِيَ لَامُ كَيْ وَلَامُ التَّعْلِيلِ الَّتِي إذَا حُذِفَتْ انْتَصَبَ الْمَصْدَرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ وَتُسَمَّى الْعِلَّةُ الْغَائِبَةُ وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْوُجُودِ وَالْحُصُولِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ هِيَ الْمُرَادُ الْمَطْلُوبُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْفِعْلِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْإِرَادَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى نَوْعَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا : الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ وَهِيَ الْإِرَادَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِوُقُوعِ الْمُرَادِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا : مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } وَقَوْلِهِ : { وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللَّهِ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ هِيَ مَدْلُولُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } { إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } . قَالَ السَّلَفُ خَلَقَ فَرِيقًا لِلِاخْتِلَافِ وَفَرِيقًا لِلرَّحْمَةِ وَلَمَّا كَانَتْ الرَّحْمَةُ هُنَا الْإِرَادَةَ وَهُنَاكَ كَوْنِيَّةً وَقَعَ الْمُرَادُ بِهَا فَقَوْمٌ اخْتَلَفُوا وَقَوْمٌ رَحِمُوا . وَأَمَّا ( النَّوْعُ الثَّانِي : فَهُوَ الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ مَحَبَّةُ الْمُرَادِ وَرِضَاهُ وَمَحَبَّةُ أَهْلِهِ وَالرِّضَا عَنْهُمْ وَجَزَاهُمْ بِالْحُسْنَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وقَوْله تَعَالَى { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } وَقَوْلِهِ : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الْمُرَادِ إلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ الْإِرَادَةِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَقْسَامُ أَرْبَعَةً : ( أَحَدُهَا : مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَتَانِ وَهُوَ مَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَهُ إرَادَةَ دِينٍ وَشَرْعٍ ; فَأَمَرَ بِهِ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ وَأَرَادَهُ إرَادَةَ كَوْنٍ فَوَقَعَ ; وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ . و ( الثَّانِي : مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ فَقَطْ . وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَعَصَى ذَلِكَ الْأَمْرَ الْكُفَّارُ وَالْفُجَّارُ فَتِلْكَ كُلُّهَا إرَادَةُ دِينٍ وَهُوَ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا لَوْ وَقَعَتْ وَلَوْ لَمْ تَقَعْ . و ( الثَّالِثُ : مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ فَقَطْ وَهُوَ مَا قَدَّرَهُ وَشَاءَهُ مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَمْ يَأْمُرْ بِهَا : كَالْمُبَاحَاتِ وَالْمَعَاصِي فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِهَا وَلَمْ يَرْضَهَا وَلَمْ يُحِبَّهَا إذْ هُوَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَوْلَا مَشِيئَتُهُ وَقُدْرَتُهُ وَخَلْقُهُ لَهَا لَمَا كَانَتْ وَلَمَا وُجِدَتْ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . و ( الرَّابِعُ : مَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ هَذِهِ الْإِرَادَةُ وَلَا هَذِهِ فَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَاحَاتِ وَالْمَعَاصِي وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمُقْتَضَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } هَذِهِ الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهَذِهِ قَدْ يَقَعُ مُرَادُهَا وَقَدْ لَا يَقَعُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يُحِبُّ لَهُمْ وَيَرْضَى لَهُمْ وَاَلَّتِي أُمِرُوا بِفِعْلِهَا هِيَ الْعِبَادَةُ فَهُوَ الْعَمَلُ الَّذِي خَلَقَ الْعِبَادَ لَهُ : أَيْ هُوَ الَّذِي يُحَصِّلُ كَمَالَهُمْ وَصَلَاحَهُمْ الَّذِي بِهِ يَكُونُونَ مَرْضِيِّينَ مَحْبُوبِينَ فَمَنْ لَمْ تَحْصُلْ مِنْهُ هَذِهِ الْغَايَةُ كَانَ عَادِمًا لِمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى وَيُرَادُ لَهُ الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُهُ وَنَجَاتُهُ وَعَادِمًا لِكَمَالِهِ وَصَلَاحِهِ الْعَدَمَ الْمُسْتَلْزِمَ فَسَادَهُ وَعَذَابَهُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : الْعِبَادَةُ هِيَ الْعَزِيمَةُ [ أَوْ ] الْفِطْرِيَّةُ : فَقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ فَاسِدَانِ يَظْهَرُ فَسَادُهُمَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ .