تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَأَمَّا ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَقَوْلُ السَّائِلِ : قَوْله تَعَالَى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } إنْ كَانَتْ هَذِهِ اللَّامُ لِلصَّيْرُورَةِ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ فَمَا صَارَ ذَلِكَ ؟ وَإِنْ كَانَتْ اللَّامُ لِلْغَرَضِ لَزِمَ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَنْ عِبَادَتِهِ ؟ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا التَّخَلُّصُ مِنْ هَذَا الْمَضِيقِ ؟
123
فَصْلٌ وَ ( أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَقَوْلُهُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآيَاتِ فِي الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَعَاصِي بِغَيْرِ قَضَاءِ اللَّهِ فَهُوَ مُحَالٌ وَقَدْحٌ فِي التَّوْحِيدِ وَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَرَاهَتُهَا وَبُغْضُهَا كَرَاهَةٌ وَبُغْضٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ فَيُقَالُ : لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ آيَةٌ وَلَا حَدِيثٌ يَأْمُرُ الْعِبَادَ أَنْ يَرْضَوْا بِكُلِّ مَقْضِيٍّ مُقَدَّرٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَسَنِهَا وَسَيِّئِهَا ; فَهَذَا أَصْلٌ يَجِبُ أَنْ يُعْتَنَى بِهِ وَلَكِنْ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَرْضَوْا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَسْخَطَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَالَ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } وَذِكْرُ الرَّسُولِ هُنَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِيتَاءَ هُوَ الْإِيتَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ لَا الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا } . وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَرْضَى بما يُقَدِّرُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَصَائِبِ الَّتِي لَيْسَتْ ذُنُوبًا مِثْلَ أَنْ يَبْتَلِيَهُ بِفَقْرِ أَوْ مَرَضٍ أَوْ ذُلٍّ وَأَذَى الْخَلْقِ لَهُ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَصَائِبِ وَاجِبٌ وَأَمَّا الرِّضَا بِهَا فَهُوَ مَشْرُوعٌ لَكِنْ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ " لِأَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنُحِبَّهُ وَنَرْضَاهُ وَنُحِبَّ أَهْلَهُ وَنَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَنُبْغِضَهُ وَنَسْخَطَهُ وَنُبْغِضَ أَهْلَهُ وَنُجَاهِدَهُمْ بِأَيْدِينَا وَأَلْسِنَتِنَا وَقُلُوبِنَا فَكَيْفَ نَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا نُبْغِضُهُ وَنَكْرَهُهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ : { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } فَإِذَا كَانَ اللَّهُ يَكْرَهُهَا وَهُوَ الْمُقَدِّرُ لَهَا فَكَيْفَ لَا يَكْرَهُهَا مَنْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَكْرَهَهَا وَيُبْغِضَهَا وَهُوَ الْقَائِلُ : { وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } فَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْ الْقَوْلِ الْوَاقِعِ مَا لَا يَرْضَاهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ } وَقَالَ : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَقَالَ : { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَرْضَى الدِّينَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ فَلَوْ كَانَ يَرْضَى كُلَّ شَيْءٍ لَمَا كَانَ لَهُ خَصِيصَةٌ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَالْمُؤْمِنَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ } وَلَا بُدَّ فِي الْغَيْرَةِ مِنْ كَرَاهَةِ مَا يَغَارُ مِنْهُ وَبُغْضِهِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ .