فَصْلٌ وَأَمَّا ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَقَوْلُ السَّائِلِ : قَوْله تَعَالَى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } إنْ كَانَتْ هَذِهِ اللَّامُ لِلصَّيْرُورَةِ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ فَمَا صَارَ ذَلِكَ ؟ وَإِنْ كَانَتْ اللَّامُ لِلْغَرَضِ لَزِمَ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَنْ عِبَادَتِهِ ؟ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا التَّخَلُّصُ مِنْ هَذَا الْمَضِيقِ ؟
فَصْلٌ وَأَمَّا " الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ " : فَقَوْلُهُ إذَا جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ أَيْضًا مِمَّا هُوَ كَائِنٌ فَمَا فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ ؟ فَيُقَالُ : الدُّعَاءُ فِي اقْتِضَائِهِ الْإِجَابَةَ كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي اقْتِضَائِهَا الْإِثَابَةَ وَكَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فِي اقْتِضَائِهَا الْمُسَبَّبَاتِ وَمَنْ قَالَ : إنَّ الدُّعَاءَ عَلَامَةٌ وَدَلَالَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَطْلُوبِ الْمَسْئُولِ لَيْسَ بِسَبَبِ أَوْ هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لَا أَثَرَ لَهُ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ وُجُودًا وَلَا عَدَمًا ; بَلْ مَا يَحْصُلُ بِالدُّعَاءِ يَحْصُلُ بِدُونِهِ فَهُمَا قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّقَ الْإِجَابَةَ بِهِ تَعْلِيقَ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ كَقَوْلِهِ : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا أَعْطَاهُ بِهَا إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَهَا وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إذًا نُكْثِرُ قَالَ اللَّهُ أَكْثَرُ } فَعَلَّقَ الْعَطَايَا بِالدُّعَاءِ تَعْلِيقَ الْوَعْدِ وَالْجَزَاءِ بِالْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : إنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ وَإِنَّمَا أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ فَإِذَا أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . وَأَيْضًا فَالْوَاقِعُ الْمَشْهُودُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَيُبَيِّنُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَسْبَابِ وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } وقَوْله تَعَالَى { وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلِهِ : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } وقَوْله تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا : { رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى الْبَرِّ إذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } { إنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ } { وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ } . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَوْبَقَهُنَّ ; فَاجْتَمَعَ أَخْذُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَعَفْوُهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا مَعَ عِلْمِ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِهِ أَنَّهُ مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ; لِأَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ يَعْلَمُ الْمُورِدُ لِلشُّبُهَاتِ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى رُبُوبِيَّةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ . كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } . فَإِنَّ الْمَعَارِفَ الَّتِي تَحْصُلُ فِي النَّفْسِ بِالْأَسْبَابِ الِاضْطِرَارِيَّةِ أَثْبَتُ وَأَرْسَخُ مِنْ الْمَعَارِفِ الَّتِي يُنْتِجُهَا مُجَرَّدُ النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ - الَّذِي يَنْزَاحُ عَنْ النُّفُوسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ - هَلْ الرَّبُّ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ . فَلَا يَكُونُ هُوَ الْمُحْدِثَ لِلْحَوَادِثِ ابْتِدَاءً وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا وَلَا يُغَيِّرَ الْعَالَمَ حَتَّى يُدْعَى وَيُسْأَلَ ؟ وَهَلْ هُوَ عَالِمٌ بِالتَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ . وَقَادِرٌ عَلَى تَصْرِيفِ الْأَحْوَالِ حَتَّى يُسْأَلَ التَّحْوِيلَ مَنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ؟ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا يَزْعُمُهُ مَنْ يَزْعُمُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الضُّلَّالِ فَيَجْتَمِعُ مَعَ الْعُقُوبَةِ وَالْعَفْوِ مِنْ ذِي الْجَلَالِ عِلْمُ أَهْلِ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ أَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَمَّا أَوْقَعَ بِمَنْ جَادَلُوا فِي آيَاتِهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا وَأَشْبَاهِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَالدِّيَانَاتِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالسُّؤَالَ هُوَ سَبَبٌ لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ الْمَسْئُولِ لَيْسَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي ذَلِكَ وَلَا هُوَ عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ يُقِرُّ بِهِ جَمَاهِيرُ بَنِي آدَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ طَوَائِفَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ مُتَفَلْسِفَةِ أَهْلِ الْمِلَلِ كَالْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمَا - مِمَّنْ خَلَطَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ - يَزْعُمُونَ أَنَّ تَأْثِيرَ الدُّعَاءِ فِي نَيْلِ الْمَطْلُوبِ كَمَا يَزْعُمُونَهُ فِي تَأْثِيرِ سَائِرِ الْمُمْكِنَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْقُوَى الْفَلَكِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَيَجْعَلُونَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الدُّعَاءِ هُوَ مِنْ تَأْثِيرِ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُثْبِتُوا لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ عِلْمًا مُفَصَّلًا أَوْ قُدْرَةً عَلَى تَغْيِيرِ الْعَالَمِ أَوْ أَنْ يُثْبِتُوا أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَ غَيْرَ مَا فَعَلَ لَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُمْ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَجْمَعَ عِظَامَ الْإِنْسَانِ وَيُسَوِّيَ بَنَانَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ لَهَا وَلِقُوَاهَا فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ فَمَا فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ ؟ فَيُقَالُ : الدُّعَاءُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَا يَجِبُ كَوْنًا بَلْ إذَا أَمَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ بِالدُّعَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُطِيعُهُ فَيُسْتَجَابُ لَهُ دُعَاؤُهُ وَيَنَالُ طُلْبَتَهُ وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُومَ الْمَقْدُورَ هُوَ الدُّعَاءُ وَالْإِجَابَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْصِيهِ فَلَا يَدْعُو فَلَا يُحَصِّلُ مَا عُلِّقَ بِالدُّعَاءِ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَعْلُومِ الْمَقْدُورِ الدُّعَاءُ وَلَا الْإِجَابَةُ فَالدُّعَاءُ الْكَائِنُ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ كَائِنٌ [ وَالدُّعَاءُ الَّذِي لَا يَكُونُ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ ] لَا يَكُونُ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا فَائِدَةُ الْأَمْرِ فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الدُّعَاءِ قِيلَ الْأَمْرُ هُوَ سَبَبٌ أَيْضًا فِي امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَالدُّعَاءُ سَبَبٌ يَدْفَعُ الْبَلَاءَ فَإِذَا كَانَ أَقْوَى مِنْهُ دَفَعَهُ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْبَلَاءِ أَقْوَى لَمْ يَدْفَعْهُ لَكِنْ يُخَفِّفُهُ وَيُضْعِفُهُ وَلِهَذَا أُمِرَ عِنْدَ الْكُسُوفِ وَالْآيَاتِ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .