سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تيمية - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُهُ ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ ؟ وَمَا هُوَ الْعِلْمُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ ؟ وَمَا هُوَ الْيَقِينُ ؟ وَكَيْفَ يَحْصُلُ ؟ وَمَا الْعِلْمُ بِاَللَّهِ ؟
وَأَمَّا الْعِلْمُ فَيُرَادُ بِهِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : الْعِلْمُ بِهِ نَفْسِهِ ; وَبِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنْ نُعُوتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى . وَهَذَا الْعِلْمُ إذَا رَسَخَ فِي الْقَلْبِ أَوْجَبَ خَشْيَةَ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَى طَاعَتِهِ ; وَيُعَاقِبُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ ; كَمَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْعِيَانُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَيَّانَ التيمي - أَحَدِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ - الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ : عَالِمٌ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِاَللَّهِ وَعَالِمٌ بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ . فَالْعَالِمُ بِاَللَّهِ الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي يَعْرِفُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ . وَقَالَ رَجُلٌ لِلشَّعْبِيِّ : أَيُّهَا الْعَالِمُ فَقَالَ : إنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ . وَقَالَ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا . وَالنَّوْعُ الثَّانِي يُرَادُ بِالْعِلْمِ بِاَللَّهِ : الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ تَرَخَّصَ فِي شَيْءٍ فَبَلَغَهُ أَنَّ أَقْوَامًا تَنَزَّهُوا عَنْهُ فَقَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَشْيَاءَ أَتَرَخَّصُ فِيهَا وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ } وَفِي رِوَايَةٍ { وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ } فَجَعَلَ الْعِلْمَ بِهِ هُوَ الْعِلْمَ بِحُدُودِهِ . وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ التَّابِعِينَ فِي صِفَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : إنْ كَانَ اللَّهُ فِي صَدْرِي لَعَظِيمًا وَإِنْ كُنْت بِذَاتِ اللَّهِ لَعَلِيمًا أَرَادَ بِذَلِكَ أَحْكَامَ اللَّهِ فَإِنَّ لَفْظَ الذَّاتِ فِي لُغَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ كَلَفْظِ الذَّاتِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ بَلْ يُرَادُ بِهِ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ خبيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ كُلُّهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ } . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَإِنَّ ذَاتَ تَأْنِيثُ ( ذُو ) وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ مُضَافًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْوَصْفِ بِالْأَجْنَاسِ فَإِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ مُذَكَّرًا قِيلَ ذُو كَذَا ; وَإِنْ كَانَ مُؤَنَّثًا قِيلَ ذَاتُ كَذَا كَمَا يُقَالُ ذَاتُ سِوَارٍ . فَإِنْ قِيلَ أُصِيبَ فُلَانٌ فِي ذَاتِ اللَّهِ فَالْمَعْنَى فِي جِهَتِهِ وَوُجْهَتِهِ : أَيْ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَأَحَبَّهُ ; وَلِأَجْلِهِ . ثُمَّ إنَّ الصِّفَاتِ لَمَّا كَانَتْ مُضَافَةً إلَى النَّفْسِ فَيُقَالُ فِي النَّفْسِ أَيْضًا إنَّهَا ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَكَلَامٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَذَفُوا الْإِضَافَةَ وَعَرَّفُوهَا فَقَالُوا : الذَّاتُ الْمَوْصُوفَةُ أَيْ النَّفْسُ الْمَوْصُوفَةُ فَإِذَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُؤَكِّدُونَ " الذَّاتُ " فَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِهِ النَّفْسَ الْحَقِيقِيَّةَ ; الَّتِي لَهَا وَصْفٌ وَلَهَا صِفَاتٌ . وَالصِّفَةُ وَالْوَصْفُ تَارَةً يُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ الْمَوْصُوفُ ; كَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فِي { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أُحِبُّهَا لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ الْمَعَانِي الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكَلَامُ : كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ . والجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ تُنْكِرُ هَذِهِ وَتَقُولُ : إنَّمَا الصِّفَاتُ مُجَرَّدُ الْعِبَارَةِ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْمَوْصُوفِ . والكلابية وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الصفاتية قَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْوَصْفِ فَيَجْعَلُونَ الْوَصْفَ هُوَ الْقَوْلَ ; وَالصِّفَةَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالْمَوْصُوفِ . وَأَمَّا جَمَاهِيرُ النَّاسِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ لَفْظِ الصِّفَةِ وَالْوَصْفِ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ ; كَالْوَعْدِ وَالْعِدَةِ ; وَالْوَزْنِ وَالزِّنَةِ ; وَأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ تَارَةً هَذَا ; وَتَارَةً هَذَا . وَلَمَّا كَانَ أُولَئِكَ الجهمية يَنْفُونَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَصْفٌ قَائِمٌ بِهِ : عِلْمٌ أَوْ قُدْرَةٌ ; أَوْ إرَادَةٌ أَوْ كَلَامٌ - وَقَدْ أَثْبَتَهَا الْمُسْلِمُونَ - صَارُوا يَقُولُونَ : هَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا صِفَاتٍ زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ . وَقَدْ صَارَ طَائِفَةٌ مِنْ مُنَاظِرِيهِمْ الصفاتية يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ وَيَقُولُونَ : الصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ الَّتِي وَصَفُوا - لَهَا صِفَاتٌ وَوَصْفٌ - فَيُشْعِرُونَ النَّاسَ أَنَّ هُنَاكَ ذَاتًا مُتَمَيِّزَةً عَنْ الصِّفَاتِ وَأَنَّ لَهَا صِفَاتٍ مُتَمَيِّزَةً عَنْ الذَّاتِ . وَيُشَنِّعُ نفاة الصِّفَاتِ بِشَنَاعَاتِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الذَّاتَ الْمَوْصُوفَةَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ الصِّفَاتِ أَصْلًا وَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ ذَاتٍ خَالِيَةٍ عَنْ الصِّفَاتِ . فَدَعْوَى الْمُدَّعِي وُجُودُ حَيٍّ عَلِيمٍ قَدِيرٍ بَصِيرٍ بِلَا حَيَاةٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا قُدْرَةٍ ; كَدَعْوَى قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ وَحَيَاةٍ لَا يَكُونُ الْمَوْصُوفُ بِهَا حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا بَلْ دَعْوَى شَيْءٍ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ قَدِيمٍ أَوْ مُحْدَثٍ عَرِيَ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ . وَلَكِنَّ الجهمية الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ ; لَمَّا أَثْبَتُوا ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ صَارَ مُنَاظِرُهُمْ يَقُولُ : أَنَا أُثْبِتُ الصِّفَاتِ زَائِدَةً عَلَى مَا أَثْبَتُّمُوهُ مِنْ الذَّاتِ ; أَيْ لَا أَقْتَصِرُ عَلَى مُجَرَّدِ إثْبَاتِ ذَاتٍ بِلَا صِفَاتٍ . وَلَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْخَارِجِ ذَاتٌ ثَابِتَةٌ بِنَفْسِهَا ; وَلَا مَعَ ذَلِكَ صِفَاتٌ هِيَ زَائِدَةٌ عَلَى هَذِهِ الذَّاتِ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ الذَّاتِ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : الصِّفَاتُ غَيْرُ الذَّاتِ . كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ ; والكرامية ; ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ تَنْفِيهَا : والكرامية تُثْبِتُهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الصِّفَةُ لَا هِيَ الْمَوْصُوفُ وَلَا هِيَ غَيْرُهُ . كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ الصفاتية كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْأَئِمَّةُ : لَا نَقُولُ الصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفُ ; وَلَا نَقُولُ : هِيَ غَيْرُهُ ; لِأَنَّا لَا نَقُولُ : لَا هِيَ هُوَ ; وَلَا هِيَ غَيْرُهُ فَإِنَّ لَفْظَ الْغَيْرِ فِيهِ إجْمَالٌ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُبَايِنُ لِلشَّيْءِ أَوْ مَا قَارَنَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ; وَمَا قَارَبَهُ بِوُجُودِ أَوْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ ; وَيُرَادُ بِالْغَيْرِ : أَنَّ مَا جَازَ الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْآخَرِ . وَعَلَى الْأَوَّلِ فَلَيْسَتْ الصِّفَةُ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ وَلَا بَعْضُ الْجُمْلَةِ غَيْرَهَا . وَعَلَى الثَّانِي فَالصِّفَةُ غَيْرُ الْمَوْصُوفِ وَبَعْضُ الْجُمْلَةِ غَيْرُهَا . فَامْتَنَعَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْغَيْرِ عَلَى الصِّفَةِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَالِ وَالتَّلْبِيسِ ; حَيْثُ صَارَ الجهمي يَقُولُ : الْقُرْآنُ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُ اللَّهِ فَتَارَةً يُعَارِضُونَهُ بِعِلْمِهِ فَيَقُولُونَ : عِلْمُ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ ; إنْ كَانَ مِمَّنْ يُثْبِتُ الْعِلْمَ ; أَوْ لَا يُمْكِنُهُ نَفْيُهُ . وَتَارَةً يُحِلُّونَ الشُّبْهَةَ وَيُثْبِتُونَ خَطَأَ الْإِطْلَاقَيْنِ : النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّلْبِيسِ بَلْ يَسْتَفْصِلُ السَّائِلُ فَيُقَالُ لَهُ : إنْ أَرَدْت بِالْغَيْرِ مَا يُبَايِنُ الْمَوْصُوفَ فَالصِّفَةُ لَا تُبَايِنُهُ ; فَلَيْسَتْ غَيْرَهُ . وَإِنْ أَرَدْت بِالْغَيْرِ مَا يُمْكِنُ فَهْمُ الْمَوْصُوفِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ; وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَهُوَ غَيْرُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .