سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تيمية - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُهُ ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ ؟ وَمَا هُوَ الْعِلْمُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ ؟ وَمَا هُوَ الْيَقِينُ ؟ وَكَيْفَ يَحْصُلُ ؟ وَمَا الْعِلْمُ بِاَللَّهِ ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمَّا قَوْلُهُ : مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُهُ فَهَذَا فِيهِ إجْمَالٌ وَتَفْصِيلٌ . أَمَّا الْإِجْمَالُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُقِرَّ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ : مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَنَهَى بِحَيْثُ يُقِرُّ بِجَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ . فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ ; وَالِانْقِيَادِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ . وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَعَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يُقِرَّ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ ; مِنْ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهِ وَأَمَرَ بِهِ وَأَمَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَمْ يَبْلُغْهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ ; وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ ; فَهُوَ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْإِقْرَارِ بِهِ مُفَصَّلًا وَهُوَ دَاخِلٌ فِي إقْرَارِهِ بِالْمُجْمَلِ الْعَامِّ ثُمَّ إنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا كَانَ مُخْطِئًا يُغْفَرُ لَهُ خَطَؤُهُ ; إذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ وَلَا عُدْوَانٌ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ مِنْ الِاعْتِقَادِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى آحَادِ الْعَامَّةِ وَيَجِبُ عَلَى مَنْ نَشَأَ بِدَارِ عِلْمٍ وَإِيمَانٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَشَأَ بِدَارِ جَهْلٍ . وَأَمَّا مَا عَلِمَ ثُبُوتَهُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ دُونَ الرِّسَالَةِ ; فَهَذَا لَا يُعَاقَبُ إنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ . وَأَمَّا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ : إنَّ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةَ بِالْعَقْلِ هِيَ الَّتِي يَجِبُ الْإِقْرَارُ بِهَا ; وَيَكْفُرُ تَارِكُهَا بِخِلَافِ مَا ثَبَتَ بِالسَّمْعِ ; فَإِنَّهُمْ تَارَةً يَنْفُونَهُ وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَهُ أَوْ يُفَوِّضُونَ مَعْنَاهُ وَتَارَةً يُثْبِتُونَهُ لَكِنْ يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ مُتَعَلِّقًا بِالصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إذْ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ هُمَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالرِّسَالَةِ ; وَبِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ ; لَا بِمُجَرَّدِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ .