تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ جُنْدِيٍّ أَقَطَعَ لَهُ السُّلْطَانُ إقْطَاعًا وَهُوَ خَرَاجُ أَرْضٍ وَتِلْكَ الْأَرْضُ كَانَتْ مُقْطَعَةً لِجُنْدِيِّ - تُوُفِّيَ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى - بَعْدَ أَنْ زَرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ فَحَكَمَ لَهُ الدِّيوَانِيُّ السُّلْطَانِيُّ أَنْ يَأْخُذَ شَطْرَ الزَّرْعِ وَوَرَثَةُ الْمُتَوَفَّى شَطْرَهُ بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جُمْلَةِ الزَّرْعِ نِصْفَ الْعُشْرِ ثُمَّ يَدْفَعُ لِوَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى الْمُزَارِعِ رُبُعَ الشَّطْرِ الَّذِي لَهُ ; لِأَنَّ السُّلْطَانَ يَأْخُذُ لِوَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى رُبُعَ الْخَرَاجِ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ . فَهَلْ تَجُوزُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ وَيَجُوزُ أَخْذُ الْخَرَاجِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَائِزًا فَكَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ؟ ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ أَمَرُوهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ وَرَثَتِهِ بَذْرَ هَذِهِ الْأَرْضِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ تَكُونُ عِنْدَهُ قَرْضًا بِحُجَّةِ بِرَسْمِ عِمَارَةِ الْإِقْطَاعِ وَيُعِيدَهُ لَهُمْ عَلَى سَنَتَيْنِ . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟
1
فَأَجَابَ : هَذَا الْإِقْطَاعُ لَيْسَ إقْطَاعًا بِمُجَرَّدِ خَرَاجِ الْأَرْضِ كَمَا ظَنَّهُ السَّائِلُ بَلْ هُوَ إقْطَاعُ اسْتِغْلَالٍ ; فَإِنَّ الْإِقْطَاعَ نَوْعَانِ : إقْطَاعُ تَمْلِيكٍ كَمَا يُقْطَعُ الْمَوَاتُ لِمَنْ يُحْيِيهِ بِتَمَلُّكِهِ . وَإِقْطَاعُ اسْتِغْلَالٍ : وَهُوَ إقْطَاعُ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ لِمَنْ يَسْتَغِلُّهَا إنْ شَاءَ أَنْ يَزْرَعَهَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُؤَجِّرَهَا . وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزَارِعَ عَلَيْهَا . وَهَذَا الْإِقْطَاعُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ; فَإِنَّ الْمُقْطَعِينَ لَمْ يُقْطَعُوا مُجَرَّدَ خَرَاجٍ وَاجِبٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَرْضِ بِيَدِهِ كَالْخَرَاجِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي ضَرَبَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ عَلَى بِلَادِ الْعَنْوَةِ وَكَالْأَحْكَارِ الَّتِي تَكُونُ فِي ذِمَّةِ مَنْ اسْتَأْجَرَ عَقَارًا لِبَيْتِ الْمَالِ فَمَنْ أَقُطِعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَقُطِعَ خَرَاجًا . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَأُقْطِعُوا الْمَنْفَعَةَ . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا . فَإِذَا انْفَسَخَ الْإِقْطَاعُ فِي أَثْنَاءِ الْأَمْرِ ; إمَّا لِمَوْتِ الْمُقْطَعِ وَإِمَّا لِغَيْرِهِ وَأُقْطِعَ لِغَيْرِهِ : كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ لِلْمُقْطَعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ; بِحَيْثُ لَوْ كَانَ الْمُقْطَعُ الْأَوَّلُ قَدْ أَجَّرَ الْأَرْضَ الْمُقْطَعَةَ ثُمَّ انْفَسَخَ إقْطَاعُهُ انْفَسَخَتْ تِلْكَ الْإِجَارَةُ كَمَا تَنْفَسِخُ إجَارَةُ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ إذَا انْتَقَلَ الْوَقْفُ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْإِقْطَاعُ انْتَقَلَ فِي نِصْفِ الْمُدَّةِ . كَانَ لِلثَّانِي نِصْفُ الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ كَانَ فِي رِيعِهَا الْمَاضِي كَانَ لَهُ رِيعُ الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الدِّيوَانِ أَعْطَوْا الثَّانِيَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْإِقْطَاعِ وَالْأَوَّلَ الرُّبُعَ ; لِكَوْنِ الثَّانِي قَامَ بِثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ بِمِائَةِ اسْتَحَقَّ الْإِقْطَاعَ . مِثْلَ أَنْ يَخْدِمَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمُدَّةِ الْمُسْتَوْفِيَةِ لِلْمَنْفَعَةِ فَقَدْ عَدَلُوا فِي ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّ الْمُقْطَعَ الْأَوَّلَ لَمَّا ازْدَرَعَهُ بِعَمَلِهِ وَبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ وَصَارَ بَعْضُ الْمَنْفَعَةِ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ صَارَ مُزْدَرِعًا فِي أَرْضِ الْغَيْرِ ; لَكِنْ لَيْسَ هُوَ غَاصِبًا يَجُوزُ إتْلَافُ زَرْعِهِ ; بَلْ زَرْعُهُ زَرْعٌ مُحْتَرَمٌ كَالْمُسْتَأْجِرِ . وَأَوْلَى . فَهُنَا لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لِلْمُزْدَرِعِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَنْفَعَةِ الثَّانِي . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ مَا أَنْفَقَهُ الْأَوَّلُ عَلَى زَرْعِهِ . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ . فَمَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ : هَلْ الزَّرْعُ لِلْمُزْدَرِعِ ؟ أَوْ لِرَبِّ الْأَرْضِ يَأْخُذُهُ وَيُعْطِيهِ نَفَقَتَهُ ؟ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ } عَلَى الْقَوْلَيْنِ . وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ . وَهَذَا الثَّانِي مَذْهَبُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَالْمُزْدَرِعُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ لَيْسَ غَاصِبًا ; لَكِنْ بِمَنْزِلَةِ أَنَّهُ مِمَّا يُعَدُّ زَرَعَ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اتَّجَرَ فِي مَالٍ يَظُنُّهُ لِنَفْسِهِ فَبَانَ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " قَوْلُ ثَالِثٌ " هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ أَهْلُ الدِّيوَانِ . وَهُوَ الَّذِي قَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ; فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ اجْتَمَعَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ أَنْ يُرْسِلَهُ إلَى عُمَرَ فَمَرَّ بِهِ ابْنَا عُمَرَ . فَقَالَ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِيَكُمَا شَيْئًا ; وَلَكِنْ عِنْدِي مَالٌ أُرِيدُ حَمْلَهُ إلَيْهِ فَخُذَاهُ اتَّجِرَا بِهِ وَأَعْطُوهُ مِثْلَ الْمَالِ فَتَكُونَانِ قَدْ انْتَفَعْتُمَا وَالْمَالُ حَصَلَ عِنْدَهُ مَعَ ضَمَانِكُمَا لَهُ . فَاشْتَرَيَا بِهِ بِضَاعَةً فَلَمَّا قَدِمَا إلَى عُمَرَ قَالَ : أَكُلَّ الْعُشْرِ أَقَرَّهُمْ مِثْلَ مَا أَقَرَّكُمَا فَقَالَا : لَا فَقَالَ ضَعَا الرِّبْحَ كُلَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ . وَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ : أَرَأَيْت لَوْ ذَهَبَ هَذَا الْمَالُ أَمَا كَانَ عَلَيْنَا ضَمَانُهُ ؟ فَقَالَ بَلَى قَالَ : فَكَيْفَ يَكُونُ الرِّبْحُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالضَّمَانُ عَلَيْنَا فَوَقَفَ عُمَرَ . فَقَالَ لَهُ الصَّحَابَةُ : اجْعَلْهُ مُضَارَبَةً بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمَا نِصْفُ الرِّبْحِ وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ فَعَمِلَ عُمَرَ بِذَلِكَ . وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ الَّتِي تَنَازَعَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَسْأَلَةِ التِّجَارَةِ بِالْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَالِ الْغَيْرِ فَإِنَّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ هَلْ الرِّبْحُ لِبَيْتِ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْمَالُ ؟ أَوْ الرِّبْحُ لِلْعَامِلِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ حَصَلَ لَهُ بِاشْتِرَاءِ الْأَعْيَانِ فِي الذِّمَّةِ وَيَتَصَدَّقَانِ بِالرِّبْحِ ; لِأَنَّهُ خَبِيثٌ أَوْ يَقْتَسِمَا بَيْنَهُمَا . كَالْمُضَارَبَةِ . وَهَذَا الرَّابِعُ الَّذِي فَعَلَهُ عُمَرَ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ مَنْ اعْتَمَدَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ . وَمَسْأَلَةُ الْمُزَارَعَةِ كَذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّ هَذَا ازْدِرَاعٌ فِي الْأَرْضِ يَظُنُّهَا لِنَفْسِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا أَوْ بَعْضُهَا لِغَيْرِهِ فَجُعِلَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا مُزَارَعَةً . وَالْمُزَارِعَةُ الْمُطْلَقَةُ تَكُونُ مُشَاطَرَةً لِهَذَا نِصْفُ الزَّرْعِ وَلِهَذَا نِصْفُهُ ; فَلِهَذَا جُعِلَ لِلْأَوَّلِ نِصْفُ الزَّرْعِ كَالْعَامِلِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَيُجْعَلُ النِّصْفُ الثَّانِي لِلْمَنْفَعَةِ الْمُقْطَعَةِ . وَالْأَوَّلُ قَدْ اسْتَحَقَّ رُبْعَهَا فَيُجْعَلُ لَهُ النِّصْفُ وَرُبْعُ النِّصْفِ ; بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ . وَالثَّانِي ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ النِّصْفِ . وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; بَلْ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُقْطَعَ الثَّانِيَ مُخَيَّرٌ : إنْ شَاءَ أَنْ يُطَالِبَ مَنْ ازْدَرَعَ فِي أَرْضِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا مُزَارَعَةً كَمَا يُخَيَّرُ ابْتِدَاءً . وَأَمَّا إذَا قِيلَ : بِأَنَّ لَهُ أَخْذَ الزَّرْعِ وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْأَوَّلِ فَهَذَا أَبْلَغُ . وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْجَوَابُ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ فِيهَا مِنْ الْعَامِلِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ وَإِنْ سَمَّاهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مُخَابَرَةً فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَّزُوا ذَلِكَ كَمَا كَانُوا يُزَارِعُونَ كَآلِ أَبِي بَكْرٍ وَآلِ عُمَرَ وَآلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِمْ . وَاَلَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُخَابَرَةِ إنَّمَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطُوا لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا فَهَذَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَأَمَّا الْقُوَّةُ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ قَرْضًا مَحْضًا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ . فَإِنَّ الْقَرْضَ الْمُطْلَقَ هُوَ بِمَا يَمْلِكُهُ الْمُقْتَرِضُ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا شَاءَ . وَهَذِهِ الْقُوَّةُ مَشْرُوطَةٌ عَلَى مَنْ يَقْبِضُهَا أَنْ يَبْذُرَهَا فِي الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ جُعِلَتْ قُوَّةً فِي الْأَرْضِ يَنْتَفِعُ [ بِهَا ] كُلُّ مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْأَرْضَ مِنْ مُقْطَعٍ وَعَامِلٍ إذْ مَصْلَحَةُ الْأَرْضِ لَا تَقُومُ إلَّا بِهَا كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ صِهْرِيجُ مَاءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ وَلِهَذَا يُقَالُ : مَنْ دَخَلَ عَلَى قُوَّةٍ خَرَجَ عَلَى نَظِيرِهَا . وَإِذَا كَانَ الصِّهْرِيجُ مَلْآنَ مَاءً عِنْدَ دُخُولِك فَامْلَأْهُ عِنْدَ خُرُوجِك . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُقَاطَعَةِ أَنْ يَتْرُكُوا فِي الْأَرْضِ قُوَّةً وَهَذَا مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ تَرَكَ فِيهَا قُوَّةً وَالثَّانِي مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَرَأَى مَنْ وَلِيَ مِنْ وُلَاةِ الْأَمْرِ أَنْ يَجْعَلَ عَطَاءَهَا لِلْأَوَّلِ بِقِسْطِهِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا . وَإِذَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَى قُوَّةٍ خَرَجَ عَلَى نَظِيرِهَا وَمَنْ أَعْطَى قُوَّةً مِنْ عِنْدِهِ اسْتَوْفَاهَا مُؤَجَّلَةً : كَانَ إقْطَاعُ وَلِيِّ الْأَمْرِ بِهَذَا الشَّرْطِ وَذَلِكَ جَائِزٌ ; فَإِنَّ الزَّرْعَ إنَّمَا مَلَكَهُ بِالْإِقْطَاعِ وَأَوْرَثَ الْأَوَّلُ مَا اسْتَحَقَّهُ قَبْلَ الْمَوْتِ . وَأَمَّا نِصْفُ الْعُشْرِ الْمَذْكُورِ فَلَمْ يَذْكُرْ وَجْهَهُ حَتَّى يُفْتَى بِهِ . وَإِقْطَاعُ وَلِيِّ الْأَمْرِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ قِسْمَتِهِ بَيْتَ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَتْ قِسْمَةُ الْإِمَامِ لِلْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ كَالْفَيْءِ بِمَنْزِلَةِ قِسْمَةِ الْمَالِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ الْمُعَيَّنِينَ ; فَإِنَّ الْمَالَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ الْمُعَيَّنِينَ كَالْمِيرَاثِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى صِنْفٍ مِنْهُ إنْ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَإِلَّا بِيعَ وَقُسِّمَ ثَمَنُهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَتُعْدَلُ السِّهَامُ بِالْأَجْزَاءِ إنْ كَانَتْ الْأَمْوَالُ مُتَمَاثِلَةً : كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ . وَتُعْدَلُ بِالتَّقْوِيمِ إنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً كَأَجْزَاءِ الْأَرْضِ . وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمَعْدُودَاتِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ قُسِّمَتْ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ وَعُدِلَتْ بِالْقِسْمَةِ . وَأَمَّا الدُّورُ الْمُخْتَلِفَةُ فَفِيهَا نِزَاعٌ وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُخْتَصَّ بِصِنْفِ وَأَمَّا أَمْوَالُ الْفَيْءِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ طَائِفَةً بِصِنْفِ وَطَائِفَةً بِصِنْفِ . بَلْ وَكَذَلِكَ فِي الْمَغَانِمِ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَوْ أَعْطَى الْإِمَامُ طَائِفَةً إبِلًا وَطَائِفَةً غَنَمًا جَازَ . وَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَفْضِيلُ بَعْضِ الْغَانِمِينَ لِزِيَادَةِ مَنْفَعَةٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ : أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ . كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَفَلَ فِي بِدَايَتِهِ الرُّبُعَ بَعْدِ الْخُمُسِ وَفِي رَجْعَتِهِ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ } " وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ نَفَلَ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ وَغَيْرَهُ . وَأَمَّا مَالُ الْفَيْءِ فَيُسْتَحَقُّ بِحَسَبِ مَنْفَعَةِ الْإِنْسَانِ لِلْمُسْلِمِينَ وَبِحَسَبِ الْحَاجَةِ أَيْضًا وَالْمُقَاتِلَةُ أَحَقُّ بِهِ وَهَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَإِذَا قُسِمَ بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ فَيَجِبُ أَنْ يُقْسَمَ بِالْعَدْلِ كَمَا يَجِبُ الْعَدْلُ عَلَى كُلِّ حَاكِمٍ وَكُلِّ قَاسِمٍ ; لَكِنْ إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْقَاسِمَ أَوْ الْحَاكِمَ لَيْسَ عَدْلًا لَمْ تَبْطُلْ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ وَقَسْمُهُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي تَفْسُدُ بِهِ أُمُورُ النَّاسِ ; فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي يَأْمُرُ فِيهَا بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ مَعَ جَوْرِهِمْ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ إذَا أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُمْ وَإِنْ كَانُوا ظَالِمِينَ . فَإِذَا حَكَّمَ حَكَمًا عَادِلًا وَقَسَمَ قَسْمًا عَادِلًا : كَانَ هَذَا مِنْ الْعَدْلِ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيهِ . فَالظَّالِمُ لَوْ قَسَمَ مِيرَاثًا بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ بِكِتَابِ اللَّهِ كَانَ هَذَا عَدْلًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ قَسَمَ مَغْنَمًا بَيْنَ غَانِمِيهِ بِالْحَقِّ كَانَ هَذَا عَدْلًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ حَكَمَ لِمُدَّعٍ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ لَا تُعَارَضُ كَانَ هَذَا عَدْلًا . وَالْحُكْمُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِبَاحَةٌ فَيَجِبُ طَاعَتُهُ فِيهِ . هَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَادِلَةً . فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْقِسْمَةِ ظُلْمٌ ; مِثْلَ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ النَّاسِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّ وَبَعْضَهُمْ دُونَ مَا يَسْتَحِقُّ : فَهَذَا هُوَ الِاسْتِيثَارُ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . حَيْثُ قَالَ : { عَلَى الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرَهِهِ وَأَثَرَةٍ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عبادة بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُولَ - أَوْ نَقُومَ - بِالْحَقِّ . حَيْثُ مَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مَا زَالَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَمَنْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى فِي الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ . فَالْمُعْطَى إذَا أُعْطِيَ قَدْرَ حَقِّهِ أَوْ دُونَ حَقِّهِ : كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِحُكْمِ قِسْمَةِ هَذَا الْقَاسِمِ كَمَا لَوْ قَسَمَ الْمِيرَاثَ وَأَعْطَى بَعْضَ الْوَرَثَةِ حَقَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِحُكْمِ هَذَا الْقَاسِمِ وَكَمَا لَوْ حَكَمَ لِمُسْتَحِقِّ بِمَا اسْتَحَقَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ بِمُوجَبِ هَذَا الْحُكْمِ . وَلَيْسَ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : أَخَذَهُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ وَلَا قَاسِمٌ فَإِنَّهُ عَلَى نُفُوذِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ تَبْطُلُ الْأَحْكَامُ وَالْأَعْطِيَةُ الَّتِي فَعَلَهَا وُلَاةُ الْأُمُورِ جَمِيعُهُمْ ; غَيْرُ الْخُلَفَاءِ . وَحِينَئِذٍ فَتَسْقُطُ طَاعَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ ; إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ حُكْمٍ وَقَسْمٍ وَبَيْنَ عَدَمِهِ . وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ الْفَسَادِ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ ; فَإِنَّهُ لَوْ فَتَحَ هَذَا الْبَابَ أَفْضَى مِنْ الْفَسَادِ إلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ظُلْمِ الظَّالِمِ ثُمَّ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَظُنُّ أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ قَدْرُ حَقِّهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ إنَّمَا يَشْهَدُ اسْتِحْقَاقَ نَفْسِهِ دُونَ اسْتِحْقَاقِ بَقِيَّةِ النَّاسِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ . وَهَلْ يُجْعَلُ لَهُ مِنْهَا بِالْقِيمَةِ هَذَا أَوْ أَقَلُّ ؟ وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ وَلَا شَاهِدًا لِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَاسِمًا لِنَفْسِهِ ؟ . وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ دُخُولَ الشُّرَكَاءِ تَحْتَ قَاسِمٍ غَيْرِهِمْ وَدُخُولَ الْخُصَمَاءِ تَحْتَ حَاكِمٍ غَيْرِهِمْ وَلَوْ كَانَ ظَالِمًا أَوْ جَاهِلًا [ أَوْلَى ] مِنْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ خَصْمٍ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ وَكُلُّ شَرِيكٍ قَاسِمًا لِنَفْسِهِ فَإِنَّ الْفَسَادَ فِي هَذَا أَعْظَمُ مِنْ الْفَسَادِ فِي الْأَوَّلِ . وَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا وَرَجَّحَتْ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ نَصْبِ وُلَاةِ الْأُمُورِ . وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ الْجَاهِلُ لَكَانَ وُجُودُ السُّلْطَانِ كَعَدَمِهِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَهُ مُسْلِمٌ ; بَلْ قَدْ قَالَ الْعُقَلَاءُ : سِتُّونَ سَنَةً مِنْ سُلْطَانٍ ظَالِمٍ خَيْرٌ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا سُلْطَانٍ . وَمَا أَحْسَنَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ : لَوْلَا الْأَئِمَّةُ لَمْ يَأْمَنْ لَنَا سُبْلُ وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لِأَقْوَانَا وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ بَسْطًا تَامًّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى قَدْرِ مَا يُعْرَفُ بِهِ مَقْصُودُ الْجَوَابِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .