سُئِلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } فَمَا الْعِبَادَةُ وَفُرُوعُهَا ؟ وَهَلْ مَجْمُوعُ الدِّينِ دَاخِلٌ فِيهَا أَمْ لَا ؟ وَمَا حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ ؟ وَهَلْ هِيَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمْ فَوْقَهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَقَامَاتِ ؟ وَلِيَبْسُطُوا لَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ .
وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الضَّالُّونَ يُسَوُّونَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ . وَالْخَلِيلُ يَقُولُ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } وَيَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى . مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْفَنَاءِ " فَإِنَّ " الْفَنَاءَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : نَوْعٌ لِلْكَامِلِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ; وَنَوْعٌ لِلْقَاصِدِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ; وَنَوْعٌ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ الْمُشَبِّهِينَ . ( فَأَمَّا الْأَوَّلُ ) فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ " بِحَيْثُ لَا يُحِبُّ إلَّا اللَّهَ . وَلَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَطْلُبُ غَيْرَهُ ; وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِقَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي يَزِيدَ حَيْثُ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ إلَّا مَا يُرِيدُ . أَيْ الْمُرَادُ الْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ ; وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ وَكَمَالُ الْعَبْدِ أَنْ لَا يُرِيدَ وَلَا يُحِبَّ وَلَا يَرْضَى إلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ ; وَلَا يُحِبُّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قَالُوا : هُوَ السَّلِيمُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ أَوْ مِمَّا سِوَى عِبَادَةِ اللَّهِ . أَوْ مِمَّا سِوَى إرَادَةِ اللَّهِ . أَوْ مِمَّا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذَا الْمَعْنَى إنْ سُمِّيَ فَنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ هُوَ أَوَّلُ الْإِسْلَامِ وَآخِرُهُ . وَبَاطِنُ الدِّينِ وَظَاهِرُهُ . ( وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي ) فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى " . وَهَذَا يَحْصُلُ لِكَثِيرِ مِنْ السَّالِكِينَ ; فَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ انْجِذَابِ قُلُوبِهِمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَضَعْفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ أَنْ تَشْهَدَ غَيْرَ مَا تَعْبُدُ وَتَرَى غَيْرَ مَا تَقْصِدُ ; لَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ ; بَلْ وَلَا يَشْعُرُونَ ; كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } قَالُوا : فَارِغًا مَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى . وَهَذَا كَثِيرٌ يَعْرِضُ لِمَنْ فَقَمَهُ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ إمَّا حُبٌّ وَإِمَّا خَوْفٌ . وَإِمَّا رَجَاءٌ يُبْقِي قَلْبَهُ مُنْصَرِفًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا عَمَّا قَدْ أَحَبَّهُ أَوْ خَافَهُ أَوْ طَلَبَهُ ; بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي ذَلِكَ لَا يَشْعُرُ بِغَيْرِهِ . فَإِذَا قَوِيَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ هَذَا فَإِنَّهُ يَغِيبُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ حَتَّى يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُعَبَّدَةُ مِمَّنْ سِوَاهُ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزُلْ وَهُوَ الرَّبُّ تَعَالَى . وَالْمُرَادُ فَنَاؤُهَا فِي شُهُودِ الْعَبْدِ وَذِكْرِهِ وَفَنَاؤُهُ عَنْ أَنْ يُدْرِكَهَا أَوْ يَشْهَدَهَا . وَإِذَا قَوِيَ هَذَا ضَعُفَ الْمُحِبُّ حَتَّى اضْطَرَبَ فِي تَمْيِيزِهِ فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ مَحْبُوبُهُ كَمَا يُذْكَرُ : أَنَّ رَجُلًا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى مُحِبُّهُ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ : أَنَا وَقَعْتُ فَمَا أَوْقَعَكَ خَلْفِي قَالَ : غِبْتُ بِكَ عَنِّي فَظَنَنْتُ أَنَّكَ أَنَا . وَ " هَذَا الْمَوْضِعُ " زَلَّ فِيهِ أَقْوَامٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ اتِّحَادٌ وَأَنَّ الْمُحِبَّ يَتَّحِدُ بِالْمَحْبُوبِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فِي نَفْسِ وُجُودِهِمَا وَهَذَا غَلَطٌ ; فَإِنَّ الْخَالِقَ لَا يَتَّحِدُ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا بَلْ لَا يَتَّحِدُ شَيْءٌ بِشَيْءِ إلَّا إذَا اسْتَحَالَا وَفَسَدَا وَحَصَلَ مِنْ اتِّحَادِهِمَا أَمْرٌ ثَالِثٌ لَا هُوَ هَذَا وَلَا هَذَا كَمَا إذَا اتَّحَدَ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ وَالْمَاءُ وَالْخَمْرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلَكِنْ يَتَّحِدُ الْمُرَادُ وَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ وَيَتَّفِقَانِ فِي نَوْعِ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ فَيُحِبُّ هَذَا مَا يُحِبُّ هَذَا . وَيُبْغِضُ هَذَا مَا يُبْغِضُ هَذَا وَيَرْضَى مَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي وَهَذَا الْفَنَاءُ كُلُّهُ فِيهِ نَقْصٌ . وَأَكَابِرُ الْأَوْلِيَاءِ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ : لَمْ يَقَعُوا فِي هَذَا الْفَنَاءِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَعْدَ الصَّحَابَةِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مِمَّا فِيهِ غَيْبَةُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ لِمَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَحْوَالِ الْإِيمَان ; فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَثْبَتَ فِي الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ مِنْ أَنْ تَغِيبَ عُقُولُهُمْ . أَوْ يَحْصُلَ لَهُمْ غَشْيٌ أَوْ صَعْقٌ أَوْ سُكْرٌ أَوْ فَنَاءٌ أَوْ وَلَهٌ أَوْ جُنُونٌ . وَإِنَّمَا كَانَ مَبَادِئُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي التَّابِعِينَ مِنْ عُبَّادِ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ إذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ : كَأَبِي جهير الضَّرِيرِ . وزرارة بْنِ أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ . وَكَذَلِكَ صَارَ فِي شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ مَا يَضْعُفُ مَعَهُ تَمْيِيزُهُ حَتَّى يَقُولَ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا إذَا صَحَا عَرَفَ أَنَّهُ غَالَطَ فِيهِ كَمَا يُحْكَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مِثْلِ أَبِي يَزِيدَ وَأَبِي الْحَسَنِ النُّورِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الشِّبْلِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ . بِخِلَافِ أَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الكرخي والفضيل بْنِ عِيَاضٍ بَلْ وَبِخِلَافِ الجنيد وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ وَتَمْيِيزُهُمْ يَصْحَبُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ فَلَا يَقَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ وَنَحْوِهِ بَلْ الكمل تَكُونُ قُلُوبُهُمْ لَيْسَ فِيهَا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَعِنْدَهُمْ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ مَا يَشْهَدُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بَلْ يَشْهَدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ مُدَبَّرَةً بِمَشِيئَتِهِ بَلْ مُسْتَجِيبَةً لَهُ قَانِتَةً لَهُ فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَذِكْرَى وَيَكُونُ مَا يَشْهَدُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مُؤَيَّدًا وَمُمَدًّا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ لَهُ وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَهَذِهِ " الْحَقِيقَةُ " الَّتِي دَعَا إلَيْهَا الْقُرْآنُ وَقَامَ بِهَا أَهْلُ تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ والكمل مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ . وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَامُ هَؤُلَاءِ وَأَكْمَلُهُمْ ; وَلِهَذَا لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَوَاتِ وَعَايَنَ مَا هُنَالِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَأُوحِيَ إلَيْهِ مَا أُوحِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاجَاةِ أَصْبَحَ فِيهِمْ وَهُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا كَانَ يَظْهَرُ عَلَى مُوسَى مِنْ التَّغَشِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ . ( وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ ) مِمَّا قَدْ يُسَمَّى فَنَاءً : فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا مَوْجُودَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ فَهَذَا فَنَاءُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْإِلْحَادِ الْوَاقِعِينَ فِي الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ . وَالْمَشَايِخُ الْمُسْتَقِيمُونَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمْ : مَا أَرَى غَيْرَ اللَّهِ أَوْ لَا أَنْظُرُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ مَا أَرَى رَبًّا غَيْرَهُ وَلَا خَالِقًا غَيْرَهُ وَلَا مُدَبِّرًا غَيْرَهُ وَلَا إلَهًا غَيْرَهُ وَلَا أَنْظُرُ إلَى غَيْرِهِ مَحَبَّةً لَهُ أَوْ خَوْفًا مِنْهُ أَوْ رَجَاءً لَهُ ; فَإِنَّ الْعَيْنَ تَنْظُرُ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَوْ رَجَاهُ أَوْ خَافَهُ الْتَفَتَ إلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةٌ لَهُ وَلَا رَجَاءٌ لَهُ وَلَا خَوْفٌ مِنْهُ وَلَا بُغْضٌ لَهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ لَهُ لَمْ يَقْصِدْ الْقَلْبُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَرَاهُ وَإِنْ رَآهُ اتِّفَاقًا رُؤْيَةً مُجَرَّدَةً كَانَ كَمَا لَوْ رَأَى حَائِطًا وَنَحْوَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ تَعَلُّقٌ بِهِ . وَالْمَشَايِخُ الصَّالِحُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَذْكُرُونَ شَيْئًا مِنْ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَتَحْقِيقِ إخْلَاصِ الدِّينِ كُلِّهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُلْتَفِتًا إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَا نَاظِرًا إلَى مَا سِوَاهُ : لَا حُبًّا لَهُ وَلَا خَوْفًا مِنْهُ وَلَا رَجَاءً لَهُ بَلْ يَكُونُ الْقَلْبُ فَارِغًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ خَالِيًا مِنْهَا لَا يَنْظُرُ إلَيْهَا إلَّا بِنُورِ اللَّهِ فَبِالْحَقِّ يَسْمَعُ وَبِالْحَقِّ يُبْصِرُ وَبِالْحَقِّ يَبْطِشُ وَبِالْحَقِّ يَمْشِي فَيُحِبُّ مِنْهَا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضُ مِنْهَا مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيُوَالِي مِنْهَا مَا وَالَاهُ اللَّهُ وَيُعَادِي مِنْهَا مَا عَادَاهُ اللَّهُ وَيَخَافُ اللَّهَ فِيهَا وَلَا يَخَافُهَا فِي اللَّهِ وَيَرْجُو اللَّهَ فِيهَا وَلَا يَرْجُوهَا فِي اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الْحَنِيفُ الْمُوَحِّدُ الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ الْمُوَحِّدُ بِمَعْرِفَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَبِحَقِيقَتِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ . ( وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ ) وَهُوَ الْفَنَاءُ فِي الْمَوْجُودِ : فَهُوَ تَحْقِيقُ آلِ فِرْعَوْنَ وَمَعْرِفَتُهُمْ وَتَوْحِيدُهُمْ كَالْقَرَامِطَةِ وَأَمْثَالِهِمْ . وَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي عَلَيْهِ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ " الْفَنَاءُ الْمَحْمُودُ " الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ بِهِ مِمَّنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ . وَلَيْسَ مُرَادُ الْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الَّذِي أَرَاهُ بِعَيْنِي مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ ؟ إمَّا فَسَادِ الْعَقْلِ ; وَإِمَّا فَسَادِ الِاعْتِقَادِ . فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِلْحَادِ .