تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ دَاوَمُوا عَلَى " الرِّيَاضَةِ " مَرَّةً فَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ تجوهروا فَقَالُوا : لَا نُبَالِي الْآنَ مَا عَمِلْنَا وَإِنَّمَا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي رُسُومُ الْعَوَامِّ وَلَوْ تجوهروا لَسَقَطَتْ عَنْهُمْ وَحَاصِلُ النُّبُوَّةِ يَرْجِعُ إلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا ضَبْطُ الْعَوَامِّ وَلَسْنَا نَحْنُ مِنْ الْعَوَامِّ فَنَدْخُلُ فِي حِجْرِ التَّكْلِيفِ لِأَنَّا قَدْ تجوهرنا وَعَرَفْنَا الْحِكْمَةَ . فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ مِنْ قَائِلِهِ ؟ أَمْ يُبَدَّعُ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ . وَهَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ عَمَّنْ فِي قَلْبِهِ خُضُوعٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ .
12345
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : حَاصِلُ النُّبُوَّةِ يَرْجِعُ إلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الْأَنْبِيَاءَ لِمَا فِيهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهَا كَمَا فَسَّرَهَا بِذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ ; لَكِنْ أَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يُوجِبُ سُقُوطَهَا عَنْ بَعْضِ الْعِبَادِ ؟ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ مَنْ يَكُونُ سَفِيهًا مُفْسِدًا { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : الْمُرَادُ مِنْهَا ضَبْطُ الْعَوَامِّ وَلَسْنَا نَحْنُ مِنْ الْعَوَامِّ . فَالْكَلِمَةُ الْأُولَى : زَنْدَقَةٌ وَنِفَاقٌ وَالثَّانِيَةُ كَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الشَّرَائِعِ مُجَرَّدُ ضَبْطِ الْعَوَامِّ ; بَلْ الْمُرَادُ مِنْهَا الصَّلَاحُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَلَكِنْ فِي بَعْضِ فَوَائِدِ الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الدُّنْيَا ضَبْطُ الْعَوَامِّ . كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " إنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ " فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْفُجَّارِ فَإِنَّهُ يَنْزَجِرُ بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ وَيَنْضَبِطُ عَنْ انْتِهَاكِ الْمُحَرَّمَاتِ فَهَذَا بَعْضُ فَوَائِدِ الْعُقُوبَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ . وَأَمَّا فَوَائِدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ : فَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا خِطَابٌ أَوْ كِتَابٌ ; بَلْ هِيَ الْجَامِعَةُ لِكُلِّ خَيْرٍ يُطْلَبُ وَيُرَادُ وَفِي الْخُرُوجِ عَنْهَا كُلُّ شَرٍّ وَفَسَادٍ . وَدَعْوَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ مِنْ الْخَوَاصِّ يُوجِبُ أَنَّهُمْ مِنْ حُثَالَةِ مُنَافِقِي الْعَامَّةِ وَهُمْ دَاخِلُونَ فِيمَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } { أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } . وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } { فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَلِبَسْطِ الْكَلَامِ عَلَى أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مَوْضِعٌ غَيْرِ هَذَا . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } وَيَقُولُ مَعْنَاهَا : اُعْبُدْ رَبَّك حَتَّى يَحْصُلَ لَك الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ سَقَطَتْ الْعِبَادَةُ . وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : اعْمَلْ حَتَّى يَحْصُلَ لَك حَالٌ فَإِذَا حَصَلَ لَك حَالٌ تَصَوُّفِيٌّ [ سَقَطَتْ عَنْك الْعِبَادَةُ ] وَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مَنْ إذَا ظَنَّ حُصُولَ مَطْلُوبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْحَالِ اسْتَحَلَّ تَرْكَ الْفَرَائِضِ وَارْتِكَابَ الْمَحَارِمِ وَهَذَا كُفْرٌ كَمَا تَقَدَّمَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ اسْتِغْنَاءَهُ عَنْ النَّوَافِلِ حِينَئِذٍ وَهَذَا مَغْبُونٌ مَنْقُوصٌ جَاهِلٌ ضَالٌّ خَاسِرٌ بِاعْتِقَادِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ النَّوَافِلِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِهَا حِينَئِذٍ بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَهَا مُعْتَقِدًا كَمَالَ مَنْ فَعَلَهَا حِينَئِذٍ مُعَظِّمًا لِحَالِهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مَذْمُومًا وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا مَعَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ يَكُونُ هَذَا مِنْ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ وَهَذَا مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الِاسْتِمْسَاكَ بِالشَّرِيعَةِ - أَمْرًا وَنَهْيًا - إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ أَوْ الْحَالِ فَإِذَا حَصَلَ لَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ الِاسْتِمْسَاكُ بِالشَّرِيعَةِ النَّبَوِيَّةِ بَلْ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ أَوْ يَفْعَلَ بِمُقْتَضَى ذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ وَكَشْفِهِ وَرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ حَالِهِ حَتَّى يَصِيرَ مَنْقُوصًا عَاجِزًا مَحْرُومًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ الطَّاعَةِ حَتَّى يَصِيرَ فَاسِقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ الْإِيمَانِ حَتَّى يَصِيرَ مُرْتَدًّا مُنَافِقًا أَوْ كَافِرًا مُلَعَّنًا . وَهَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ جِدًّا وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَحْتَجُّ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } فَهِيَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ وَقَرَأَ قَوْلَهُ : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } ; وَذَلِكَ أَنَّ الْيَقِينَ هُنَا الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الْمُسْتَيْقِنِينَ . وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } { قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ } { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } { حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } فَهَذَا قَالُوهُ وَهُمْ فِي جَهَنَّمَ . وَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا [ عَلَى ] مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْآخِرَةِ وَالْخَوْضِ مَعَ الْخَائِضِينَ حَتَّى أَتَاهُمْ الْيَقِينُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الْحَالِ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَكُونُوا مَعَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَتَاهُمْ مَا يُوعَدُونَ وَهُوَ الْيَقِينُ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - { لَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ - وَشَهِدَتْ لَهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ بِالْجَنَّةِ . فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيك ؟ إنِّي وَاَللَّهِ وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي } وَقَالَ : { أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ } أَيْ أَتَاهُ مَا وَعَدَهُ وَهُوَ الْيَقِينُ . وَ " يَقِينٌ " عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ . وَسَوَاءٌ كَانَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيّ الْمَوْتِ . كَالْحَبِيبِ وَالنَّصِيحِ وَالذَّبِيحِ أَوْ كَانَ مَصْدَرًا وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ . كَقَوْلِهِ : { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } وَقَوْلُهُ : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } وَقَوْلُهُ : ضَرَبَ الْأَمِيرُ ; وَغَفَرَ اللَّهُ لَك . قِيلَ : وَقَوْلُهُمْ قُدْرَةٌ عَظِيمَةٌ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ كَثِيرٌ . فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ ; بَلْ الْيَقِينُ هُوَ مَا وُعِدَ بِهِ الْعِبَادُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَقَوْلِهِ : { حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } كَقَوْلِك : يَأْتِيك مَا تُوعَدُ . فَأَمَّا أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْمُرَادَ : اُعْبُدْهُ حَتَّى يَحْصُلَ لَك إيقَانٌ ثُمَّ لَا عِبَادَةَ عَلَيْك . فَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ; وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ للجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَصِلُونَ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ إلَى تَرْكِ الْعِبَادَاتِ . فَقَالَ : الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَمَشَايِخُهُ يُعَظِّمُونَ النَّكِيرَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ الزُّهَّادِ الْعَابِدِينَ وَأَهْلِ الْكَشْفِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ وَأَرْبَابِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ فِي الْعُلُومِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا فِي أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَمِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . وَإِنَّمَا الْفَاصِلُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ ; الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى . الَّذِي هُوَ نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ . كَمَا قَالَ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ فَيَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولُوا : إنَّ الْخَضِرِ كَانَ مُشَاهِدًا الْإِرَادَةَ الرَّبَّانِيَّةَ الشَّامِلَةَ وَالْمَشِيئَةَ الْإِلَهِيَّةَ الْعَامَّةَ وَهِيَ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " . فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْمَلَامُ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ مِنْ عَظِيمِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ بَلْ مِنْ عَظِيمِ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْكَلَامِ : أَنَّ مَنْ آمَنَ بِالْقَدَرِ وَشَهِدَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَهَذَا كُفْرٌ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ } وَنَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَفِي سُورَةِ يس . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ : { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ } . وَهَؤُلَاءِ هُمْ " الْقَدَرِيَّةُ المشركية " الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ عَلَى دَفْعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ رُوِيَ فِيهِمْ : " إنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ " ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَكِنْ أَنْكَرُوا عُمُومَ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْخَلْقِ وَرُبَّمَا أَنْكَرُوا سَابِقَ الْعِلْمِ . وَأَمَّا " الْقَدَرِيَّةُ المشركية " فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَكِنْ [ وَإِنْ لَمْ يُنْكِرُوا ] عُمُومَ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْخَلْقِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَيَكْفُرُونَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ ; فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالثَّوَابِ وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمْ بِالْعِقَابِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْقَدَرِ وَعَالِمًا بِهِ بَلْ أَتْبَاعُهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانُوا أَيْضًا مُؤْمِنِينَ بِالْقَدَرِ فَهَلْ يَظُنُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ أَنَّ مُوسَى طَلَبَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ الْخَضِرِ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَدْفَعُ الْمَلَامَ مَعَ أَنَّ مُوسَى أَعْلَمُ بِالْقَدَرِ مِنْ الْخَضِرِ بَلْ عُمُومُ أَصْحَابِ مُوسَى يَعْلَمُونَ ذَلِكَ . وَ " أَيْضًا " فَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ بَيَّنَ ذَلِكَ لِمُوسَى . وَقَالَ : إنِّي كُنْت شَاهِدًا لِلْإِرَادَةِ وَالْقَدَرِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . بَلْ بَيَّنَ لَهُ أَسْبَابًا شَرْعِيَّةً تُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَ . كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا " الْوَجْهُ الثَّانِي " : فَإِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ : أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَسُوغُ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْ الشَّرِيعَةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا سَاغَ لِلْخَضِرِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْوَلِيِّ فِي الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ فِي عُمُومِ أَحْوَالِهِ أَوْ بَعْضِهَا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُفَضِّلُ الْوَلِيَّ فِي زَعْمِهِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عَلَى النَّبِيِّ زَاعِمِينَ أَنَّ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ حُجَّةٌ لَهُمْ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ مِنْ أَعْظَمِ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ ; بَلْ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ النِّفَاقِ وَالْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ . فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : أَنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجَمِيعِ النَّاسِ : عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ وَزُهَّادِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ وَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ; بَلْ عَامَّةُ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلَائِقِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَمُلَازَمَةِ مَا يَشْرَعُهُ لِأُمَّتِهِ مِنْ الدِّينِ . وَمَا سَنَّهُ لَهُمْ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ بَلْ لَوْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ قَبْلَهُ أَحْيَاءً لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مُتَابَعَتُهُ وَمُطَاوَعَتُهُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ ; لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَن بِهِ وَلَيَنْصُرَنهُ وَأَمَرَهُ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ . وَفِي سُنَنِ النسائي عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَرَقَةً مِنْ التَّوْرَاةِ فَقَالَ : أَمُتَهَوِّكُونَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي } - هَذَا أَوْ نَحْوُهُ - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَلَفْظُهُ : { وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ } وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي داود قَالَ : { كَفَى بِقَوْمِ ضَلَالَةً أَنْ يَبْتَغُوا كِتَابًا غَيْرَ كِتَابِكُمْ . أُنْزِلَ عَلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ } وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } الْآيَةَ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ بَلْ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ { أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إذَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَإِذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مَنْ يُدْرِكُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ ؟ بَلْ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ أَنْ يَتَّبِعَ شَرِيعَةَ رَسُولٍ غَيْرِهِ كَمُوسَى وَعِيسَى . فَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ إلَى شَرِيعَةِ رَسُولٍ فَكَيْفَ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ وَالرُّسُلِ ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيمَا يَنْقُلُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ تَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ : كَانَ مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ صِدْقٌ عَنْهُمْ آمَنَّا بِهِ وَمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ كَذِبٌ رَدَدْنَاهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ حَالَهُ لَمْ نُصَدِّقْهُ وَلَمْ نُكَذِّبْهُ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ . فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُونَكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُمْ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُمْ . وَقُولُوا : آمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ } . وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْغَلَطَ الَّذِي وَقَعَ لَهُمْ فِي الِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ : أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْخَضِرِ مُتَابَعَتَهُ وَطَاعَتَهُ ; بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { إنَّ الْخَضِرَ قَالَ لَهُ : يَا مُوسَى إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ } وَذَلِكَ أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى كَانَتْ خَاصَّةً . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : فِيمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً } فَدَعْوَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْعِبَادِ لَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَلَا اسْتِغْنَاءَ عَنْ رِسَالَتِهِ كَمَا سَاغَ لِلْخَضِرِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى وَطَاعَتِهِ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ بِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِمَّنْ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ أَنْ يَقُولَ لِمُحَمَّدِ : إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَمَنْ سَوَّغَ هَذَا أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ : الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ أَوْ غَيْرِهِمْ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُتَابَعَتِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَدَلَائِلُ هَذَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هُنَا . وَقِصَّةُ الْخَضِرِ لَيْسَ فِيهَا خُرُوجٌ عَنْ الشَّرِيعَةِ ; وَلِهَذَا لَمَّا بَيَّنَ الْخَضِرُ لِمُوسَى الْأَسْبَابَ الَّتِي فَعَلَ لِأَجْلِهَا مَا فَعَلَ وَافَقَهُ مُوسَى وَلَمْ يَخْتَلِفَا حِينَئِذٍ . وَلَوْ كَانَ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ مُخَالِفًا لِشَرِيعَةِ مُوسَى لَمَا وَافَقَهُ . وَمِثْلُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ يَقَعُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَخْتَصَّ أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ بِالْعِلْمِ بِسَبَبِ يُبِيحُ لَهُ الْفِعْلَ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْآخِرُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ السَّبَبَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْأَوَّلِ . مِثْلُ شَخْصَيْنِ : دَخَلَا إلَى بَيْتِ شَخْصٍ وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَعْلَمُ طِيبَ نَفْسِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَنْزِلِهِ إمَّا بِإِذْنِ لَفْظِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَيَتَصَرَّفُ . وَذَلِكَ مُبَاحٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْآخَرُ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ هَذَا السَّبَبَ لَا يَتَصَرَّفُ وَخَرْقُ السَّفِينَةِ كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الْخَضِرَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا وَكَانَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يَخْتَارُهَا أَصْحَابُ السَّفِينَةِ إذَا عَلِمُوا ذَلِكَ ; لِئَلَّا يَأْخُذَهَا خَيْرٌ مِنْ انْتِزَاعِهَا مِنْهُمْ . وَنَظِيرُ هَذَا حَدِيثُ الشَّاةِ الَّتِي أَصَابَهَا الْمَوْتُ فَذَبَحَتْهَا امْرَأَةٌ بِدُونِ إذْنِ أَهْلِهَا . فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَأَذِنَ لَهُمْ فِي أَكْلِهَا وَلَمْ يُلْزِمْ الَّتِي ذَبَحَتْ بِضَمَانِ مَا نَقَصَتْ بِالذَّبْحِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ عُرْفًا وَالْإِذْنُ الْعُرْفِيُّ كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ ; وَلِهَذَا { بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عُثْمَانَ فِي غَيْبَتِهِ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ لَفْظًا } وَلِهَذَا لَمَّا دَعَاهُ أَبُو طَلْحَةَ وَنَفَرًا قَلِيلًا إلَى بَيْتِهِ قَامَ بِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِمَا عَلِمَ مِنْ طِيبِ نَفْسِ أَبِي طَلْحَةَ وَذَلِكَ لِمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ مِنْ الْبَرَكَةِ . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لَحَّامًا دَعَاهُ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي شَخْصٍ يَسْتَتْبِعُهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ طِيبِ نَفْسِ اللَّحَّامِ مَا عَلِمَهُ مِنْ طِيبِ نَفْسِ أَبِي طَلْحَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْغُلَامِ كَانَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى أَبَوَيْهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَانَ يَفْتِنُهُمَا عَنْ دِينِهِمَا وَقَتْلُ الصِّبْيَانِ يَجُوزُ إذَا قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِدَفْعِ الصَّوْلِ عَلَى الْأَمْوَالِ ; فَلِهَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ نَجْدَةَ الحروري لَمَّا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَتْلِ الْغِلْمَانِ قَالَ : " إنْ كُنْت تَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ مِنْ الْغُلَامِ فَاقْتُلْهُمْ وَإِلَّا فَلَا تَقْتُلْهُمْ " . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ عُمَرَ لَمَّا اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ ابْنِ صَيَّادٍ وَكَانَ مُرَاهِقًا لَمَّا ظَنَّهُ الدَّجَّالَ فَقَالَ : إنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَك فِي قَتْلِهِ } فَلَمْ يَقُلْ إنْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَك فِي قَتْلِهِ بَلْ قَالَ : { فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ } . وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ إعْدَامُهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ لِقَطْعِ فَسَادِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَحْذُورًا وَإِلَّا كَانَ التَّعْلِيلُ بِالصِّغَرِ كَافِيًا فَإِنَّ الْأَعَمَّ إذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا بِالْحُكْمِ كَانَ الْأَخَصُّ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ كَمَا قَالَ فِي الْهِرَّةِ : { إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسِ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ } . وَأَمَّا بِنَاءُ الْجِدَارِ فَإِنَّمَا فِيهِ تَرْكُ أَخْذِ الْجُعْلِ مَعَ جُوعِهِمْ وَقَدْ بَيَّنَ الْخَضِرُ : أَنَّ أَهْلَهُ فِيهِمْ مِنْ الشِّيَمِ وَصَلَاحِ الْوَالِدِ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ التَّبَرُّعَ ; وَإِنْ كَانَ جَائِعًا . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ مَا قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا فَيَشْتَرِكُ فِيهَا النَّاسُ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ خَفِيًّا عَنْ بَعْضِهِمْ ظَاهِرًا لِبَعْضِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ خَفِيًّا يُعْرَفُ بِطَرِيقِ الْكَشْفِ وَقِصَّةُ الْخَضِرِ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَذَلِكَ يَقَعُ كَثِيرًا فِي أُمَّتِنَا . مِثْلُ أَنْ يُقَدَّمَ لِبَعْضِهِمْ طَعَامٌ فَيُكْشَفُ لَهُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَكْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَوْ يَظْفَرْ بِمَالِ يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ أَذِنَ لَهُ فِيهِ فَيَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْإِذْنَ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَمِثْلُ هَذَا إذَا كَانَ الشَّيْخُ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ كَانَ مِثْلُ هَذَا مِنْ مَوَاقِعِ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُصِيبُ فِيهِ تَارَةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى فَإِنَّ الْمُكَاشَفَاتِ يَقَعُ فِيهَا مِنْ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ نَظِيرُ مَا يَقَعُ فِي الرُّؤْيَا وَتَأْوِيلِهَا وَالرَّأْيِ وَالرِّوَايَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مَعْصُومًا عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا مَا ثَبَتَ عَنْ الرَّسُولِ ; وَلِهَذَا يَجِبُ رَدُّ جَمِيعِ الْأُمُورِ إلَى مَا بُعِثَ بِهِ وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ الْمُتَلَقِّي عَنْ الرَّسُولِ كُلَّ شَيْءٍ ; مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ الْمُحَدَّثِ مِثْلُ عُمَرَ ; وَكَانَ الصِّدِّيقُ يُبَيِّنُ لِلْمُحَدَّثِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ; حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى الصَّوَابِ . كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بِعُمَرِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ; وَيَوْمَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا الْبَابُ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ مَا يَسُوغُ مُخَالَفَةَ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ . نَعَمْ لَفْظُ " الشَّرْعِ " قَدْ صَارَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ فِي عُرْفِ الْعَامَّةِ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عِبَارَةً عَنْ حُكْمِ الْحُكَّامِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ قَدْ يُطَابِقُ الْحَقَّ فِي الْبَاطِنِ وَقَدْ يُخَالِفُهُ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ : { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْحُقُوقِ الْمُرْسَلَةِ لَا يُغَيِّرُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ فِي الْبَاطِنِ فَلَوْ حَكَمَ بِمَالِ زَيْدٍ لِعُمَرِ لِإِقْرَارِ أَوْ بَيِّنَةٍ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يُبَحْ ذَلِكَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّةِ لَوْ حَكَمَ بِعَقْدِ أَوْ فَسْخِ نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ وَبَيْعٍ فَإِنَّ حُكْمَهُ لَا يُغَيِّرُ الْبَاطِنَ عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : حُكْمُهُ يُغَيَّرُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ; لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْعُقُودِ والفسوخ . فَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْحَدِيثِ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ .