تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا تَقُولُونَ فِي " الْمَنْطِقِ " وَهَلْ مَنْ قَالَ إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ ؟ .
123456789
فَإِذَا كَانَتْ صِنَاعَتُهُمْ بَيْنَ عُلُومٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ . وَبَيْنَ مَا لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا فِيهِ الْقِيَاسَ الْمَنْطِقِيَّ : كَانَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ فِي عُلُومِهِمْ بَلْ كَانَ فِيهِ مِنْ شَغْلِ الْقَلْبِ عَنْ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ مَا ضَرَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ كَمَا سَدَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ طَرِيقَ الْعِلْمِ وَأَوْقَعَهُمْ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ وَالْجَهْلِ فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِ عُلُومِهِمْ مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي لَا تُحَدُّ لِلْأَوَّلِينَ والآخرين . وَأَيْضًا لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ حَقَّقَ عِلْمًا مِنْ الْعُلُومِ وَصَارَ إمَامًا فِيهِ مُسْتَعِينًا بِصِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ لَا مِنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا فَالْأَطِبَّاءُ والحساب وَالْكُتَّابُ وَنَحْوُهُمْ يُحَقِّقُونَ مَا يُحَقِّقُونَ مِنْ عُلُومِهِمْ وَصِنَاعَاتِهِمْ بِغَيْرِ صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ . وَقَدْ صُنِّفَ فِي الْإِسْلَامِ عُلُومُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْعَرُوضِ وَالْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَيْسَ فِي أَئِمَّةِ هَذِهِ الْفُنُونِ مَنْ كَانَ يَلْتَفِتُ إلَى الْمَنْطِقِ بَلْ عَامَّتُهُمْ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُعَرَّبَ هَذَا الْمَنْطِقُ الْيُونَانِيُّ . وَأَمَّا الْعُلُومُ الْمَوْرُوثَةُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ صِرْفًا وَإِنْ كَانَ الْفِقْهُ وَأُصُولُهُ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ فَهِيَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ لِأَهْلِهَا الْتِفَاتٌ إلَى الْمَنْطِقِ إذْ لَيْسَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - الَّتِي هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ - وَأَفْضَلُهَا الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ : مَنْ كَانَ يَلْتَفِتُ إلَى الْمَنْطِقِ أَوْ يُعَرِّجُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُمْ فِي تَحْقِيقِ الْعُلُومِ وَكَمَالِهَا بِالْغَايَةِ الَّتِي لَا يُدْرِكُ أَحَدٌ شَأْوَهَا كَانُوا أَعْمَقَ النَّاسِ عِلْمًا وَأَقَلَّهُمْ تَكَلُّفًا وَأَبَرَّهُمْ قُلُوبًا . وَلَا يُوجَدُ لِغَيْرِهِمْ كَلَامٌ فِيمَا تَكَلَّمُوا فِيهِ إلَّا وَجَدْت بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمَ مِمَّا بَيْنَ الْقِدَمِ وَالْفَرَقِ بَلْ الَّذِي وَجَدْنَاهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي الْعُلُومِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ أَكْثَرُ النَّاسِ شَكًّا وَاضْطِرَابًا وَأَقَلُّهُمْ عِلْمًا وَتَحْقِيقًا وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ تَحْقِيقِ عِلْمٍ مَوْزُونٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ قَدْ يُحَقِّقُ شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ . فَذَلِكَ لِصِحَّةِ الْمَادَّةِ وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي يَنْظُرُ فِيهَا وَصِحَّةِ ذِهْنِهِ وَإِدْرَاكِهِ لَا لِأَجْلِ الْمَنْطِقِ . بَلْ إدْخَالُ صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ فِي الْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ يُطَوِّلُ الْعِبَارَةَ وَيُبْعِدُ الْإِشَارَةَ وَيَجْعَلُ الْقَرِيبَ مِنْ الْعِلْمِ بَعِيدًا وَالْيَسِيرَ مِنْهُ عَسِيرًا . وَلِهَذَا تَجِدُ مَنْ أَدْخَلَهُ فِي الْخِلَافِ وَالْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُفِدْ إلَّا كَثْرَةَ الْكَلَامِ وَالتَّشْقِيقِ ; مَعَ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ حَشْوِ الْكَلَامِ وَأَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ عَنْ طَرِيقَةِ ذَوِي الْأَحْلَامِ . نَعَمْ لَا يُنْكَرُ أَنَّ فِي الْمَنْطِقِ مَا قَدْ يَسْتَفِيدُ بِبَعْضِهِ مَنْ كَانَ فِي كُفْرٍ وَضَلَالٍ وَتَقْلِيدٍ مِمَّنْ نَشَأَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْجُهَّالِ كَعَوَامِّ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ فَأَوْرَثَهُمْ الْمَنْطِقُ تَرْكَ مَا عَلَيْهِ أُولَئِكَ مِنْ تِلْكَ الْعَقَائِدِ . وَلَكِنْ يَصِيرُ غَالِبُ هَؤُلَاءِ مُدَاهِنِينَ لِعَوَامِّهِمْ مُضِلِّينَ لَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ يَصِيرُونَ مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً لَا يُقِرُّونَ بِحَقِّ وَلَا بِبَاطِلِ بَلْ يَتْرُكُونَ الْحَقَّ كَمَا تَرَكُوا الْبَاطِلَ . فَأَذْكِيَاءُ طَوَائِفِ الضَّلَالِ إمَّا مُضَلِّلُونَ مُدَاهِنُونَ وَإِمَّا زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ لَا يَكَادُ يَخْلُو أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ هَذَيْنِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَنْطِقُ وَقَفَهُمْ عَلَى حَقٍّ يَهْتَدُونَ بِهِ : فَهَذَا لَا يَقَعُ بِالْمَنْطِقِ . فَفِي الْجُمْلَةِ : مَا يَحْصُلُ بِهِ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ شَحْذِ ذِهْنٍ أَوْ رُجُوعٍ عَنْ بَاطِلٍ أَوْ تَعْبِيرٍ عَنْ حَقٍّ : فَإِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي أَسْوَأِ حَالٍ لَا لِمَا فِي صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ مِنْ الْكَمَالِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ الْمُشْرِكَ إذَا تَمَجَّسَ وَالْمَجُوسِيَّ إذَا تَهَوَّدَ : حَسُنَتْ حَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا كَانَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ . لَكِنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ عُمْدَةً لِأَهْلِ الْحَقِّ الْمُبِينِ . وَهَذَا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهِ . بَلْ هَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنْ نَظَرَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا دِقَّةٌ وَلَهَا نَوْعُ إحَاطَةٍ كَمَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ . فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ لِأَهْلِهِ مِنْ التَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ وَالتَّقْسِيمِ وَالتَّحْدِيدِ مَا لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَنْطِقِ وَأَنَّ أَهْلَهُ يَتَكَلَّمُونَ فِي صُورَةِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ عَلَى أَكْمَلِ الْقَوَاعِدِ . فَالْمَعَانِي فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى وَضْعٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ قَوَالِبِهَا الَّتِي هِيَ الْأَلْفَاظُ فَإِنَّهَا تَتَنَوَّعُ فَمَتَى تَعَلَّمُوا أَكْمَلَ الصُّوَرِ وَالْقَوَالِبِ لِلْمَعَانِي مَعَ الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ كَانَ ذَلِكَ أَكْمَلَ وَأَنْفَعَ وَأَعْوَنَ عَلَى تَحْقِيقِ الْعُلُومِ مِنْ صِنَاعَةٍ اصْطِلَاحِيَّةٍ فِي أُمُورٍ فِطْرِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى اصْطِلَاحٍ خَاصٍّ . هَذَا لَعَمْرِي عَنْ مَنْفَعَتِهِ فِي سَائِرِ الْعُلُومِ .